أرشــيف المــدن الهاربــة
عباس بيضون
في غمرة الحرب اللبنانية والعاصمة تستكمل انقسامها إلى شرقية وغربية، والنار تنتقل من مكان إلى مكان، والمعارك تكاد تكون خبزنا الصباحي كل يوم وأخبارها تشكل مؤونتنا اليومية، والدولة منفرطة والجيش في عطلة بعد ان صار جيشين أو ثلاثة، والبطالة مستشرية والناس تحمل بيوتها على ظهورها من مطرح إلى مطرح، والقتلى والجرحى والمعاقون بعشرات الآلاف والخطر ماثل كل حين. في غمرة الحرب اللبنانية أيقن اللبنانيون، ومثقفوهم بخاصة، ان البلد لم يعد معجزة وانه لم يعد محصناً بالعناية وما عاد فكرة ومثالاً ورسالة، ما عاد ملاذاً ولا ملجأ ولا جبلا للحرية او حديقة للتعايش. أيقن اللبنانيون ومثقفوهم بخاصة ان لم تعد هناك ضمانة للبلد ولن يبقى بعد في حرز حريز ولا في حصانه وحمى. أيقنوا انه، ربما، موشك على انقسام وصيغته مقبلة على انفكاك وميثاقه بات في الريح، وبكلمة واحدة أيقنوا ان البلد قد يكون آيلاً إلى زوال. لا بد ان الحروب الأهلية نقض لما يعنيه بلد، أي بلد، نقض لصيغته وعقده والمعادلة التي قام عليها، فلا عجب ان يلجأ مفكرو لبنان وأدباؤه، وقد أيقنوا ان البلد قد يزول وقد يمحى عن الأرض وقد يتحول إلى ذكرى، لا عجب عندئذ ان تستيقظ مخاوف الاندثار والزوال لدى اللبنانيين، وأن يشعر هؤلاء ان البلد الذي استحال حطاماً قد يختفي في يوم ويختفي معه تاريخهم ووجودهم. البلد الذي لم يفكروا كما ينبغي بجغرافيته ومجتمعه وحياته اليومية وأحيائه وبلدانه وقراه ومؤسساته ومبانيه وثقافاته وأقلياته ونسيجه. البلد الذي طالما اعتبر هبة ومعجزة لا ينبغي النظر في تكوينها وبنائها ومعادلتها خوف ان ينقلب السحر على الساحر، بل خوف ان يختفي السحر ويبطل ويتبدد مفعوله. هذا البلد وقد أيقن أهله انه لن يبقى على حاله، سارع كتابه ومفكروه إلى تسجيل كل صغيرة وكل كبيرة فيه. سارعوا إلى توثيق مدنه وقراه وأحيائه ومؤسساته وكنائسه ومساجده. تحول الأدب عندئذ إلى أرشيف كبير، فالبلد الذي استكثرنا عليه في يوم ان يكون له تاريخ وجغرافيا وواقع ومجتمع، او في الحقيقة استكثرناه على الجغرافيا والتاريخ والواقع والمجتمع، غصنا في معالمه وفي قسماته. لقد نقلتنا الحرب فيه من ربوة إلى شارع إلى مبنى، ومن حي إلى حي، ومن منعطف إلى منعطف. طالما توقفنا أمام مبنى بعينه وأمام جبل بعينه وأمام حارة بعينها. كانت الحرب هكذا ترسم جغرافيتها ونحن معها نعيد اكتشاف البلد ونراه مجدداً معلماً معلماً ونتجول مع الخراب الذي شمله وجابه ووقف عند كل جزيء فيه. هكذا غدا الأدب غناءً للأماكن وأرشفة وتأريخاً للمعالم وغوصاً في الواقع وفي التفاصيل وتصنيماً للمواضع. هكذا وصلنا إلى أدب هو في النهاية نوع من أرشيف كبير.
لا يشك متابع في ان سوريا تعيش من قرابة عامين وضعاً مماثلاً. لقد تحولت المواجهة إلى حرب إن لم تكن منذ بدأت حرباً. كان ريف دمشق بالنسبة لنا، نحن المتابعين من خارج مجهولاً، بل كنا نحن الذين بدون قصد نقيس على لبنان لا نفهم ماذا يعنون بريف دمشق، فلبنان لا يحوي مصطلحاً كهذا. لا نتكلم هنا عن ريف بيروت او ريف طرابلس او ريف صيدا، هذه مصطلحات لا نعرفها ولا نعرف ان نتصورها. ريف دمشق وريف حلب وريف حماه ليست بديهية بالنسبة لنا، وكم بدا الفارق حين شعرنا انها بديهية لابن دمشق او ابن حلب او ابن حماه او ابن حمص، بل نحن أدركنا بالتدريج الفارق بين لبنان وسوريا، فقد اجتمع البلدان في ذاكرتنا واجتمعا على طول التاريخ الاستعماري وما بعد الاستعماري للبلدين. اجتمعا واختلط تاريخهما بحيث اننا لم نفرزهما من بعضهما البعض إلا من وقت قصير، وظل التاريخان متداخلين حتى في هذا الوقت القصير، بحيث بدا ان سوريا قدر لبنان وبحيث بدا اننا لا نستطيع ان نتصوره بدونها. إذن هناك ريف دمشق وريف حلب وريف حمص وريف حماه. هناك دمشق وحمص وحلب وحماه، وهناك أيضاً بدون أي ترتيب درعا وإدلب وجسر الشغور ودير الزور… بدون أي ترتيب فهذه ليست سوى اسماء بالنسبة لنا، وسوريا بذلك واسعة واسعة، مأهولة آهلة وليست المقابلة بينها وبين لبنان على هذا المستوى واردة. فسوريا، التي طالما تصورناها ما وراء لبنان، هي بالنسبة لنا بلد يتسع كل يوم ويزداد أرضاً وسكاناً وخطورة في مطلع كل صباح، حتى لنكاد نفكر ان لا حدود له، وانه يكاد يكون قارة بالنسبة للبنان. لم تعد سوريا مجرد داخل وحتى إذا كانت حقاً داخلاً فهي داخل سحيق بالغ العمق، ولسنا نحن سوى على ضفافه أو مجرد عتبة له.
سوريا الآن تتدمر. لا نسمع اليوم إلا أن المدافع والمروحيات والطائرات ترمي قذائفها على القرى والمدن والأحياء على نحو عشوائي. غايتها الأولى هي أن تدمر، وأن تحول كل عمار تحتها إلى خراب كامل، وأن تترك المدن والقرى والأحياء ركاماً وأنقاضاً وقتلى وجرحى. تدمير سوريا يبدو بالبداهة هو ما يجري، تدمير منهجي منتظم، ينتقل كل يوم من ساحة إلى ساحة ويبدل في كل فترة ضحاياه. سوريا واسعة واسعة والدمار يلحقها في كل مكان. الدمار واسع واسع أيضاً وسيحولها مع الوقت إلى رقعة من الخراب. الصين وروسيا يحولان دون أي تدخل دولي، لكن السؤال هو عما إذا كان الغرب لا يريد ان يترك دمار سوريا يصل إلى نهاياته. عما إذا لم يكن تدمير سوريا إرادة دولية. عما إذا كانت الصين وروسيا لا تخدمان، بدراية او بدون دراية، إرادة دولية. أياً كان الأمر فإن سوريا تتدمر تحت أعين العالم ولا يستطيع المجتمع الدولي ان يفعل شيئاً او لا يريد ان يفعل شيئاً. ذلك يعني، إذا تذكرنا الحرب اللبنانية، ان شيئاً مماثلاً يحدث الآن، أن بلداً يترك لدماره وان مجتمعاً أكبر وأقوى يرزح أكثر فأكثر تحت إرادة تجبره على أن يترنح وعلى أن يتساقط، وعلى ان يتخبط ويبتئس ويتهافت وينذلَ.
مثلما كان لبنان، وربما ما يزال، اثناء الحرب فإن حديثاً عن تقسيم سوريا إلى دويلات يصل من بعيد ومن قريب. مثلما كان لبنان فإن ثمة هاجساً بأن سوريا التي نعرفها على طريق الزوال. ثمة توجساً بأن البلد بكل اتساعه، الذي اكتشفناه حديثاً، يوشك ان يختفي بما يعنيه ذلك بالنسبة لمثقفيه وخاصة كتابه. اليوم يعود هؤلاء على الطرقات التي شقتها الحرب إلى تاريخهم الشخصي على هذه الأرض، إلى مواطنهم الأولى. إلى المعالم التي تؤثث ذاكراتهم، إلى القرى والمدن والأحياء والأسواق والشوارع والدور والمواضع. إنه الخوف من النسيان والخوف من يوم لا يجدون فيه أثراً لحياة سلخوها على هذه الأرض، أن تهرب منهم أمكنتهم وذكرياتهم وأن يصعب عليهم هم في ذلك ان يتعرفوا إلى أنفسهم. هذا «المحور» عن «أمكنة سوريا»، هو مجرد التقاط لقليل من هذه الثمار الساقطة، تجميع عشوائي للحظات تتوزع بين الحنين، الذي هو رثاء للنفس، وبين التسجيل الذي هو نقش على حجر الذاكرة. بين الغناء وبين الأرشفة. سوريا كبيرة كبيرة وواسعة واسعة ومن المؤكد ان طوفاناً من الذاكرة بدأ في التدفق. طوفانا من الصور والنقوش والأحافير والخدوش والتلويحات سيكون جارفاً وسيبني وطناً من الركام ومن الحنين ومن الذكريات والوقائع.
السفير