أحوال الصحافة الأدبية العربية/ نبيل سليمان
منذ ثلاثينات القرن الماضي انضافت الصحافة الأدبية الإذاعية إلى الصحافة الأدبية الورقية المطبوعة التي كان عمرها قد ناهز السبعين سنة. وكما كانت تلك الإضافة بفضل الإذاعة، ستأتي إضافة جديدة بفضل التليفزيون منذ ستينات القرن الماضي، لتبرز الصحافة الأدبية المرئية منذ زمن الأبيض والأسود إلى زمن الفضائيات. ومنذ أشرقت شمس التواصل الاجتماعي ظهرت الصحافة الأدبية الألكترونية. والحديث عن الصحافة الأدبية العربية اليوم يعني إذن الحديث عن أربعة أنواع: الورقي، الإذاعي، المرئي، الألكتروني.
لنعكس المألوف في الحديث عن التطور، من الماضي إلى الحاضر، فنبدأ من آخر حلقات تطور الصحافة الأدبية: الصحافة الألكترونية: فقد أفسحت وسائل الاتصال الاجتماعي إلى مالا يحصيه عدّ ممن يتدافعون إلى الكتابة الأدبية. وهنا، كما في الكتابة الأنترنيتية بعامة، اختلط الحابل بالنابل، وهو ما شبهه سعيد بنگراد بالمزبلة، متابعاً فيه تشخيص أمبرتو إيكو لهذه الظاهرة التي تتذرع بحرية التعبير وبكسر أطواق النشر ونخبوية الكتابة.
بالطبع، أظهر طوفان الكتابة الأنترنتية مواهب كثيرة، وبخاصة في الشعر والسرديات القصيرة، مما لم يكن يتسع له صدر الصحافة الأدبية الورقية. أما في الرواية التفاعلية والنص الرقمي بعامة فالجدوى مازالت بالغة التواضع. والأهم أن السؤال بدأ يتردد، وإن يكن بجلجلة، عما إن كانت الصحافة الأدبية الألكترونية ترهص بجنس جديد من الكتابة الأدبية؟
من هذه الصحافة ما هو صفحات فيسبوكية أو مواقع لكتاب مكرسين. ومنها، وربما كان هو الأهم حالياً، ما هو مجلة أو جريدة الكترونية، لاتكاد تختلف عن نظيرتها الورقية في المواد أو الأسلوب.
في الصحافة المرئية: تعجل الإشارة إلى قنوات النيل الثقافية، والسعودية الثقافية، والعربي التي تفسح للصحافة الأدبية في أخبار الأنشطة والإصدارات وفي الحوارات. وتلك هي العناوين الثلاثة أيضاً لما قد تنعم به فضائية أو أخرى على الصحافة الأدبية، كأنما تفعل مكرهة، بلا نفس كما يقال في العامية. ويبدو في الفضائيات، كما في الصحافة الألكترونية، وكما في الصحافة الأدبية بعامة، كم هي مبهظة وطأة السياسة والعصبوية والإقصائية والديماغوجية والشللية، وبخاصة منذ بدأت الزلازل العربية سنة 2011. وعلى الرغم من ذلك ثمة ما يستحق التقدير، وفيه مثل للمأمول من الصحافة الأدبية المرئية، مثل برنامج (مع بروين) على قناة دبي وبرنامج (روافد) على قناة العربية، وبرنامج (عصير الكتب) على قناة العربي.
أما الصحافة الأدبية الإذاعية، فربما كانت كالورقية، أكبر برءاً من تلك الأدواء، وإن يكن نصيبها من البث محدوداً أيضاً. ويشتبك اللغوي بالأدبي في الصحافة الإذاعية، كما كان في برنامج (قول على قول) على إذاعة الـ B.B.C، أو برنامج (لغتنا الجميلة) لفاروق شوشة. ومن البرامج المميزة أذكر البرنامج الذي كان حنا مينه يقدمه في إذاعة دمشق عام 1970، وبرنامج (قصص على الهواء) الذي تنظمه مجلة العربي، بتعاون سابق مع الـ B.B.C، والآن مع إذاعة مونت كارلو. ويقتضي التنويه هنا بما تقوم به إذاعات شتى من إعداد مسرحيات أو روايات أو قصص لتكون مسلسلات أو تمثيليات إذاعية. وكذلك هو التنويه بحصة الشعر من الصحافة الإذاعية.
في الصحافة الورقية نحن أمام الصفحة الثقافية اليومية، أو شبه اليومية، في الجريدة، والملحق الأسبوعي للجريدة، والمجلة الشهرية أو الفصلية.
ولعل الترسيمة التالية أن تفي بموجز القول هنا:
1- للأدبي من هذه الصحافة نصيب يتنافس أحياناً مع الفنون. والأدبي يغلب أن يكون مراجعات في الصحف اليومية، أما النصوص الأدبية فيكبر حضورها في الملاحق والمجلات، وبخاصة في المجلات الأدبية المتخصصة.
2- يتقلص عدد الصفحات اليومية الثقافية باطّراد، ويتقلص بالتالي نصيب الأدبي فيها، حيث يتوالى التحول إلى الجريدة الألكترونية، أو يوقف الملحق الأسبوعي الثقافي الأدبي (مثل ملحق جريدة النهار وملحق جريدة المستقبل اللبنانيتان).
ومن المألوف أن يستولي الإعلان حين يتوفر على قدر أكبر فأكبر من الصفحة الثقافية.
3- غالباً ما تستباح المراجعات النقدية أو تُعامل باستخفاف أو كباب رزق، وهذا الأمر ليس وقفاً على الصحافة الورقية، بل قائم، بتفاوت، في شتى أنواع الصحافة الأدبية. ومعلوم في الصحافة الأدبية العالمية أن من يقوم بالمراجعة هم من كبار النقاد والأدباء والمتمرسين في الصحافة الأدبية، بينما الرائج في الصحافة الأدبية العربية أن المراجعة هي عمل صحفي من الدرجة الدنيا.
في عام 1980، وفي مقدمة كتابي (النقد الأدبي في سوريا) نقلت عن ترجمة إحسان عباس ومحمد يوسف لكتاب ستانلي هايمن (النقد الأدبي ومدارسه الحديثة – 1975) قوله في المراجعات: “وعلى حد النقد الأدبي من إحدى ناحيتيه تقع المراجعات، وعلى الناحية الأخرى منه يقوم علم الجمال”.
وأشير أيضاً إلى قول أحمد مطلوب في كتابه (النقد الأدبي الحديث في العراق – 1968): “وقد استمدت هذه الدراسة أصولها من الصحف التي كانت ميداناً حياً للنقد منذ مطلع هذا القرن {العشرين} وسجلاً حافلاً. ولولا الصحف لضاعت كثير من المعلومات واختفت بعض معالم النقد الحديث في العراق”.
وبالنسبة لي، لولا الصحف والمجلات منذ مطلع القرن العشرين إلى نهاية خمسينياته لما استطعت إنجاز كتابي (النقد الأدبي في سوريا – 1980).
4- تتوالى وتكبر خسارة الصحافة الأدبية الورقية بما يتوقف من كبريات المجلات التي ربت أجيالاً وأعلاماً.
5- وعلى الرغم من كل المعوقات المالية والتوزيعية والرقابية و… فلازالت مجلات أدبية أو ثقافية تفسح للأدبي، تنهض بالعبء، ومنها ما هو متخصص بالنقد الأدبي، مثل مجلة (فصول) القاهرية الحكومية، أو مجلة (علامات) الخاصة المغربية. ومنها ما يكون النقد الأدبي والدراسات الأدبية في مروحته الواسعة، مثل مجلة (عالم الفكر) الكويتية الحكومية، ومنها ما يفسح للنصوص الأدبية أيضاً، بالإضافة إلى النقد، مثل مجلة (نزوى) العمانية الحكومية. والملاحظ هنا أن أغلب المجلات حكومية.
***
ربما تبعث الفقرة الخامسة قدراً من التفاؤل، مقابل ما يبعث ما تقدمها من الغم والهم. لكن استحضار بعض العلامات الفارقة من ماضٍ قريب أو بعيد، قد يساعد، ليس فقط على إدراك ما نحن فيه، بل وعلى خطوة ما نحو المستقبل.
