صفحات العالم

أزمة سوريا: المطلوب تهديد يتمتع بالصدقية


ستيفن هايدمان ورينود ليندرز

في مقاله الصادر في 7 نيسان بعنوان “أزمة سوريا: السلاح في مقابل المفاوضات” (Open Democracy)، يعتبر ماريانو أغوير، الذي نناقش في ما يلي أفكاره، أن المفاوضات هي الوسيلة المفضّلة لوضع حد للانتفاضة السورية الدموية. ويستعرض الآثار السلبية المحتملة التي يمكن أن تنجم عن تسليح المعارضة السورية، والعواقب المدمِّرة على الأرجح للتدخّل الخارجي، حتى ولو كان الهدف منه إنشاء مناطق آمنة.

تشمل هذه العواقب تأجيج المذهبية، وتفكّك المجتمع السوري، والتطرّف الإسلامي، وترسيخ الميليشيات، وفقدان أي تفوّق معنوي قد تتمتّع به المعارضة نتيجة التزامها عدم اللجوء إلى العنف، وخضوع الديبلوماسية لموجبات القوة. ويعتبر أن أنصار التسليح أو التدخّل (وهما أمران مختلفان جداً خلط أغوير بينهما في مقاله) شوّشوا التمييز بين إنهاء العنف وتغيير النظام. يقول أغوير إن أولويتنا يجب أن تكون إنهاء العنف، وليس تغيير النظام، حتى لو عنى ذلك القبول بأن نظام الأسد سيبقى في السلطة لأجل غير مسمّى.

نتشاطر جزءاً كبيراً من مخاوف أغوير. وكذلك الأمر بالنسبة إلى معظم السوريين الذين لا يزالون يواجهون الجنود المدجّجين بالسلاح عبر رفع لافتات كُتِب عليها “سلمية”! لكننا نختلف بشدّة مع تحليله، ومع بعض استنتاجاته. يشير أغوير في مقاله إلى أن فاعلين خارجيين يملكون القدرة على تحديد ما إذا كان سيتم تسليح المعارضة السورية. ويولّد انطباعاً بأن هؤلاء الفاعلين، سواء كانوا عرباً أم غربيين أم أتراكاً، هم من سيتسبّبون بالعواقب المدمِّرة التي يعتبر أنها ستنجم عن تسليح المعارضة. ويرى أن المعارضة مسؤولة، في سعيها وراء حيازة الوسائل للدفاع عن المدنيين، عن تصاعد العنف الذي شهدته الانتفاضة السورية خلال العام المنصرم. ولا يأتي على ذكر استخدام نظام الأسد للقوة، والذنب الذي يتحمّله في لجوء الانتفاضة إلى التسلّح.

مخاوف أغوير مبرّرة من جوانب عدّة. فنحن نعتبر أيضاً أن التدخّل العسكري الخارجي يمكن أن يطلق سلسلة من النتائج الخطيرة، مما يفتح الباب أمام وجود القوات الأجنبية لفترة غير محدّدة في سوريا التي ستكون مشحونة الأجواء وهشّة سياسياً بعد النزاع. وهو يُحدّد بدقّة المخاطر التي يمكن أن تترتّب عن إنشاء مناطق آمنة، وهي مخاطر يقر بها على نطاق واسع أنصار هذه الخطوة ممّن يتمتعون بحس المسؤولية، حتى لو كانوا لا يوافقون على أن مصيرها هو الفشل المحتوم. ونوافق أيضاً على أن الدعم الخارجي للمعارضة المسلّحة يمكن أن يمهّد الطريق لدور عسكري موسّع، مع أننا لا نتّفق مع الزعم بأن واحدهما يقود حكماً إلى الثاني.

