أرشيف افتراضي للثورة السورية
شاكر الأنباري
الثورة السورية ستنتصر في النهاية، وهذا أكيد. سيزول نظام بشار الأسد، وقد لا تكتمل دورة السنتين على الثورة حتى نرى نهاية النزيف. وستقع المهمة، بعد ذلك، على المؤرخين، والمفكرين، والمثقفين، للتأمل في ما حصل، واستعادة تاريخ هذه الثورة وتفاصيلها. سيكون تاريخاً غنياً، مثيراً، ومتعدد الوجوه، وسيكون أرشيفا حقيقيا للعالم كله. الثورة السورية من الثورات النادرة في تاريخ البشرية، من جانب اعتمادها على الذات، وانطلاقها كثورة سلمية، وتطورها لاحقا كي تكون مواجهة شاملة مع أعتى نظام آيديولوجي، قمعي، ذرائعي، خال من الثوابت الإنسانية. الثورة لها خصوصيتها، وفرادتها، خصوصاً وأن هناك شعباً يذبح تحت نظر العالم المتحضر وسمعه. شعب يذبح علناً، وتفاصيل هذا الذبح تنقله التكنولوجيا الحديثة بأدق التفاصيل.
ان المآسي التي يتعرض لها الشعب السوري لا تكشف بربرية النظام السوري فقط، بل بربرية كامنة، متخفية، في ضمير العالم كله. بربرية تتلذذ بمشاهدة القتل، والدمار، ولا تفعل شيئاً. إنها تكتفي بالثرثرة، والبيانات، والإدانات الكلامية لإقناع ضميرها (الحضاري) بالدرجة الأساس. ولتكفّر عن عجز حضارة كاملة في إيقاف المذبحة التكنولوجية المعاصرة.
لكن ما الذي سيُؤرشف طوال هاتين السنتين تقريبا من عمر الثورة؟ وما الذي سيُحتفظ بمعنى معرفي وفكري وثقافي؟ وما هو حجم ذلك الأرشيف الافتراضي القابل للحفظ في مدونات القرن الحادي والعشرين من الألفية الثالثة؟
البداية لا بد أن تكون علامة فارقة في ذلك التدوين، هي تلك الصيحة الانسانية الجريحة في منطقة “الحريقة” الدمشقية، لذلك الرجل الثلاثيني الذي صاح أمام الكاميرا “أنا انسان ماني حيوان”. من هو الرجل، وأين يعمل، ولِمَ واجه شرطة النظام المتجبرة بتلك المقولة التي لامست قلوب الملايين؟ حكاية تظاهرة الحريقة كانت الشرارة، وكانت عيوننا لا تصدق أن هذا يجري في وسط العاصمة. فمن يجرؤ على الوقوف بوجه أجهزة الأمن السورية، التي كانت تعامل المواطنين باحتقار وعنجهية، كما لو كانوا “جراثيم”، وبهائم، وعبيدا خلقوا كذلك، وسيظلون إلى الأبد كذلك. أيام بعدها وشاهد الناس تجمعاً جماهيرياً أمام وزارة الداخلية الواقعة في المرجة، مطالبين باطلاق معتقلين سابقين. ورغم ان الأعداد قليلة، لكن الطريق إلى الثورة بدأت تتضح معالمه، أي أن ثمة فيضاناً قادماً سيجتاح ربوع الشام، وكانت تلك نذره وإرهاصاته. من هم المعتقلون؟ ومن خرج إلى الشارع أمام وزارة الداخلية للمطالبة بهم، وكم كان عدد المحتجين، ومن أي الشرائح، وأي انتماءات فكرية وإثنية ودينية؟ تلك أسئلة تحتاج إلى بحث، وتنقيب، وتدوين، لتوضع الجمل الأولى في ذلك الأرشيف الافتراضي.
كانت الصرخة العالية التي بدأت من تونس، مرورا بليبيا ومصر واليمن، تلف فضاءات مترامية: الشعب يريد إسقاط النظام. الصرخة التي تلقفها أطفال درعا في مدارسهم الإبتدائية والمتوسطة، ولم يكونوا، ربما، يدركون ثقلها وعنفها على السلطة. تلك كانت صيحة حرب، وصرخة جموع نامت عشرات السنين، ولكنها استيقظت بدفق سحري خلاّب لتواجه جلاديها. أطفال درعا اختصروا بحمزة الخطيب، ومواطنو درعا لم يعد سكوتهم ممكناً. سارت التظاهرة تدعو إلى محاسبة قتلة حمزة الخطيب، والآن حسب الارشيف من هو حمزة الخطيب؟ كيف عذب، ومن عذبه، وما هي الجروح الغائرة في جسده، ومن قطّع أوصاله بهذه الهمجية؟ أين دفن، ومن دفنه، ومن صلى عليه، وأي من مناطق درعا هبّت للإحتجاج على الظلم والمذبحة؟ الدبابات التي ضربت مباني درعا إلى أي كتيبة تنتمي، ومن هم الضباط المشرفون على ضرب التظاهرات السلمية؟ كيف وصلت أخبار درعا إلى دمشق، وحمص، وحماة، وعن أي طريق؟ بعد أيام من مقتلة درعا خرج سميح شقير الدرزي، بأغنيته التي تلوّح للجموع “يا حيف يا درعا”، بكلماتها المختزنة لمعاناة الشعب السوري طوال عقود البعث البائسة. “ظهرك للعادي وشاهر عليّ السيف”، تلك كانت حقيقة هذا النظام الذي أزاحت تظاهرات درعا عنه كل ستائر التضليل، والمراوغة، والعنف، والأدلجة. كم فنانا وقف إلى جانب الثورة الوليدة، وكم شاعرا سهر ليلته على هدير الجموع الثائرة؟ وكانت الثورة تتسع وتتصاعد، وتغيّر الشعار من الشعب يريد الإصلاح إلى الشعب يريد اسقاط النظام، كما لو كان ذلك استلهاما لشعار أحمد سامي أبازيد الذي خطه هو ورفاقه على جدران مدرسته في مدينة درعا.
وكان الذهول لا يوصف ونحن ننظر إلى مئات الآلاف في حماة وهي تنصت إلى حنجرة ابراهيم القاشوش الذي كان يردد “يللا إرحل يا بشار”. مشهد لا يُصدّق يجري في بلاد الشام، تتجاوب معه مئات آلاف الحناجر في انتفاضة جماهيرية دخلت التاريخ قبل أن يكتب. قلنا في وقتها هذا مغن يرشّ كلماته بالدماء، كان يعرف أنه لن يعيش أكثر من يوم أو يومين. هناك مئات الكتّاب والفنانين والمفكرين بدأوا يفضحون ما يجري في المدن. والأنظمة الديكتاتورية أكثر ما تخشاه هو فضح ما يجري، فهي معتادة على تغطية الجرائم بكل وسيلة ومنها القتل. أي كتم الصوت قبل أن يسمع، قبل أن يتناقله الصخر والحجر والشجر، وهذا ما فعلته بحنجرة ابراهيم القاشوش، الذي ألقي في نهر العاصي مضرجاً بدمائه. سيل الهجرة بدأ، صحافيون، شعراء، روائيون، تركوا البلد خوفاً من الملاحقة والقتل. كُسِرت أصابع علي فرزات بعد اختطافه من ساحة الأمويين، وراحت الكتابات تظهر في الصحف العربية والعالمية تروي أيام الثورة في معظم المدن، اللاذقية، دمشق، درعا، حمص، حماة، القامشلي، نزولا إلى الريف الدمشقي الذي هبّ عن بكرة أبيه رفضاً للنظام.
الفرز بين المثقفين صار واضحاً. من يقف مع الثورة ومن يقف ضدها. والقطيع الصامت ما زال في صمته، تحت هذه الذريعة أو تلك. أدباء كبار، وفنانون مشهورون، ورجال دين، اصطفوا مع آلة القتل، وصاروا ينظّرون لهذا الاصطفاف. والحجج والذرائع موجودة. لعل مصطلحات السلفية، والوهابية، والارهاب، والقاعدة، كانت الأبرز في تلك الذرائع. يرى لحية كثة واحدة لسلفي، لكنه لا يرى مئات الآلاف الهاتفة للثورة. يرى مئات يخرجون من جامع بعد صلاة الجمعة لكنه لا يرى الملايين في شوارع الشام وهي تحلم بغد أجمل، وأكثر عدلا. يرى الشعار الكاذب ولا يرى المدن المدمرة فوق الرؤوس. وما كتب عن الثورة السورية في الصحف والمجلات خلال السنتين الماضيتين يبلغ أطنانا من الورق، في التنظير السياسي، والفكري، والنصوص الإبداعية، ومقالات الرأي، والمذكّرات. هذا في العربية فقط، أما في اللغات الأخرى كالانكليزية، والاسبانية، والالمانية، والروسية، فربما أضعاف أضعاف. كيف يمكن ترجمة كل ذلك السيل من البيانات إلى اللغة العربية وتمحيصها وتبويبها؟ من هم الكتّاب العالميون الذين رأوا بموضوعية إلى ما يجري في بلاد الشام، ومن أي الزوايا كتبوا عن الثورة؟ ومن هم مرتزقة الأنظمة، وطلاب المنافع، ومافيا السلاح، ومرابو النفوذ العالمي الذين كرسوا حروفهم لتشويه مناقب تلك الثورة، وهتافاتها، وشعاراتها، وآمالها في الخلاص من الاستبداد؟
الشعوب لا تنسى، وذاكرة الشعب السوري حادة جداً وغير مروضة، لذلك فهي تتذكر القتلة جيداً، ومن ساندهم، حتى قبل أن تدوّن الأحداث في أرشيف التاريخ. انهم، الملايين، يدوّنون فواجعهم على مآذن حمص، ونواعير حماة، وأزقة حلب، وضفاف بردى، وبيوت الرستن، ووجوه صبايا القصير، وحناجر دوما، وأشجار تلبيسة، وسنديان جبل الزاوية المحترق، وقلاع وادي النصارى، وأحجار اللجاة السود في وادي حوران. يدوّنون أسماء الدبابات، والمدافع، وأنواع الطائرات، والقادة، والشبيحة وجنسياتهم، وراجمات الصواريخ، وأجهزة التعذيب في الأقبية المظلمة. أسماء المحللين الكذبة، والقادة المراؤون، وممثلو الدول الخانعة، والممثلات العاهرات، والصحافيون المزورون للأحداث، وتجار الموت في بورصات المدن الكبرى، كلهم في الأرشيف. وما كنا نراه على قصاصات الورق والكارتون بين أيدي المتظاهرين لن يمّحي بسهولة. الجمل الذكية، الشعارات الحالمة، النقد المكثف بكلمات صغيرة، اللافتات، الأغاني، البوسترات المرتجلة، كل يوم، كل يوم تعبر عن ضمير ذلك الشعب، جريدة متنقلة، فضائية تبث في الحارات والأزقة والشوارع، في الجامعات والمدن، على الجسور وفي الغابات. كل ذلك نتاج زاخر لثورة الملايين، وهو نتاج لن يضيع بسهولة. رأيناه في التلفزيون، قرأناه في الصحف والمجلات، ذهبت به الريح كونه ورقاً مقوى، لكنه أبداً لن يبارح قلوب الملايين التي تابعت ثورة هذا الشعب، وأحبتها، وبكت معها. آلاف من الذين رفعوا تلك القصاصات، يوما بعد آخر، شهراً بعد شهر، وعلى مدار سنتين إلا قليلاً يرقدون اليوم في مقابر جماعية، أو في حفر مرتجلة بين البيوت.
أسماؤهم في الأرشيف، قصصهم، عشقهم، حكاياتهم، عناوينهم، كل ذلك تفاصيل من ذهب، سيرويها الأحبة والأصدقاء شفاهاً، أو عن طريق افلام وثائقية، وروايات، وقصائد، وأغان ومونولوجات، في زمن ما قادم، حين تخرج سورية من قمقم العساكر وشبيحتهم. حين تستعيد سورية حنجرة القاشوش، وأصابع علي فرزات، وعود سميح شقير، وعدسة أحمد حمادة، وحوارات علي العبدالله في مقهى الروضة، ومحاضرات ميشيل كيلو في كنيسة باب توما.
المستقبل