1) ففي فجر ما يسمّى بالنهضة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، كان للصحافة الأدبية حضورها المميز، سواء مستقلة، أم ضمن جريدة أو مجلة. وأشير بخاصة إلى ما كان من نشر الرواية المسلسلة منذ عام 1859 عندما نشرت جريدة (حديقة الأخبار) اللبنانية ما لعله الرواية العربية الأولى: (وي.. إذن لست بإفرنجي) لخليل الخوري. وسرعان ما جاء سليم البستاني بمجلته (الجنان) التي نشرت له ولغيره روايات مسلسلة رائدة كثيرة، منها للبستاني: (الهيام في جنان الشام – 1870) و(زنوبيا – 1871) و (أسماء – 1873) و (الهيام في فتوح الشام – 1874) وسواها. ولنعمان القساطلي نشرت مجلة (الجنان) روايته (مرشد وفتنة – 1880) و(أنيس – 1881). وتواصل ذلك حتى بات تقليداً مرموقاً، من أمثلته حلقات من رواية (أولاد حارتنا) في جريدة (الأهرام) قبل أن يوقف نشرها، ومنها رواية (الشمس في يوم غائم طويل) لحنا مينه في مجلة (روز اليوسف). لكن هذا التقليد أخذ يتلاشى. وفي أفضل حالاته صارت دورية مثل (أخبار الأدب) القاهرية، تكتفي بنشر فصل من رواية توشك على الصدور.
2) وكانت الصحافة الأدبية مسرحاً للمعارك الأدبية حول مختلف القضايا النقدية والفكرية، يشارك فيها سائر الكتّاب، من المكرسين إلى المبتدئين، وأحياناً يشارك القراء. وحسبي أن أذكر من طوفان ذلك معركة ديوان نزار قباني (قالت لي السمراء) على صدر مجلة (أصداء) الدمشقية عام 1946، والمعركة حول الواقعية على صدر مجلتي (النّقاد) الدمشقية و(الثقافة الوطنية) اللبنانية لعام 1955، وقد شارك في هذه المعركة محمد دكروب من لبنان وشوقي بغدادي من سوريا وعبد العظيم أنيس من مصر. وفي مجلات (الصباح) المصرية و(العالمان) و(الأنوار) الدمشقيتان دارت معركة كبرى وحامية عام 1945 حول ادعاء الكاتب السوري فؤاد الشايب أن توفيق الحكيم قد سطا على قصته (الشرق شرق) من مجموعته (تاريخ جرح)، وذلك في الرواية الشهيرة (عصفور من الشرق). ويمكن القول إن الضغط الأيديولوجي أو الحزبي أو السياسي على تلك المعارك الأدبية والنقدية لم يكن حاسماً أو مبهظاً بالقياس إلى ما سيلي مع صعود الأنظمة والتيارات الشمولية العقائدية، ولم تكن المعارك الأدبية، (تفسد للود قضية)، بينما تلت ذلك العصبوية حدّ الإقصاء.
هنا تلتمع ذكرى محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما المشترك (في الثقافة المصرية – 1954) والذي تجرأ فيه ذانك (الشابان) على السجال الحامي مع الشيوخ (طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني..). وقد كانت (المعارك) علامة فارقة في تاريخ محمود أمين العالم – ألم يكن كذلك صادق جلال العظم؟ – كما في كتاب (معارك فكرية) وكتاب (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر).
ولعل لي أن أشير أخيراً إلى كتاب (معارك ثقافية في سوريا – 1980)، وكنت قد ساهمت مع بوعلي ياسين ومحمد كامل الخطيب في كتابة مواده وإعداده.
وبالعودة إلى ما نحن فيه من أمر الصحافة الأدبية العربية، وبإرسال النظر أبعد وإن قليلاً، أرجو أن يكون من المفيد أن أدعو تحديداً، وببساطة، إلى:
* إعادة الاعتبار إلى الرواية المسلسلة في مختلف أنواع الصحافة الأدبية.
* وإلى الارتقاء بفن المراجعة في مختلف أنواع الصحافة الأدبية.
* كما أدعو إلى إثارة المعارك الأدبية والنقدية والثقافية بعامة، وإلى الارتقاء بها، على الأقل، إلى ما كانت عليه قبل عقود وعقود.
ضفة ثالثة