لكن في جوانب أخرى كثيرة، نجد أن افتراضات أغوير واستنتاجاته مضلَّلة بطريقة خطيرة. فالظروف التي يعتبر أنها ستترتّب عن الدعم الخارجي للمعارضة المسلّحة تحصل منذ الآن، بما في ذلك تعميق المذهبية، وتفكّك المجتمع والأراضي، وظهور الميليشيات. في الواقع، تحذيراته من الحرب الأهلية محقّة، لكن مع مقتل أكثر من 11000 شخص في غضون عام واحد، المحنة التي تعيشها سوريا تندرج في خانة الحرب الأهلية، بغض النظر عن تعريفها. وهي لم تنجم عن التدخّل الخارجي، بل عن الديناميات الداخلية لانتفاضة شعبية سِمَتها العنف والاستقطاب المذهبي اللذان يشكّلان محور الجهود التي يبذلها النظام لتقسيم معارضيه وهزمهم فيما يُعزّز مخاوف الأقليات غير المسلمة. وفي المعنى نفسه، فإن لجوء النظام إلى تصعيد العنف ليس للرد على صعود معارضة مسلحة، بل إنه رد فعل نظام الأسد على انتفاضة شعبية أظهرت صموداً لافتاً. إصرار النظام على الاستخدام غير المتكافئ للعنف يسبق صعود المعارضة المسلّحة. يمكن أن تكون المقاومة السلمية فاعلة في حالات كثيرة، كما أنه مرغوب فيها دائماً. لكن عندما تواصل قوى القمع، كما في سوريا، هجومها على المتظاهرين المسالمين والجنود المنشقّين على السواء، تصبح المقاومة المسلّحة محتومة، كي ينقذ الشخص حياته وحياة الآخرين، ومن أجل منع النظام من القضاء على المطالب الشعبية بالتغيير؛ حتى الاشخاص الأكثر دفاعاً عن “الانتفاضات غير المسلّحة” و”التغيير اللاعنفي” لا يستطيعون تقديم ضمانات في ظل ظروف مماثلة. بما أن الانشقاقات لم تؤدِّ إلى انهيار القوى الأمنية أو إلى وضع حد للفظائع، فإن تشجيع الجنود على الانشقاق يصبح تصرّفاً مخادعاً، وغير فاعل في نهاية المطاف إذا لم يترافق مع توفير حمايات لمن يلبّون دعوات الانشقاق، بما في ذلك عبر الوسائل المسلّحة إذا دعت الحاجة.

يسعى أغوير في محاججته، من جملة ما يسعى إليه، إلى القول بأن التسليح لن يردع النظام، وبأنه قد يزيد الأمور سوءاً. هل هذا صحيح؟ ما دامت المعارضة تعاني من نقص حاد في السلاح، لن نعرف الجواب أبداً. لكن ليس محكوماً على الانتفاضات المسلّحة بالفشل لمجرد أننا نفضّل أخلاقياً أن تكون سلمية. نظراً إلى الظروف الصعبة جداً التي يعيشها الناشطون السوريون، جل ما يمكنهم أن يأملوه هو أن يكونوا بين نسبة الـ26 في المئة من الناشطين المسلّحين الذين وجد الباحثون في تقنيات المقاومة في مختلف أنحاء العالم أنهم حقّقوا أهدافهم. لكن ما يمكننا قوله بيقين هو أن النظام أظهر بوضوح شديد أنه لن يسمح للسوريين بأن ينضموا إلى صفوف الـ47 في المئة من الناشطين غير المسلّحين الذين نجحوا في تحقيق مبتغاهم. ثمة أسباب وجيهة لنتعامل بجدّية مع الحجّة القائلة بأن نزوع النظام إلى تصعيد العنف هو نتيجة مباشرة للازدراء الذي يتعاطى به مع المبادرات الديبلوماسية الإقليمية والدولية، وعدم وجود أي رادع موثوق، بما في ذلك من جانب معارضة مسلّحة، في نزاعٍ يُبدي فيه حلفاء النظام في الخارج – إيران وروسيا و”حزب الله” والصين – استعداداً لدعم إمكاناته العسكرية فيما رفض منتقدوه تزويد المعارضة بالسلاح، وصرّحوا علناً أن التدخّل العسكري ليس “مطروحاً على الطاولة”.

