صفحات الثقافة

أزقة سوريا تحتاج كاميرا الواقع

يوسف شيخو
عقب تحقيق فيلمه ‘روما مدينة مفتوحة’، الذي أنُجز قبل إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، لفت رائد الواقعية الايطالية روبيرتو روسيليني، إلى أن فكرة رائعته تلك، كانت تقوم على رواية الأمور كما حدثت تماماً. ومن هنا أتت ضرورة اللجوء إلى ذلك الأسلوب الذي سمّي بالواقعية الجديدة، ويسهب أكثر’كنا قد عشنا كوارث الحرب ومررنا بها، لذلك لم يكن في وسعنا أن نسمح لأنفسنا بترف اختراع حكايات خيالية. كان المهم، بالنسبة إلينا، أن نلقي نظرة جادة وصارمة على الأمور التي تحيط بنا’.
استناداً إلى ما سبق، ووفقاً للنظرة، التي قد تُنعت بـ’التشاؤمية’، يبدو أن المجتمع السوري – بعيداً عن العاطفة التي قد تدفع إلى السير بجانب الواقع وليس برفقته-، بدأ يدخل مرحلة التشوه، وقد يصاحب ذلك انهيار صادم لاقتصاد البلاد، ذلك تحت سقف سياسي مضطرب، هذا بالطبع إذا تم استبعاد الخيار الأسوأ ‘الحرب الأهلية’. وتالياً، فان هذه الحالة لبلد يوصف ببالغ الأهمية في المنطقة، سواء من حيث تاريخه، أو حاضره، أو حتى مستقبله المقلق، يملك إرثا سياسياً، اجتماعياً، وثقافياً، تجعله جديراً برصد ما يحتويه، خلف أسوار الإعلام، الذي لا يُسمح له بالارتقاء إلى تجسيد دور الرسول المتأمل، والصادق. لذا، فان تناول واقع هذه الساحة المضطربة منذ أكثر من عام، تحتاج عيناً موضوعية، ولساناً معبراً، يشير إلى تفاصيلها الكامنة بخلاف الصورة ‘المشوهة’ الرائجة إعلاميا.
لا شك في إن المدن السورية، وفي المستقبل القريب، أياً كانت نتيجة الصراع الدائر حالياً، سترحب بدخول الكاميرا إلى شوارعها ومنازلها. ذلك في ظل غياب معظم الشروط ‘المعرقلة’ لدخول عدسة الواقع إلى الوسط. فالرفاه الاقتصادي يبدو انه بات بعيداً عن الجيوب، ولو إلى حين. كما إن السينما السورية، ولا سيما المعاصرة، لم تعرف بعد الأسواق الخارجية. يضاف إلى ذلك وجود قدرات فنية وكفاءات، تملك حساً رفيعاً وعيناً راصدة.
قد يرى البعض أن المهم حاليا، هو الرصد الآني لما يحدث في شوارع البلاد، وما يحاك خلف الكواليس. وهنا لا بد من التذكير بان أيام سوريا القادمة ولا نعرف الآتي- حبلى بالأفكار والقصص الجديرة بان تلتقط بعين ماهرة، فهناك قلق وألم، ناتجان عن صراع؛ تسبب في تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ذلك في ظل غياب الاستقرار السياسي، الذي يفاقم من أزمة الفساد، وفي الجانب الآخر، سنجد غنى في المكون المجتمعي، عرقياً وطائفياً، وهو الذي يعتبر في الآن ذاته ‘عضواً مقلقاً’، قد ينجم عن عدم تجانسه، تحد من شأنه تهديد الجسد الكلي للدولة.
إن العودة إلى بداية ظهور الموجة الأولى من السينما الواقعية الايطالية، تكشف لنا، دون شك، واقعاً سياسياً، اجتماعياً مأساوياً، في ظل سلطة فاشية سلاحها الأول والأخير هو القمع. كما إن هناك من يرى أن هذه الواقعية، نشأت بالمصادفة بسبب ظروف اقتصادية متردية؛ واصل وحوش الفساد خلالها، بنهش ما تبقى من جسد الدولة والمجتمع. ورداً على ذاك الواقع، ينوه روبيرتو روسيليني إلى فكرة جد مهمة، حين يقول: ‘يجب أن نحمل الكاميرا وننطلق إلى الشوارع وندخل البيوت، إذ يكفي أن نخرج إلى أي منعطف ونقف في أي مكان، ونلاحظ ما يدور بعيون يقظة، لكي نخرج فيلماً سينمائياً ايطالياً حقيقياً’.
في حقيقة الأمر، تقود هذه المقولة، إلى الربط بين السينما والحياة، ليتم، وفقاً لهذا المنطق، نقل الناس – كما هم- إلى الشاشة، وليس كما يُجبر صانع العمل في إظهارهم، تلبية لرغبة الجهة المنتجة. وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن حقيقة محاولة السينما السورية الغوص في أعماق المجتمع، تحيلنا إلى الوقوف عند محاولات نادرة، استطاعت السلطة أن تُخفي بعضها، وتنجح في وأد أخرى. وهذا بالطبع، لم يمنع من السماح للبعض بأعمال ليست أكثر من مساعي أُريد منها صنع الحقيقة التي تتلاءم ورغبة المؤسسة العامة، أو ما يعرف شعبياً بمصطلح ‘تنفيس’.
يعتقد البعض أن مصطلح سينما الواقع، خلق مشكلة مع نهوض السينما العربية، في اعتبار أن غالبية السينمائيين الشباب، حاولوا تقليد الواقعية الإيطالية. ولكنهم ظلوا أسرى الشكل والمضمون، دون وضع بصمتهم الخاصة في أفلامهم، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الألفية الثالثة أظهرت عروضا سينمائية تحت اسم سينما الواقع، وهي أفلام ململمة من هنا وهناك. لكن هنا لابد من التذكير بان ظهور سينما عربية، وسورية على وجه الخصوص، يعني الحاجة إلى متنفس، وإن كان يبعث برائحة ‘كريهة’!.
في آذار الفائت، احتجب مهرجان أيام سينما الواقع (DOX BOX) عن دورته الخامسة، احتجاجاً على انتهاك حقوق المدنيين في سوريا. وعلى هذا المشروع، يعلق السينمائي محمد ملص، بالقول: ‘من الطبيعي في أجواء القحط والبؤس السينمائي، أن تكون إقامة تظاهرة حرة كـ (DOX BOX)، حدثاً مهماً’. لكنّه أبدى مخاوفه من تراجع روح الاستقلالية بسبب تدخل المؤسسة العامة. كما أكد على أن السينما الوثائقية لا تشاهَد، ولا تُصنَع، إلا في جو ديمقراطي.
هنا لابد من التركيز على مسألة أن الوضع السوري القادم سيكون ديمقراطياً، لكن بنكهة الفوضى. وهو الأمر الذي يتطلب الانتباه إليه، والاستعداد له.
صحافي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى