صفحات الرأي

أحوال الصمت المتعاقبة والمتغيّرة تؤلف تاريخاً/ ألان كوربان

 

 

طوال 15 عاماً اقترحت على طلابي، في إطار دراسات الدكتوراه، معالجة موضوع الصمت وتاريخه، ولم أوفق في الحصول على إجابة. وبقي المؤرخون، على خلاف الفلاسفة ونقاد الأدب، يتجنبون تناول الصمت. وهذا ما حملني على مباشرة عملي. وأنا منذ طفولتي شببت في حضن الصمت. فدراستي تلقيتها على أيدي مدرسين في مدارس دينية تحيط بها الغوطة النورماندية، وتعزلها عن العالم الخارجي.

والصمت على أصناف. فالصمت القوي والمطلق عرف أوجه في القرن السابع عشر، وهو صمت سلك الرهبان الحبساء، وتناولته كتابات ورسائل بوسييه ورانسيه. وتلته الرومنطيقية، والثورة (الفرنسية)، وغلبة الإحساس ومثال السمو العاطفي على روح العصر. وغيَّر هذا طبيعة الصمت منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. لكنه بقي أمراً جوهرياً، فهو شرط التركيز، ولا غنى للتأمل عنه، ولا عودة إلى النفس ولمخاطبتها ومحاورتها نفسها إلا من طريقه. ودقيقة الصمت (للتذكر أو الحداد أو التكريم…) مثال على ما تقدم. وهي قرينة على عدوى الصمت، على غرار عدوى الضحك. فالدقيقة خطوة أولى على طريق قد يطول. ولا أتناول في كتابي البوذيين، إلا أن أحدهم أسرَّ لي أنه اعتاد البقاء صامتاً 10 دقائق في الصباح، يصلح في أثنائها ذات البين مع نفسه.

ومواتاة بعض الأماكن الصمت هي كذلك على أنواع. فبعض الأماكن يستدعيه، وهذه حال مواضع الحياة الحميمة، مثل حجرة النوم التي لم يكتم بودلير، شأن بروست و(موريس) ماترلينك، متعة اللجوء إليها مساءً. ولا ريب، اليوم، في أن السكن المديني لا يحض على الخلوة، ولا يدعو إليها. وقد يكون هذا السبب في الحرص على تملك بيت ريفي، أو النزول في فنادق مراحل الصمت أو بناء أكواخ من الشجر. وهناك الأماكن التقليدية، الكنائس والأديرة التي ألهمت كتاب القرن التاسع عشر: بلزاك وويسمان وسينانكور (في رائعته «أوبرمان»). تزامن ذلك مع اكتشاف صمت الطبيعة، وخصوصية هذا الصمت، ائتلافه من نتف جلبات صغيرة.

وبعضهم يأخذ على هنري ديفيد ثورو، الكاتب الأميركي، داعية الرجوع إلى الطبيعة، مبالغته في قوله أن الصمت وحده جدير بالاستماع إليه أو حين يكتب أن الطحالب على الشجر مجبولة بالصمت والتواضع. وأنا لا أعد هذا في باب المبالغة. ففيكتور هوغو غير بعيد من مشاطرة الأميركي رأيه، ومعه الشعراء الذين تناولوا الليل، عصارة الصمت وتاجه. وعلى مر الزمن، منذ هوغو إلى الشعراء المعاصرين (رينيه شار وفيليب جاكوتيه وفرنسيس بونج وريدا وبونوا)، ثمة أحاسيس لا تعبير عنها إلا بواسطة الشعر، وهو مادة قلّما يعود إليها المؤرخون. ألم يكتب غوستاف فلوبير إلى (صاحبته) لويز كوليه، رغبته الملحة في التأريخ لمزقة عشب؟ أنا على يقين من أن علينا التفكير ملياً في الأشياء الضئيلة وغير المرئية تقريباً. وعلى شاكلة «النانو» أو النانو تكنولوجيا، أو علم المجهريات وتكنولوجياتها، ينبغي السعي في إنشاء «نانو – تأريخ».

والجبل من مواضع الصمت الأثيرة. وعمَّ الانتباه إليه أواخر القرن الثامن عشر، مع تعاظم مكانة ما لا يحاط به ولا يبلغ تراميه وحده. وزعم صاحب اللسانيات، فردينان دي سوسور، أن صمت ذرى الجبال لا يقارنه صمت آخر. ويسود الصحراء صمت معدني تناوله فرومونتان في كتابه البديع «صيف في الصحراء» (الكبرى الأفريقية). وهذا الصنف يقلب الأحاسيس رأساً على عقب، ويخلخل الحواس، ويقود رأساً إلى التعالي. ويختص صمت البحر بصفات تخصه، على ما نوّه كونراد وجول فيرن وميلفيل، فهو يحل بعد الجزر ويسدل على صفحته المياه حجاباً أسود… في مرآة اليأس وانقطاع الرجاء. وقد ينجم الهلع عن الصمت. وهذا ما كان يستبد بالناس في ليل الريف المعتم ، وما ليس في مقدور شباب يومنا اختباره. وخبرته أثناء خدمتي العسكرية في الجزائر بناحية سطيف. وفي قلب ليال من غير ضوء ولا قمر، كان الخوف يتملك الناس من الأشباح والذئب المفترس، ومن خيال أو طيف أو أي شيء…