على الأرجح أن فشل المجتمع الدولي في تبنّي مقاربة مسؤولة للتسليح هو الذي ساهم في النتائج التي تثير القلق الأكبر لدى أغوير. حالياً، تتدفّق الأسلحة إلى سوريا عبر قنوات غير رسمية وغير منظَّمة قانونياً، مما يحول دون أن تكون هناك مساءلة بشأن أنواع الأسلحة، والجهة التي تُرسَل إليها، والطريقة التي ستُستعمَل بها. صعود الفوضى والإجرام في أوساط مجموعات المعارضة المسلّحة ذات القيادة السيئة والتي نجد لدى بعضها نبرة مذهبية، هو أحد النتائج المترتّبة عن غياب التنظيم في الطريقة التي تم بها التسليح. علاوةً على ذلك، تؤدّي عملية التسليح الحالية إلى تفاقم انقسام المعارضة، مما يقوّض الحوافز التي من شأنها أن تدفع بالمجموعات المسلّحة إلى القبول بسلطة المجلس الوطني السوري أو سلطات مدنية أخرى. وهكذا فإن السؤال المطروح في هذه المرحلة ليس الخيار الخاطئ بين اللاعنف والتسليح – وهذان الخياران لا يقصيان بعضهما بعضاً، مثلما أظهره السوريون مراراً وتكراراً – بل ما إذا كان تطوير أطر منظّمة وقانونية لإدارة التسليح يمنحنا بعض الأمل بإخضاع المعارضة المسلّحة لدرجة من القيادة والتنسيق من شأنها ترسيخ مبدأ السيطرة المدنية على الفاعلين المسلّحين، وقد يقتضي ذلك فرض الانضباط والمساءلة على المعارضة المسلّحة وتطبيقهما، بما يحول دون جنوح أعضائها نحو الإجرام.

هل يقوّض التسليح آفاق الديبلوماسية؟ هل يُجهِز على الخيارات الحيوية من أجل التوصل إلى حل من طريق التفاوض للأزمة السورية؟ لا نظن ذلك. فخبرتنا في مراقبة نظام الأسد تولّد لدينا اقتناعاً بأنه يعتبر أنه في صدد تحقيق الفوز في معركة البقاء الحالية، وبأنه ليست لديه أي مصلحة أو نية للتفاوض لا مع المعارضة ولا مع الوسطاء الدوليين، ولا يزال ملتزماً القضاء على المعارضة بكل الوسائل الضرورية. لقد برهن “السلام” السلطوي، في المرحلة التي كان مسيطراً فيها ثم الآن في خضم التحدّي الشعبي غير المسبوق الذي يهدّد بقاءه، عن قدرة على التكيّف، وسعة في الخيال، وحتى الآن عن صمود في مواجهة المعارضة، وذلك في تناقض حاد مع الاعتقاد السائد بأنه “بعيد عن الواقع” ومحكوم عليه بالأفول. ولم يظهر أي مؤشر بأنه مستعدّ للتفكير في إجراء انتقال سياسي. وكل المبادرات الديبلوماسية التي افترضت العكس خلال العام المنصرم منيت بالفشل بسبب تعنّت النظام، ومنها خطة أنان.

 حتى العقوبات الواسعة النطاق، وعلى الرغم من الأذى الذي ألحقته بالاقتصاد السوري، لم تتمكّن من منح الديبلوماسية “الأسنان” التي تحتاج إليها. إذا لم تعترف الحكومات التي تسعى إلى إنهاء الأزمة بحدود الديبلوماسية، فسوف تستمر في إفساح المجال أمام النظام لتحقيق مآربه. ما نفتقر إليه اليوم هو تهديد ذو صدقية يمكن أن يُكسِب الديبلوماسية فاعلية، أي معارضة مسلّحة تخضع للسيطرة المدنية والمساءلة، وتتمتّع بهيكلية قيادية مناسبة للانتفاضة.

نشارك أغوير دعوته إلى “إنقاذ الأرواح والبنى التحتية”، لكن ذلك يجب أن يتم من خلال إدارة التسليح، وتالياً عبر دعم المجموعات المسلّحة، وليس عبر الوثوق بتسويةٍ من طريق التفاوض من المستبعد أن يتم التوصّل إليها، لا بل من المستبعد أكثر أن تصمد، ومن المؤكّد أنها ستتيح للنظام السوري مواصلة مجازره.

هايدمان مستشار في معهد الامم المتحدة للسلام وليندرز استاذ العلوم السياسية في جامعة امستردام

(أقسام من مقالة أطول)

ترجمة ن. ن

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى