أزمة سوريا على خطى حربي لبنان والعراق
عبدالاله مجيد
في تحليل وافٍ لما يمكن أن تؤول إليه المنطقة، متأثرة بالأزمة السورية، قال الصحافي والكاتب باتريك كوكبرن إن النظام السوري لن ينتصر على الثورة، ولن يسقط قريبًا أيضًا، وإن الأزمة السورية سائرة بثقة على خطى الحرب الأهلية في لبنان والعراق، ولن تنتهي على شاكلة التغيير الليبي، مستبعدًا أيضًا وصول مؤتمر السلام إلى خواتيم سعيدة.
لندن: لا مناص من الاعتراف بأن الأزمة السورية ستكون إحدى السمات الغالبة على القرن الحادي والعشرين، بالرغم مما يمكن أن يخبئه الغيب من أحداث مقبلة، خلال نحو 90 عامًا آتية. فهذه الأزمة من التعقيد والأهمية ما يجعلها قبلة الباحثين، يتبحّرون فيها وفي أحداثها ومآسيها، ليقينهم بأنها ستعيد رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط، أيًا كانت نتائجها، وكيفما مال ميزان قواها.
من هؤلاء الباحثين الصحافي باتريك كوكبرن، المستقر في معظم الوقت في الشرق الأوسط، وهو الذي كان مراسلًا لصحيفة فاننشيال تايمز الأميركية. وهو بحكم مهنته واسع الإطلاع، كثير الصلات، عليم بخفايا الأمور في هذا الجانب المستعر من العالم.
كتب كوكبرن مقالة بعنوان “هل انتهت مفاعيل اتفاقية سايكس – بيكو؟”، نشرها موقع London Review of Books، شرّح فيها الأزمة السورية والتهديدات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط، القابعة اليوم في مهبّ الريح الأصولية.
وهم سقوط الأسد
قبل أن يدخل في صلب موضوعه، وفي مقدمة ذات مغزى، يأخذ كوكبرن على فرقاء دوليين عديدين، وعلى أطراف في المعارضة السورية نفسها، اعتمادها على الإعلام، وخصوصًا على موقع يوتيوب، الذي تحوّل ملعبًا إعلاميًا للمعارضة وأشرطتها، للتأكيد على أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد ساقط بين ليلة وضحاها. وهم قالوا هذا في بدايات الأزمة، أي قبل عامين ونيف.
بين هؤلاء، مثلًا، أمين عام حلف شمالي الأطلسي أندريس فوغ راسموسن، الذي قال في كانون الأول/ديسمبر الماضي: “أعتقد أن النظام في دمشق يقترب من الانهيار”، وغيره الكثير. حتى إن الشعب السوري نفسه خيّل إليه أن النهاية باتت قاب قوسين أو أدنى، إذ واصل مقاتلو المعارضة إعلان النجاح تلو الآخر، وكانت إعلاناتهم تُقبل بلا تمحيص.
غير أن كوكبرن، المعتاد السفر برًا من بيروت إلى دمشق، ذهب إلى العاصمة السورية، وعاد منها بقناعة تامة بأن نظام الأسد صامد بعد، وصلب أيضًا. وما أن أخبر صحبه في بيروت بالأمر حتى هزّوا رؤوسهم غير مصدّقين، وأشاروا بأدب إلى أنه وقع ضحية خداع النظام السوري، وصدق رواياته.
إعلام التواصل الاجتماعي، كموقع يوتيوب، هو الذي يصيغ سمة الحرب ويرسم وجهتها، من دون أن تكون هي الوجهة الحقيقية. يقول كوكبرن: “ليست كل الأشرطة التي تبثّ على يوتيوب موضع شبهة، فهي رغم سهولة فبركتها تؤدي مهمات معينة، ويمكن أن تبيّن أن فظائع ارتُكبت فعلًا، وأن تؤكد حقيقة ارتكابها”.
يضيف: “لولا تصوير أحد قادة الثوار وهو يفتح صدر جندي نظامي قتيل ويأكل قلبه، من كان ليصدق ذلك؟ (…)، وما لا يمكن لموقع يوتيوب أن يفعله هو تحديد الطرف الذي سيربح هذه الحرب”. هكذا، أراد كوكبرن أن يوضح أن ما تراه العين على يوتيوب غير ما يراه الشاهد العيان في دمشق أو غيرها، بالرغم من صعوبة أن تجد شاهد عيان بعد الآن. فالكل خلف حاسوبه أو أمام شاشة التلفزيون. والحقيقة مخبأة بقشة الإعلام، الذي أتقن الثوار فنونه أكثر مما فعل الأسد.
أشبه بلبنان والعراق
على هذه المقدمة، أي على التخيلات المختلفة حول سرعة انهيار الأسد ونظامه في دمشق، ينسج كوكبرن روايته لما يجري في سوريا اليوم… وغدًا. فالتراجع العسكري الذي مُني به جيش النظام في أكثر من مكان على الخريطة الميدانية السورية لم يشكل نجاحًا للثوار، بحسب كوكبرن، وأخطأ الغرب والعرب السنة في اعتباره تباشير انتصار الثورة.
فقد كان التراجع إعادة انتشار تكتيكية، تمكن الجيش السوري بعدها من مد رقعة سيطرته على الطريق المؤدية من حمص غربًا إلى ساحل المتوسط، والطريق المؤدية من دمشق جنوبًا باتجاه الحدود الأردنية. والخسائر التي مُني بها الجيش النظامي أثناء ذلك أوقعت الآخرين في وهم انهيار النظام.
وبحسب كوكبرن، لن يحقق الأسد نصرًا ساحقًا، لكن المعارضة ليست قريبة من إسقاطه، “ومن مبررات إصرار بريطانيا وفرنسا على رفع الحظر الأوروبي عن تسليح المعارضة أن هذه الأسلحة الإضافية ستغيّر ميزان القوى بصورة حاسمة ضد الأسد، لكنّ مزيدًا من السلاح سيعني بكل بساطة مزيدًا من القتلى والجرحى”.
لا يربط كوكبرن ميزان القوى هذا بالميدان السوري، بقدر ما يربطه بقراءته لتطورات أخيرة في المنطقة، مشبّهًا الأزمة السورية بالحرب الأهلية الطويلة في لبنان وبما حصل في العراق، وليس بمعركة إسقاط معمّر القذافي في ليبيا، أو تغيير النظام في مصر وتونس.
لم يأتِ التشبيه هذا من عبث. فكوكبرن يستعيد ما أعلنه الأميركيون، المنتشون من نصرهم على صدام حسين في العراق، أن إيران وسوريا هما الهدفان التاليان لموجة تغيير النظام. وعلى الرغم من أن هذا الإعلام لم يتجاوز أفق الاعتداد الفارغ بالنفس، على ما يقول كوكبرن، “لكن التهديد دفع السوريين والإيرانيين إلى اتخاذ قرار منع الأميركيين من التحرك ضدهم، فما كان عليهم إلا أن يمنعوا الولايات المتحدة من تثبيت احتلالها للعراق، وأن يقدموا دعمهم إلى كل أعداء أميركا، شيعة وسنة”.
في خضم الوهم بقرب انفراط عقد النظام البعثي في سوريا، كانت الأنخاب ترفع علنًا احتفاءً بالضربة التي ستتلقاها إيران وحليفها اللبناني حزب الله، لأن الانتفاضة في العين السنية هي إسقاط للشيعة أكثر منها رفع للديمقراطية. ومن هذا المنطلق، صارت سوريا أهم من خوزستان في نظر إيران، “لأننا إذا احتفظنا بسوريا نستطيع أن نسترد خوزستان، ولكننا إذا خسرنا سوريا لن نتمكن من الاحتفاظ بطهران”، كما قال حسين طيب، أحد كبار ضباط الاستخبارات الإيرانية.
من هذا المنطلق أيضًا، سيمنع حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، بكل ما أوتي من قوة سقوط سوريا بيد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية، كما أعلن في أكثر من خطاب أخيرًا. وقرن قوله هذا بفعل سريع، مشاركًا فعلًا في الهجوم المستمر على القصير المحاذية للحدود السورية اللبنانية.
عدوى الجوار
لا يخفف كوكبرن من شأن الحرب في سوريا، لكن الأهم منها في نظره هو خروجها من الحدود الجغرافية السورية إلى ما يجاور من بلدان أنهكتها الطائفية وفتتت نسيجها، كلبنان والعراق نفسيهما، أولًا. فرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حذر من أن انتصار المعارضة المسلحة يعني حربًا أهلية في لبنان، وانقسامات في الأردن، وحربًا طائفية في العراق. والبلد الأخطر، لبنان، بسبب تدفق ما يكفي من اللاجئين السوريين لقلب توازنه الديموغرافي الطائفي. وبعده العراق، الذي استعاد دورة العنف الطائفي، رقصًا على طبول الحرب السورية، بعدما خلع الأميركيون منه جزءًا قدموه إلى أكراد، وتركوا حكمه للشيعة، فأقصوا السنة.
