أدونيس ورأس «أبو العلاء».. ورؤوس أخرى
عبد الله امين الحلاق
استنكار الشاعر والمثقف السوري المعروف أدونيس لقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في مدينة إدلب، والذي قطعـه متـشددون لاعتـبارهم المـعري «زنديقا» أو ظناً منـهم أنه «من أجـداد بشار الأسد»، يبدو استنكارا ناقصا في مقابل الجرائم البشعة التي تديرها آلة قتل النظام، وهي الجرائم التي تبدو حالات قطع رؤوس البشر أهزوجة أطفال مقارنةً بها، فكيف بالتماثيل!
لستُ معجباً بالمواقف المعلنة منذ بدء الثورة لمثقف كبير مثل أدونيس لا يقول الحقيقة علناً، أو يقولها مجتزأة، ويوارب في الكلام عن جرائم النظام وضرورة محاسبته، على الأقل أمام المؤرخين والمثقفين… علما انني لا زلت أرى في «الثابت والمتحول» بأجزائه الأربعة واحداً من الكتب التي أحدثت خلخلة إيجابية في الثقافة العربية في القرن العشرين، وفي نظرة العرب إلى تاريخهم الإسلامي شعرا ونثرا وفكرا وسياسةً. إلا أن كثيرا من المستهجِنين قول أدونيس ومواقفه مذ بدأت الثورة السورية، ومن بينهم مثقفون، لا يقفون على إرث أمثال المعري وباقي الملاحدة أو أنصار الفلسفة وعلم الكلام إلا لماما، ويرون عملية الانغلاق اللاهوتي التي تبَنيَنت في الإسلام على مدى قرون طويلة، مذ لوحق المعتزلة بموجب نص الاعتقاد القادري، لزوم ما لا يلزم، ويغضون النظر عمداً وعن سابق الإصرار والديماغوجية عن كل ما من شأنه ان يكون نذيرا بإعادة الناس إلى حظيرة نص الاعتقاد القادري ذاك، أو استحداث إحراق كتب ابن رشد في القرن العشرين، او حتى وضع اسم أدونيس على لوائح المطلوبين للجيش الحر، على ما تواترت الأخبار من ناشطين على «الفيسبوك» بعد مقابلته على قناة «فرانس 24».
والحال، ان نص الاعتقاد القادري وخنق الحريات الفكرية استُنسخت أسدياً منذ عام 1970، وبواجهة علمانية شكلية لا تحوز من العلمانية إلا اسمها. لكنّ الوقوف في وجه الاستبداد السياسي بشكله الأسدي لا يعني إغفال تاريخ مديد من الاستبداد الديني المنجدل مع الدين الإسلامي الذي لم يفعل مبضع الإصلاح فعله فيه بعد، والذي يجد في نصوص إسلامية مستندا ومبررا له لسحق المفكرين والمجددين على مذبح الدفاع عن الدين، وعلى يد الحاكم بأمر الله. هذه إشكالية وجدت مستقرا لها في سوريا بعد اندلاع ثورتها ضد طغيان الأسد، والمنصّب وريثا على عرش الجمهورية وحاكما «حداثيا» بأمر الله… أي حاكما تستوي مخالفته مخالفة لله تبعاً لمنطق الجبرية، وهو منطق إسلاميّ الأصل.
مثقفون سوريون آثروا الانحياز إلى نظام الأسد وهو يمعن تقتيلا وتنكيلا بالسوريين المطالبين بحياة عادية متوازية مع كونهم بشرا، فيما فضل مثقفون غيرهم الصمت. مرد ذلك أحيانا كان الخوف من وثوب التطرف الديني الإسلامي ليعتلي فرس الثورة ويخطفها، وهو ما حصل في الأشهر الأخيرة. أما بعض المثقفين السوريين الذين انحازوا إلى الثورة، وهو الموقف السليم والأخلاقي من حيث المبدأ، فقد سطحوا انفسهم وثابروا على بث روح التَّتــفيه والتقليل من شأن كل ظاهرة تكفيرية ودينية إقصائية في صفوف الثورة، علماً أن تلك الظاهرة كانت خطأ فرديا قبل عام وها هيَ تكاد تمسي بنية وعنوانا لكل معارضة ميدانية لنظام آل الأسد.
إذاك، ومع الإيمان العميق بعدم عقلانية الثورات وعدم رسوّها على شاطئ رغباتنا ورغبات الكثيرين، يبدو إدمان مثقفين سوريين على تسطيح ما يحدث من أسلمة للحراك مستسخَفا ومبتذلا ابتذالا لا يقابله إلا إدمان مثقفين سوريين غيرهم على تبرئة نظام الأسد من جرائمه وإيصاله البلد إلى ما وصل إليه.
زوال النظام الأسدي مسألة لا نقاش على ملحاحيتها وضرورة حصولها عاجلا. لا خلاف على ذلك، إلا مع من يرون زوال ذلك الطاغوت نهاية المطاف وليس بداية طريق تحرر طويل من الأصولية التكفيرية، تلك الأصولية التي ستعيد قطع رؤوس التماثيل والبشر، وإحراق الكتب، والاعتداء على المفكرين والمثـقفين الأحرار، وهو ما يبدو أيضا «مسألة فيها نظر» من وجهة نظر «مثقفين» شعبويين يتلطون بغطاء فكري غير رصين.
السفير