أردوغان وغولن: معركة سياسية بملفات قضائية
مركز الجزيرة للدراسات
ملخص
كانت العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن، منذ نجاح الحزب في انتخابات 2002 وتشكيله حكومته الأولى، محل تساؤلات. وبالرغم من أن أردوغان رأى العلاقة باعتبارها انعكاسًا طبيعيًا لسياسة حشد كافة القوى المحافظة خلف حزبه، فإن قيادات في الحزب رأت من البداية أن الصدام بين الطرفين ليس سوى مسألة وقت؛ إذ بينما يتمحور خطاب الجماعة حول ابتعادها عن السياسة، لم تخف قياداتها عزمها على لعب دور سياسي، ولا ترددت في سعيها للتواجد داخل أجهزة الدولة، وكان نفوذها هذا عونًا في السابق لأردوغان في حملته على التيار الكمالي المتوجد بالإدارة والجيش، لكن مع زوال هذا الخطر المشترك برزت الخلافات بين الحليفين على إدارة شؤون الدولة.
مقدمة
في غارات متزامنة من فجر يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2013، تحركت وحدات من البوليس التركي، بأوامر من أبرز وكلاء نيابة مدينة إسطنبول، زكريا أوز، للقبض على أكثر من خمسين شخصًا، بينهم رئيس بلدية فاتح، التابعة لإسطنبول الكبرى، وكذلك رئيس واحدة من أكبر شركات الإنشاءات في البلاد، وأبناء وزراء الداخلية والاقتصاد وشؤون البيئة، ورجل أعمال تركي من أصل أذربيجاني، ورئيس بنك خلق، المملوك للدولة وأحد أكبر بنوك تركيا. كان مشهد القبض على كل هؤلاء معًا مثيرًا للدهشة والقلق، بلا شك، ولكن الأكثر وقعًا كان الصلة المستبطنة بين القضية وحكومة العدالة والتنمية، التي لم تبن سجلها على إنجازها الاقتصادي الهائل في السنوات العشر الماضية وحسب، بل وعلى مكافحة الفساد أيضًا.
في 25 ديسمبر/كانون الأول 2013، أفادت تسريبات من مكتب وكيل نيابة آخر في إسطنبول، معمر أكاش، بصدور أوامر قبض واستدعاء أخرى، تتعلق بقضية فساد ثانية وتطول عشرات من كبار رجال الأعمال في البلاد وموظفي الدولة.
بين التاريخين، كانت قضية، أو قضايا، الفساد قد تحولت بالفعل إلى أزمة سياسية. صدرت قرارات حكومية بنقل عشرات من رجال شرطة إسطنبول من عملهم، بمن في ذلك قائد الشرطة، على خلفية من شبهات استغلال مراكزهم لخدمة أهداف سياسية، أو للإهمال. كما تدخل رئيس نيابة إسطنبول بصورة مباشرة، مصدرًا أوامره بإضافة وكيلي نيابة إضافيين للقضايا التي أثارها أوز، وبنقل ملفات القضية التي أطلقها أكاش إلى وكلاء نيابة آخرين، بعد أن تبين تورط أكاش بتسريب معلومات حول القضية لوسائل الإعلام.
تعيش تركيا منذ 17 ديسمبر/كانون الأول 2013 مناخًا من الأزمة السياسية والاقتصادية؛ فثمة إجماع على أن قضايا الفساد ليست سوى تعبير قانوني عن صراع متفاقم بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، ذي التوجهات الإسلامية المحافظة، وجماعة فتح الله غولن، الإسلامية المحافظة هي الأخرى. وقد أغرت قضايا الفساد أحزاب المعارضة بالمطالبة باستقالة رئيس الحكومة، الطيب رجب أردوغان، وتركت أجواء الأزمة أثرًا ملموسًا على الوضع الاقتصادي في البلاد، التي تعيش منذ سنوات حالة من الازدهار الاقتصادي غير مسبوق.
ما هي، إذن، حقيقة قضايا الفساد هذه؟ لماذا ينفجر الصراع بين العدالة والتنمية وجماعة غولن في هذه الفترة بالذات؟ وأي أثر يمكن أن تتركه هذه الأزمة على خارطة تركيا السياسية وعلى وضعها الاقتصادي؟
معركة سياسية بملفات قضائية
لم تكن القضية التي فجرها زكريا أوز في 17 ديسمبر/كانون الأول قضية واحدة، بل ثلاث قضايا منفصلة: الأولى، وتتعلق بمعاملات مالية بين رجل الأعمال الأذربيجاني-التركي وإيران، بمساعدة من بنك خلق؛ والثانية، تتعلق بادعاء وجود تسهيلات قدمها رئيس بلدية فاتح للمساعدة لبناء فندق فوق نفق مرمراي، الذي يربط بين جانبي المدينة الآسيوي والأوروبي تحت مضيق البوسفور، ويفترض أنه يهدد أمن النفق؛ أما الثالثة، فتتصل بعدد من المناقصات التي طرحتها الدولة، ويُدّعى أن كبار رجال الدولة والحكم قدموا تسهيلات لحصول شركات معينة عليها.
ضم القضايا الثلاث في حدث واحد، وما تطلبته هذه القضايا من استدعاء أكثر من خمسين شخصًا، بصورة درامية، للتحقيق، قُصد به الصورة أكثر من الفعل، والأثر السياسي أكثر من الضرورات القضائية. كما اتضح أن التحقيق في القضايا بدأ في أوقات مختلفة، وانتهى أيضًا في أوقات مختلفة، ليبدأ الإعلان عن القضايا وإطلاق عملية القبض والتحقيق في وقت واحد. خلال اليومين التاليين، استمرت إجراءات القبض والاستدعاء للتحقيق، ليصل عدد المشتبه بهم 66 شخصًا. ولكن هناك ما هو أكثر مدعاة للحيرة؛ إذ سرعان ما اتضح أن وكيل النيابة المسؤول أمر رجال الشرطة بالتنصت على المشتبه بهم، وعلى زوجاتهم أيضًا في بعض الحالات، طوال أكثر من عشرة شهور، بدون أن يقوم رجال الشرطة الذين نفذوا عملية التصنت بإبلاغ رؤسائهم المباشرين؛ وأن عناصر شرطية معينة تعهدت عمليات تنصت واسعة النطاق في البلاد، طالت شخصيات حزبية وحكومية ومقار أحزاب ورجال أعمال.
سرعان ما احتلت القضية الصفحات الأولى من وسائل الإعلام المعارضة، التي تطوعت جميعها لنشر كل أصناف التسريبات من ملفات القضية، والإيحاء بأن الاتهامات تطول أربعة وزراء من حكومة أردوغان. زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، وفي استباق حتى لمؤشرات التحقيق الأولية، طالب باستقالة الحكومة.
في أول رد فعل لحكومة أردوغان، تحدث نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش بوضوح حول دعم الحكومة لمؤسسة القضاء، وسياسة مكافحة الفساد بكل صوره، وألمح أرينتش إلى أمله، في حال استدعاء أي من الوزراء للتحقيق، أن يقوم الوزير المستدعى بالاستقالة من الحكومة والدفاع عن نفسه باستقلال عن منصبه الحكومي. ولكن أرينتش لم يخف دهشته من الطريقة التي تم فيها جمع القضايا معًا، ومن حجم عملية التنصت، ومن محاولة البعض إدانة جميع المشتبه، وغير المشتبه، فيهم، قبل أن تتضح نتائج التحقيق وتصل المحاكمة إلى نهايتها.
في اليوم التالي، 18 ديسمبر/كانون الأول 2013، أدلى أردوغان شخصيًا بأول تعليق له حول القضية، أثناء مؤتمر صحافي عقده بصحبة رئيس الوزراء الهنغاري الزائر. قال أردوغان بلغة واضحة: إن مكافحة الفساد كانت على الدوام ركنًا رئيسًا من سياسات حكومته، وإن الحكومة لم يكن لها أن تحقق للبلاد مثل هذه الإنجازات لولا وقوفها ضد ميراث كبير وواسع من الفساد الذي ورثته من حكومات سابقة، وإنه، بالرغم من ذلك، يرى أيدي خارجية ووكلاء داخليين في القضية، وإن حكومته عازمة على وضع نهاية لنفوذ الجماعات السرية التي تتستر بعباءة الدولة. لم يشر أردوغان إلى جماعة فتح الله غولن بالاسم، ولا إلى علاقة وكيل النيابة المسؤول زكريا أوز بجماعة غولن، وهي العلاقة المعروفة في الأوساط السياسية والقضائية، ولا فعل أي من مسؤولي حزبه وحكومته، ولكن أحدًا لم يساوره الشك في أن رئيس الوزراء كان يقصد جماعة غولن.
بعد ذلك، أطلق وكيل النيابة معمر أكاش، المعروف أيضًا بقربه من جماعة غولن، القضية الثانية في وسائل الإعلام، قبل أن يبلغ بها مكتب نائب إسطنبول العام. ولأن الحكومة كانت قد اتخذت جملة إجراءات لنقل عشرات من مسؤولي وضباط شرطة إسطنبول، المعروفين بعلاقتهم بجماعة غولن، ونقل قائد شرطة إسطنبول لتقصيره في القيام بواجبه في مراقبة ومتابعة ما يجري في دائرته، لم يستطع أكاش تنفيذ أوامر القبض والإحضار التي كان يفترض أن تشمل عشرات من كبار رجال الأعمال في البلاد، وتتسبب في حالة انهيار مالي واقتصادي. ونظرًا لمخالفة أكاش قواعد عمل النيابة باللجوء إلى الإعلام، قام رئيس نيابة إسطنبول بنقل ملفات القضية إلى ثلاثة وكلاء نيابة آخرين، على أن يتخذوا قراراتهم بأغلبية الأصوات.
خلال الأيام التالية لانطلاق ملف الفساد، كان معظم من استُدعوا للتحقيق قد أُفرج عنهم؛ بعضهم لعدم وجود أدلة تستدعي تحويلهم للمحاكمة، وآخرون انتظارًا لموعد المحاكمة. وفي تصريحات لافتة، قال رجل الأعمال -أذربيجاني الأصل-: إن القانون لا يضع رسومًا على استيراد الذهب إلى تركيا، وإنه لم يحتجْ مطلقًا لتدخل وزراء أو موظفي دولة لمساعدته، لأن تجارته لا تستدعي مثل هذه المساعدة؛ على العكس، ادعى أن مسؤولين بجهاز الشرطة سبق وأن طلبوا منه رشاوى مالية، وأنه سجل مقابلته معهم وسلّم التسجيلات للمحققين من وكلاء النيابة. ويقول محام بارز عن بعض رجال الأعمال المتهمين، على اطلاع على أوراق القضية: إن معظم الأدلة في القضية هشة، وإن بعضها جُمع في ظروف مشبوهة.
جماعة غولن: قصة النفوذ
لشهور طوال قبل انفجار قضية الفساد، ازدحمت الصحف ووسائل الإعلام التركية الأخرى بتعليقات حول التوتر المتصاعد بين جماعة غولن وحكومة العدالة والتنمية، ولأن كلاً من وكيلي النيابة أوز وأكاش، وأغلب رجال الشرطة الرئيسيين الذين نفذوا أوامرهما بسرية بالغة، معروفون بقربهم من الجماعة، أو تعاطفهم معها، لأنها ذات النفوذ الكبير في أوساط النيابة والقضاء والشرطة، تلعب علاقة حكومة العدالة والتنمية بالجماعة دورًا رئيسًا في الأزمة.
تعود جماعة غولن في أصولها إلى تيار النورسية الديني، الذي وُلد من مقاومة رجل الدين، ذي الخلفية الصوفية النقشبندية، سعيد النورسي (1896–1960)، للسياسات المعادية للإسلام، التي تبنتها الدولة الجمهورية في عقودها الأولى. خلال سنوات من وفاة النورسي، تفرق أتباعه إلى عدد من الجماعات والجمعيات والمؤسسات الثقافية؛ جماعة محمد فتح الله غولن (وُلد 1941)، إمام المسجد السابق، هي إحداها؛ ولكن غولن، باتساع نشاطات الجماعة ونفوذها، أصبح أكثر حرصًا على الابتعاد عن أصوله النورسية منه إلى توكيد هذه الأصول.
بدأ غولن نشاطه بعد انقلاب 1980، الذي استهدف بصورة أساسية قوى الإسلام السياسي واليسار؛ ولكن، ولأنه وأتباعه ادعوا دائمًا الابتعاد عن العمل السياسي وحصر نشاطاتهم في المجال الديني والخيري، تُركت لهم حرية نسبية للعمل. في التسعينيات، أخذت الجماعة تثير قلق السلطات ودوائر الدولة المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، سيما بعد اكتشاف شريط لقاء جمع غولن ببعض من أتباعه المقربين، صرح فيه بأن هدفه تغيير الحكم في تركيا تدريجيًا من العلمانية للإسلام. في 1999، وظنًا بأن الدولة توشك على توجيه اتهامات ما له، غادر غولن البلاد إلى الولايات المتحدة، التي لم يزل يقيم فيها إلى اليوم. وتبدو سيطرة فتح الله غولن، الذي يراه كوادر الجماعة ملهَمًا وشبه معصوم، من منزله في بنسلفانيا، تبدو مطلقة على قرار الجماعة.
لم يكن ثمة ود بين غولن وحزب الرفاه، الذي كان يقوده نجم الدين أربكان، والذي يعتبر الحاضنة الأولى لمجموعة الشبان التي أسست حزب العدالة والتنمية في 2001، ولكن ثمة مصلحة مشتركة بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية في إزاحة التيار الكمالي من الدولة التركية جعلتهما يتعاونان، قبل انتخابات 2002، على أن تؤيد الجماعة وأنصارها الحزب في الانتخابات، مقابل أن يُفسَح لها مجال العمل والنشاط إن وصل العدالة والتنمية إلى الحكم. المهم، أن الجماعة أظهرت طوال سنوات تأييدها للعدالة والتنمية، وأفادت بالفعل من مناخ الحريات وتوقف الدولة عن ملاحقة الإسلاميين، واتسع بالتالي نشاطها التعليمي والخيري، بل وفي مجالات المال والأعمال، داخل تركيا وخارجها، بصورة ملموسة.
في مايو/أيار 2010، بعد حادثة السفينة التركية مرمرة، التي هاجمها الإسرائيليون وهي في طريقها لقطاع غزة، أدانت الجماعة سياسة حكومة العدالة والتنمية، وحملت مسؤولية ما وقع على أردوغان، وتعتبره هو من سعى للصدام، وهو موقف اعتبره أنصار حزب العدالة والتنمية مؤيدًا لإسرائيل. في فبراير/شباط 2012، أرسل أحد وكلاء نيابة إسطنبول، الذي يعد مقربًا من جماعة غولن، استدعاء لمدير الاستخبارات التركية، د. حقان فيدان، المعروف بقربه من رئيس الحكومة، للشهادة في قضية تتعلق بلقاء سري عقده في النرويج مع وفد حزب العمال الكردستاني. يُصنّف حزب العمال في تركيا باعتباره مجموعة إرهابية، ولكن اللقاء عُقد أصلاً بأمر من رئيس الحكومة وتعلق ببداية عملية السلام وحل المشكلة الكردية؛ وقد تناقل أنصار حزب العدالة والتنمية رواية تفيد أن الإسرائيليين تجسسوا على اللقاء، ثم سربوا الشريط لجماعة غولن، بهدف الإضرار بفيدان ورئيس حكومته، وأن استدعاء فيدان للشهادة كان سينتهي بصدور أمر باعتقاله.
انفجرت القضية وأردوغان تحت عملية جراحية، وبمجرد خروجه من المستشفى تحرك لتغيير القانون الذي ينظم عمل منظمة الاستخبارات؛ مما ساعد على إغلاق ملف القضية، ولكن الحادثة حملت مؤشرًا بالغ الدلالة؛ فقد بدا، على الأقل من وجهة نظر بعض المعلقين الأتراك، أن الافتراق بين غولن وحكومة العدالة والتنمية في اتساع، وأن الجماعة، ظنًا بأنها أصبحت قوة كبيرة في البلاد، تريد فرض نوع من الوصاية على رئيس الحكومة القوي.
خلال نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2013، اندلعت أزمة أخرى في العلاقة بين الطرفين، عندما أعلنت الحكومة عن نيتها معالجة وضع مدارس الإعداد لامتحان دخول الجامعات، التي تعمل في عطلة نهاية الأسبوع ولا تتمتع بصفة المدارس الخاصة. تتحكم جماعة غولن بقطاع واسع من هذه المدارس، وبالإضافة إلى إيراداتها المالية الكبيرة، تعتبر المدارس ساحة مركزية مبكرة لنشاط جماعة غولن. عارض غولن سياسة الحكومة تجاه المدارس، وتعهدت وسائل الإعلام التابعة له حملة واسعة وعالية النبرة ضد أردوغان وحكومته، كما أعلنت دوائر مقربة من غولن أن الجماعة لن تعطي صوتها منذ اليوم للعدالة والتنمية في أية انتخابات قادمة.
ولم تكد عاصفة مدارس الإعداد تهدأ قليلاً حتى انفجر ملف الفساد، بيد أن ثمة بعدًا آخر للقضية؛ حيث إن حدوثها تزامن مع حملة متصاعدة شنتها في واشنطن منظمة الضغط وثيقة الصلة بالليكود الإسرائيلي، الإيباك، وعدد من رجال الكونغرس المقربين منها، تتهم تركيا بتوفير تسهيلات للتجارة الإيرانية. وقد برز بنك خلق باعتباره إحدى المؤسسات التركية المستهدفة من هذه الحملة.
وقد ساهمت كل هذه العوامل والتفسيرات في تقوية عوامل الحذر بين حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن؛ فزادت هوة الخلاف بينهما اتساعًا، ولكن مأخذ أوساط المؤيدين لحكومة العدالة والتنمية الرئيسي على جماعة غولن يتعلق بالشأن الداخلي، فهم يعتقدون أن جماعة غولن تريد أن تكون شريكًا رئيسًا في قرار الدولة، بدون أن تشكّل حزبًا سياسيًا وتطرح برنامجًا وتصبح في موقع المحاسبة من الشعب والرأي العام. أحد الأمثلة على طريقة غولن في ممارسة السياسة كان سعي الجماعة قبل ثلاثة أعوام لتولية أحد أنصارها قيادة جهاز الاستخبارات القوي؛ وهو الأمر الذي رفضه أردوغان.
وتقول هذه الأوساط أيضًا: إن الخلاف بين الطرفين يشمل اعتراض جماعة غولن على مشروع حل المسألة الكردية الذي تتعهده حكومة أردوغان منذ أكثر من عامين، والفتور المستمر في علاقة تركيا مع إسرائيل، وسياسة التعاون مع إيران، والتقارب بين تركيا العدالة والتنمية والتيار الإسلامي العام في العالم العربي.
يشير هؤلاء، إضافة إلى ذلك، إلى أن تفاقم التوتر بين الجماعة والعدالة والتنمية يتعلق بتصور لدى الجماعة بأن مستقبلها بات مرتبطًا بالإطاحة بأردوغان من قيادة الحزب ورئاسة الحكومة؛ مما سيجعل الحزب أسلس في التعامل معها. ولأن من المفترض أن أردوغان سيترشح لرئاسة الجمهورية في صيف هذا العام، فهذه هي الفرصة الوحيدة لإخراجه من الساحة السياسية، نظرًا لأن موقع رئاسة الجمهورية هو تقليديًا فوق الصراعات السياسية.
في الجهة المقابلة تنفي الجماعة انخراطها في العمل السياسي وتخطيطها لاختراق مفاصل الدولة التركية، وتقول بأنها كونت آلاف من الأتراك في مدارسها، وترقوا سلم المسؤوليات بفضل كفاءاتهم وجدارتهم. ويضيف المراقبون تفسيرا للخلاف بين أردوغان وغولن، فجماعة غولن تتحرك بنشاطها على المستوى الدولي وتبحث عن التعاطف الخارجي فهي تميل إلى الابتعاد عن المواقف الصدامية، فلذلك إبتعدت عن بعض سياسات أردوغان حتى لا تحسب عليها وتقع في عزلة خارجية.
آثار سياسية واقتصادية
خلال الأسابيع التالية لانفجار القضية قامت الحكومة بنقل المئات من مسؤولي دوائر البوليس، الذين تدور حولهم شبهات الانتماء لجماعة غولن من مواقعهم؛ وليس من الواضح بعد ما إن كانت حملة التطهير ستطول وكلاء نيابة وقضاة في المستقبل، ولكن المرجح أن حكومة أردوغان بصدد إجراء تعديلات على تركيب مجلس القضاء الأعلى، بما يجعله أقل عرضة للضغوط السياسية، وعلى صلاحيات مجلس الدولة (الهيئة القضائية التي تعالج المنازعات بين المواطنين والدولة)، لتحد من السلطات التي تمنحه حق الاعتراض على التشريعات البرلمانية. إن نجحت الحكومة في إقرار هذين التعديلين، فمن المتوقع أن تطول حملة التطهير كلاً من القضاء والنيابة كذلك.
ضمن الآثار السياسية للأزمة، أيضًا، كان التعديل الوزاري، الذي أجراه أردوغان يوم 25 ديسمبر/كانون الأول 2014، وطال عشرة وزراء دفعة واحدة. ومن المعروف أن أردوغان كان بصدد إجراء تعديل على حكومته في نهاية العام، وقبل أن تندلع الأزمة، ولكن وجود أبناء وزراء ضمن المتهمين بقضية الفساد جعل التعديل أوسع نطاقًا. بذلك حرر أردوغان حكومته من تهم التستر على مشتبهين، وجعل الوزراء الثلاثة محل الجدل أكثر حرية في الدفاع عن أنفسهم. ما لفت الانتباه، كان تعيين إفكان علاء، سكرتير مجلس الوزراء وأحد أقرب موظفي الدولة لرئيس الوزراء، في منصب وزير الداخلية. علاء موظف دولة أصلاً وليس عضوًا في البرلمان، ويعتبر من أكثر مساعدي أردوغان دراية بجهاز الحكم والدولة. ويعتبر تعيين علاء، المعروف بصلابته، وزيرًا للداخلية مؤشرًا على عزم أردوغان على تطهير الوزارة من التنظيمات السرية.
بيد أن السؤال الأبرز في البعد السياسي للأزمة، يتعلق بالآثار التي سيتركها كسر الجسور بين العدالة والتنمية والجماعة، من جهة، وقضية الفساد، من جهة أخرى، على حظوظ العدالة والتنمية الانتخابية، سيما في الانتخابات المحلية المقررة في نهاية مارس/آذار المقبل 2014. الحقيقة، أن ثمة مبالغة كبيرة في حجم جماعة غولن الانتخابي، ساهمت هي نفسها في صناعته؛ فأغلب التقديرات يشير إلى أن الوزن الانتخابي الكلي للجماعة لا يزيد عن 2 بالمائة، وأن ليس جميع العاملين في مؤسسات الجماعة والمتعاطفين معها سيلتزم التزامًا قاطعًا بالتوجيهات الانتخابية لقيادتها، سيما إن قررت الجماعة التصويت لحزب الشعب الجمهوري، الذي تعتبره قاعدتها المحافظة حزبًا معاديًا لهوية الشعب الإسلامية. من جهة أخرى، ينتشر أنصار الجماعة في كافة أنحاء البلاد، وهو ما يجعل تأثيرهم في كل دائرة انتخابية على حدة غير ذي أثر، إلا في حالات التنافس الضيق بين المرشحين.
بيد أن من غير المستبعد أن تترك قضية الفساد، والضجيج الذي أحدثته، بعضًا من التأثير. للعدالة والتنمية سجل كبير في مكافحة الفساد والنهوض الاقتصادي وتحرير تركيا من الديون الخارجية، كما أن تمحور دفاع الحكومة حول فكرة وجود دولة داخل الدولة يجد استجابة ملموسة لدى عموم الشعب، ولكن من الضروري أن يمر بعض الوقت قبل أن تستقر آراء الناخبين ويصبح من الممكن قياس الأثر السلبي للقضية، أو مدى نجاح خطاب العدالة والتنمية الدفاعي. الواضح حتى الآن من عدد من استطلاعات الرأي، التي أُجريت في الأسابيع القليلة الماضية، أن حظ العدالة والتنمية من الكتلة الانتخابية لم يزل أعلى من 45 بالمائة، وهي النسبة التي تؤهله للفوز في الانتخابات المحلية إن استطاع الحفاظ عليها خلال الأشهر الثلاثة القادمة.
اقتصاديًا وماليًا، ما كان لقضية فساد بهذا الحجم وأزمة سياسية بهذا الدوي أن تمر بلا عواقب، سيما بعد أن صدرت قرارات قضائية بتجميد أرصدة عدد من رجال الأعمال البارزين. مع نهاية ديسمبر/كانون الأول 2012، كانت الليرة التركية فقدت زهاء 10 بالمائة من قيمتها مقابل الدولار، وقدرت مصادر حكومية حجم خسائر الناتج القومي بـ 100 مليار دولار. خلال الأيام الأولى من يناير/كانون الثاني 2014، أظهرت الليرة وسوق المال التركية تماسكًا نسبيًا، سيما بعد أن اتضح أن الأزمة لن تنجح في الإطاحة بالحكومة وأن أردوغان بصدد اتخاذ إجراءات جذرية للتعامل مع الاضطراب في مؤسسة الدولة.
تركيا إلى أين؟
كانت العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن، منذ نجاح الحزب في انتخابات 2002 وتشكيله حكومته الأولى، محل تساؤلات. وبالرغم من أن أردوغان رأى العلاقة باعتبارها انعكاسًا طبيعيًا لسياسة حشد كافة القوى المحافظة خلف حزبه، فإن قيادات في الحزب رأت من البداية أن الصدام بين الطرفين ليس سوى مسألة وقت؛ إذ بينما يتمحور خطاب الجماعة حول ابتعادها عن السياسة، لم تخف قياداتها عزمها على لعب دور سياسي، ولا ترددت في سعيها للتواجد داخل أجهزة الدولة، وكان نفوذها هذا عونًا في السابق لأردوغان في حملته على التيار الكمالي المتوجد بالإدارة والجيش، لكن مع زوال هذا الخطر المشترك برزت الخلافات بين الحليفين على إدارة شؤون الدولة.
بيد أن الواضح، بعد مرور زهاء الأسابيع الثلاثة على اندلاع الأزمة، أن التوقعات بانهيار حكومة العدالة والتنمية كان مبالغًا فيها إلى حد كبير. هناك أصل لقضية الفساد، على الأرجح، ولابد في النهاية من انتظار كلمة القضاء في المتهمين، ولكن تضخيم القضية، إخراجًا وإعلامًا، يشي بأن ثمة إرادة أو مخططًا سياسيًا يقف خلفها. وبينما لا يوجد خلاف كبير حول ضلوع جماعة فتح الله غولن في مسعى للإطاحة بأردوغان؛ فالواضح أن الجماعة أساءت تقدير قدراتها، ولم تقرأ قدرات أردوغان جيدًا الذي أظهر خلال السنوات العشر الماضية سمات قتالية لا يستهان بها، ومن الصعب أن تتغلب عليه بعد أن واجه سيطرة الجيش وشبكات المنظمات السرية والبيروقراطية الكمالية على الدولة طوال عشر سنوات.
خلال الشهور القليلة القادمة، سينجح أردوغان، على الأرجح، في اقتلاع النفوذ السري للجماعة في أجهزة الشرطة والنيابة. تشي الإجراءات التي اتخذها حتى الآن بعزمه على إنجاز هذا الهدف، بالرغم من رسائل المصالحة التي أرسلها فتح الله غولن لرئيس الحكومة مؤخرًا. مظاهر التأييد لأردوغان في أوساط حزبه، وفي دوائر أنصار الحزب الشعبية التقليدية، لا يتطرق إليها الشك، ولكن من المبكر، ربما، التنبؤ بالأثر الانتخابي لقضية الفساد وذيولها السياسية. الأرجح، أن العدالة والتنمية سيحقق فوزًا في الانتخابات المحلية القادمة، لن يقل كثيرًا عن الفوز الذي حققه في سابقتها قبل أربع سنوات، ولكن استمرار أجواء الأزمة سيطرح على الحزب وعلى زعيمه، وبصورة جدية، سؤال ما إن كان من الأفضل أن يحافظ أردوغان على قوانين الحزب كما هي، ويتخلى بالتالي عن منصبه ويخوض انتخابات رئاسة الجمهورية في الصيف المقبل، أو أن يعمل على تغيير لائحة الحزب الداخلية، التي لا تسمح بالترشح للبرلمان أكثر من ثلاث مرات متتالية، ويدعو لانتخابات مبكرة في الخريف المقبل.