يقول كوكبرن: “بتأثير انتفاضة الغالبية السنية في سوريا، شعرت الأقلية السنية في العراق بأن ميزان القوى الإقليمي يميل لمصلحتها، فبدأوا بالتظاهر مستوحين احتجاجات الربيع العربي، وبدت تظاهراتهم ضد الغالبية الشيعية جزءًا من هجوم مضاد يشنه السنة في الشرق الأوسط، ما أدى إلى مجزرة الحويجة، التي ذهب ضحيتها 50 شخصًا، بينهم ثمانية أطفال.
منذ ذلك اليوم، يطالب الزعماء السنة بانسحاب الجيش من مناطقهم، ولعل العراق بدأ يتفكك”. ولعل ذلك ما جعل العراقيين يقولون لكوكبرن: “إنها نهاية سايكس – بيكو، الاتفاقية الفرنسية البريطانية، التي قسمت ورثة السلطنة العثمانية”. ولعل ما يزيد العراقيين ثقة بتفكك بلادهم، وبتفكك سوريا أيضًا، هو تمتع الأكراد بحكمهم الذاتي، وبالاتفاق الذي نزع فتيل الحرب بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، وبسط 2.5 مليون كردي في شمال سوريا سيطرتهم على مدنهم وقراهم.
وفي الجوار السوري دولتان أخريان. تركيا والأردن. فتركيا ليست بمنأى من تداعيات هذا الصراع، خصوصًا أنها استعدت إيران والعراق وسوريا، بعدما كانت نسجت علاقات حسن جوار معها. أما الأردن، فبالرغم من توجّسه من انتصار الجهاديين الإسلاميين في سوريا، فهو يسمح بوصول شحنات سلاح من السعودية برًا إلى مقاتلي المعارضة في جنوب سوريا.
خطوط خمسة متشابكة
لا يكتفي كوكبرن بجوار سوريا اللصيق، فثمة جوار أوسع، يسود فيه الخوف من انتشار للفوضى، لا يمكن معها العودة إلى نقطة الترميم. وهذا ما يدفع بالولايات المتحدة وروسيا وإيران، وبدول أخرى، إلى تقصي إمكانيات حل سياسي للأزمة، بعقد مؤتمر سلام يوقف نزيف الدم على الأقل.
يقول: “من الصعب أن نتخيل التوصل إلى اتفاق حقيقي بوجود هذا العدد الكبير من اللاعبين ذوي المصالح المتضاربة في سوريا، فإن خمسة نزاعات متمايزة تشابكت في سوريا، فالثورة انتفاضة شعبية ضد نظام دكتاتوري، وهي في الوقت عينه معركة طائفية بين السنة والعلويين، وصراع إقليمي بين السنة والشيعة، وهي نزاع عمره عشرات السنين بين إيران وأعدائها التقليديين، كالولايات المتحدة والسعودية، وهي أخيرًا تجديد للحرب الباردة بين روسيا والصين من جهة والغرب من أخرى”.
على هذه الخطوط الخمسة، يسير كوكبرن على هدى شرق أوسط جديد، في مراحله الجنينية اليوم، ويسأل سؤال العارف المتيقن: “كيف سيكون شكل النظام الجديد في الشرق الأوسط؟”. لربما حمل تشبيهه الحرب السورية بالحرب اللبنانية مقدمة لأكثر من خلاصة، يلمحّ إليها كوكبرن من دون إفصاح. فالحرب اللبنانية امتدت عقدًا ونصف عقد، وعاد الجميع إلى مؤتمر سلام، ووضعوا السلاح جانبًا إلى حين. والحرب اللبنانية انتهت إلى لا غالب فيها ولا مغلوب. والحرب اللبنانية عمقت الطائفية إلى حدود عجزت معها كل المحاولات لرأب صدع اسمه “الفتنة بين السنة والشيعة”.
هكذا، فالحرب السورية طويلة، ولا غالب فيها ولا مغلوب، وشقوقها الطائفية تتوسع جدًا. إلا أن كوكبرن لا يظنّ أن مؤتمرًا للسلام اليوم كفيل بوضع حد لهذه الحرب. ويقول: “لعل الأسد محقّ في توقعه بأن تبوء الدبلوماسية بالفشل، وأن أعداءَه في سوريا وخارجها منقسمون، بحيث لن يوافقوا على اتفاق سلام، كما قد يكون محقًا في الاعتقاد بأن التدخل الأجنبي احتمال واضح”.
ايلاف