وتعلّم الصمت، كانت الكنيسة البادئة به، وتعهدته أسلاك مثل الخطابيين أو الحواريين «oratorians» واليسوعيين في المدارس النابليونية وصفوف الجيش. ويرقى التزام الصمت، ومعرفة أوقاته المناسبة، إلى مجتمع البلاط الذي قام على إبطان المعايير والاقتصاد في الكلام، والإمساك والتحفظ. فمكالمة لويس الرابع عشر غير جائزة كيفما اتفق. واستأنفت آداب التهذيب وكتبها العامة قواعد حسن التصرف في مجتمع البلاط. وأُلزِم الأولاد واليافعون بالسكوت في حضور الأهل والمدعوين، وحول مائدة الطعام. ووالدي كان طبيب أرياف، وحين كان يزورنا مدعوون لم أكن أجرؤ على فتح فمي، أما اليوم فيدعى الأولاد في مثل هذه الحال إلى الكلام.

أواخر القرن الثامن عشر، ميّزت آداب المعاملة والسلوك الباريسية من أهل المحافظات، والنخب من الطبقات الشعبية. وغلبت معايير الامتياز والرهافة التي أُعملت في الشم، وأمْلَت صمت الحواس والجوارح: نهي الخاصة عن التجشؤ. وترى النخب أن العامة يصرخون ويتكلمون بنبرة عالية، ولا يهمسون. وبعض المعترفين على كرسي الاعتراف يرفع الصوت حين يدلي باعترافاته، فيحرج السامعين والمعرِّف جميعاً.

ومزارع القرن التاسع عشر (يقال إنه «صموت») يلزم الصمت على سبيل الحيلة أو «التكتيك»، ويتعمده تلافياً لكشف طويته، وأسراره العائلية، واحتراماً للسيد وصاحب الأرض. ويلزم الصمت، من جهة أخرى، على سبيل الاستراتيجية، حين يواجه القضاء أو تتجاذبه النزاعات السياسية. والمزارعون ليسوا طينة رخوة، وهم يقيسون أفعالهم على مصالحهم. وإلى 1848 وثورتها السياسية، كانت الاضطرابات الناجمة عن غلاء سعر الحنطة والطحين بالغة العنف الذي لم تتبدّد بعدُ آثاره.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تغير إدراك عتبة ما لا يطاق، من ضوضاء المدينة على سبيل المثل. فسكان المدينة لا يطيقون ضجيج أعمال البيطرة في أحواش الأبنية السكنية، ولا جلبة دواليب العربات على الطرق المعبدة، ولا طنين الأجراس أو نباح الكلاب في الشقق. ويلاحظ أن عدد الأجراس لم ينقص، لكنها لا تُسمَع ولا تصيخ لها الآذان السمع. واللافت أن الشخص الواحد يتقلب بين عتبات متفاوتة لما يطيق احتماله: فهو لا يطيق المحادثات بين الناس في الطائرة أو القطار (بينما كان واجباً، ومن باب التهذيب، التحدث إلى رفاق السفر العابرين)، لكنه يقصد ليلاً حانة تضج بالصخب. وصراخ الألم لم يعد مقبولاً، على خلاف حاله في الأمس، ولا تستثنى من إنكاره المستشفيات. وبينما كان الإعراب عن اللذة منكراً، تتلقفه التلفزة والإذاعات والإعلانات اليوم من غير حرج.

وحين يلتقي كائنان، و»يتناسخان من الجفون سطوراً» (ينظر واحدهما إلى الآخر)، لا يحتاجان إلى الكلام، ويقوم صمتهما محل تعاهدهما ويؤذن بدوام رابطتهما. ويقول ماتِرلينك أن هذا الصمت يساوي كل «أحبك» (قولاً) الممكنة. ويحسن التذكير بهذا حين لا ينفك الناس يتحادثون بواسطة الهواتف الخليوية. وقد ينقلب صمت الحب إلى صمت الكراهية الذي مثَّل عليه المخرج بيار غرانييه- ديفير في «الهر»، في أداء سيمون سينيوريه وجان غابان، أو الروائي فرانسوا مورياك في «تيريز ديكايرو». ويتجلى الوجه المأسوي للصمت في سؤال بعض المؤمنين والعرفانيين عن الصمت الذي خيم في جبل الزيتون، وعلى الجلجلة: «… لماذا تركتني؟ أناديك في النهار ولا تجيبني»، إزاء المصائب التي تهب على العالم. فكيف يرضخ لحرب 1914-1918 أو أوشفيتز أو غيرهما؟ (…).

وقد يكون صمت الطبيعة بقية الصمت الباقية، إلى صمت المعازل والعشاق. وفي الأحوال الأخرى، تجب مقاومة «التواصل» والمحفزات المتفرقة والكثيرة عليه، و(مقاومة) الخوف من الصمت أي الخوف من الوحدة. فالأولاد الذين يقضون حياتهم في ألعاب الفيديو ومشاهدة الشاشات لا يطيقون الصمت، ويحملونه على الضجر، بينما هو مرادف للخيال والحلم والرؤى.

* مؤرخ، أستاذ كرسي في السوربون، عن «اكســبريـــس» الفرنســـية، 30/3/2016، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى