أرسم بيتاً لي ولأمي../ محمد الخطيب
حلب
غير بعيد عن خطوط التماس في حي المشهد الحلبي، تلعب الطفلة حلا ذات الـ11 ربيعاً، بـ”المرجوحة” في نادٍ للإيتام، ويبدو أنها مستغرقة باللعب مع رفاقها، لدرجة أنها لم تعر انتباهاً لأصوات الانفجارات القادمة من جبهة القتال، التي تُسمع بين الحين والآخر.
حلا فقدت والدها قبل نحو عام ونصف، عندما سقطت قذيفة مدفعية بالقرب منه، ومنذ ذلك الحين تقطن عند خالها، مع أمها وأخيها الأصغر. تقول حلا: “أحب المجيء إلى هذا النادي، لأنني أقضي وقتاً ممتعاً هنا، فلم يعد هنالك حدائق لألعب فيها”.
ولحسن حظّ حلا فإنّ هنالك من يعيلها ويرعاها، في حين أنّ أطفالاً آخرين لا يجدون من يقدم الرعاية لهم، فاضطروا للتسول أو العمل لساعات طويلة في ظلّ انتشار الفقر والبطالة.
تضيف الطفلة بالقول: “لقد حرمتنا الحرب العديد من الأشياء، لقد استشهد والدي ولم يعد بإمكاننا العيش في منزلنا بعد أنّ تدمر”، تتابع حديثها وهي تحرك أصابع يدها بأسى:”أتمنى أنّ أعود لحارتي، وألعب مع الأطفال هناك، لكن معظمهم قد رحلوا”.
إلى هذا النادي، الذي تشرف عليه مؤسسة “غراس”، يتوافد يومياً عشرات الأطفال، ويسعى القائمون عليه إلى توفير الرعاية والدعم النفسي للأطفال اليتامى الذين خلفتهم الحرب المشتعلة في البلاد منذ ثلاث سنوات. يقول نائب مدير المؤسسة علي حمدي، لـ”المدن”: “نهدف إلى استقطاب الأطفال الذين فقدوا آبائهم خلال الحرب للإشراف على تربيتهم، من خلال تأمين مكان محبب إليهم قد يكون أكثر أمناً من المنزل”.
وبالرغم من أنّ المؤسسة قد أوقفت نشاطاتها لنحو خمسة أشهر، بين نيسان/أبريل حتى أيلول/سبتمبر، بسبب حملة القصف بالبراميل المتفجرة التي يشنها النظام على الأحياء الخارجة عن سيطرته في المدينة، إلا أنّ حمدي يعتبر المكان الجديد لنادي الأيتام “آمناً نسبياً”، بحسب وصفه.
ففي قبو إحدى البنايات، أقامت المؤسسة ناديها المخصص للأطفال، ما يجعله محصناً من القذائف الطائشة التي قد تطاله، كما أنّ قربه من جبهة القتال، يقلل من احتمالات استهدافه بالبراميل المتفجرة. ويحتوي النادي على أقسام ترفيهية وتعليمية، وبينما تعلو أصوات الأطفال من الروضة وهم يرددون حروف اللغة العربية، يتلقى آخرون دروساً في الرسم والخط، وتشرف مدرّبة على مجموعة من الأطفال يتشاركون مع بعضهم في رسم إحدى اللوحات الكبيرة.
خلال الجولة في أقسام النادي، حدثنا حمدي، أن هنالك أربعة آلاف عائلة في حلب، فقدت معيلها، خلال الحرب الدائرة، وقال: “كرقم وسطي، هنالك ثلاثة أطفال في كل عائلة، بالتالي فإن عدد الأطفال الذي فقدوا من يعيلهم في المدينة يفوق 12 ألفاً”. وأضاف: “نقوم في مؤسسة غراس بكفالة 1200 طفل يتيم الأب، ويتم تقديم مبلغ 50 دولار ككفالة شهرية لكل منهم”.
ليست مؤسسة غراس الوحيدة التي تقدم الدعم لليتامى في حلب، فهناك جمعية فسحة أمل، ومؤسسة مسرات، وجمعية السلام، ومنظمات أخرى، إلا أنهم جميعاً يتشاركون في قاعدة بيانات واحدة، ضمن ما يسمى “لجنة رعاية الأيتام”. أخبرنا حمدي أنّ المجموع الكلي للأطفال اليتامى الذين حصلوا على الكفالة من جميع المؤسسات هو 3200 طفل.
غير أنّ هذه المؤسسات تجد نفسها عاجزة عن تقديم الرعاية لتسعة آلاف يتيم آخر ممن فقدوا آبائهم، وإنّ العجز المالي يعتبر من أبرز أسباب ذلك. وفي هذا الشأن يقول حمدي: “ينبغي أن يكون مبلغ الكفالة الشهرية المقدم أكبر مما هو عليه الآن، فقد قمنا بتخفيضه ليكفي مزيداً من الأسر”. وأضاف “نحن عاجزون في الوقت الراهن عن كفالة جميع الأيتام، إنه رقم كبير وأخشى أنّ الحرب المستمرة ستخلف المزيد من الأيتام”. ويجري اختيار الأيتام الذي يحظون بالرعاية، من خلال عدة معايير؛ حسب الوضع المالي للأسرة وعدد أفرادها، كما أنّ العائلات التي لا تملك منزلاً توضع على رأس الأولويات، ويأخذ بعين الاعتبار أيضاً وجود مُعيل للعائلة من الأبناء أو الأقارب.
في صالة مخصصة للرياضة، يتلقى الأطفال فوق سنّ العاشرة، تدريبات على رياضة “الكونغ فو”، ويقول لكابتن سعيد: “الأولاد يفضلون المجيء للنادي لأنه يجمع بين التسلية والتعلم، في النهاية ما نهدف إليه هو إخراج الأطفال من جوّ الحرب”. أما في الصالة المقابلة، تتعلم مجموعة من الفتيات فنون الطبخ، وفي كل يوم يتشاركون بإعداد إحدى المأكولات الحلبية المشهورة.
كما يتلقى الأطفال دروساً في استخدام الحاسوب، حيث يتم تقسيمهم إلى فئات، وكل فئة تتلقى دروساً بحسب مستواها العمري، ويشرف الاستاذ صفوان بطش على الطلاب، ويقول: “إحدى أهم أولوياتنا تعليم الأطفال على استخدام الحاسوب، في البداية نعلمهم على الرسم، ليتعودوا على استخدام الفأرة، ثم نتدرج معهم في تعليم البرامج، وصولاً إلى تعريفهم على أجزائه ومهامها”.
إحدى الفتيات كانت منهمكة في الرسم على الحاسوب، وبعد سؤالها مرات عديدة، ماذا تفعلين؟ أجابتنا دون أنّ تنقل نظرها عن الكومبيوتر: “ارسم بيتاً لي ولأمي”.
المدن