أسطورة بيروت/ أمجد ناصر
ليست بيروت هذه التي تنقسم طوائف وأمراء حرب وشوارع يناصب بعضها العداء لبعض. ليست هذه التي لم تستطع أن تضع رئيساً في كرسي شاغر، في دولة شاغرة، في قرار محلي شاغر منذ أمد بعيد. هذا حطام بيروت. بل بيروت منقلبة على صورتها وأسطورتها. بيروت التي أقصد هي التي تعنيها الناقدة الكبيرة، خالدة سعيد، في كتابها “يوتوبيا المدينة المثقفة”.. وجاءت في كثير من كتاباتها السابقة عليه، كما جاءت في كثير من كتابتنا، نحن الذين لحقنا أواخر مجدها المتوَّج بذهب الشعر والغناء والشارع المنفتح على العالم. المدينة، أي مدينة، لا تصبح أسطورة من لا شيء. ولا من ضربة حظ. لا بدَّ من وجود استعداد ذاتي ولحظة تألق وحالمين كي يتحوَّل الواقع، بالتراكم، إلى أسطورة. وربما في حالة بيروت، في وسعك أن تعيش أسطورة المدينة، وأنت تعي ذلك. كانت خالدة سعيد، كما يعكسه كتابها، تعرف أنها تعيش في مدينة تتأسطر. ليس من جهة المديح المغالي، بل من جهة واقع يتكوَّن. يمكن أن يجادل بعضهم بأن عنوان الكتاب يناقض ما أذهب إليه، إذ إنه يتحدث عن يوتوبيا، وليس عن واقع. هذا صحيح. اليوتوبيا شيء آخر غير الأسطورة كما تعرفون. قد يتضمن الأسطورة، بمعنى الصنيع الفذ للمدينة وتميّزها عن غيرها، لكنه يتجاوزها إلى المثال الذي لا تحقق له إلا في عالم المُثُلْ. هكذا تبدو أسطورة أي شيء أدنى إلى الواقع من يوتوبياه.
تتخذ خالدة سعيد بضعة شواهد، من الواقع الثقافي البيروتي، على سعي المدينة إلى صنع أسطورتها. ليست هناك مؤسسات مال ولا تجارة ولا صناعة ولا سياحة (مثلما يحاول بعضهم اختصار المدينة) في أمثلة خالدة سعيد. ولكن، هل تصنع مجلة وبضع مؤسسات ثقافية أسطورة مدينة؟ أيمكن هذا؟ كان ذلك ممكناً في الحالة اللبنانية، مثلما كان الفنانون والكتّاب والمقاهي والجدل الفلسفي هم أسطورة باريس. حتى في حالة باريس، لا نتحدث عن مال ولا قرار سياسي دولي ولا رئيس بيده زر القنبلة النووية. كلا. نتحدث عن أنوار باريس. وهي أنوار فنية وثقافية بامتياز. بيروت، في المقابل، عاصمة لدولة هشَّة وكيان مركّب، في محيط مضطرب ذي عواصم أكبر وأغنى. ومع ذلك، فاقت بيروت تلك العواصم في قدرتها على ارتياد آفاقٍ تبدو مصمّمة للكبار. بيروت الصغيرة، المتأرجحة في محيط هائج، استطاعت، بقليل من الحرية، بقليل من المال، ولكن بكثير من الشغف والاستعداد الخاص، المتأصل فيها، أن تصنع نهضة ثقافية عربية.. ليست لبنانية، بل عربية. لأن بيروت لا تستطيع، بحكم تركيبها، إلا أن تكون كذلك عندما تنهض.
مجلة وبضع مؤسسات ثقافية (الندوة اللبنانية، اللقاء الفيروزي الرحباني، مجلة “شعر”، مجلة “مواقف”، دار الفن والأدب، وأضيف دار الآداب)، هي في قلب أسطورة، اجتلبت حالمين ومطرودين من جحيم الداخل العربي إلى مدينة تطلُّ على البحر، ولا تفتش، كثيراً، في أحشاء الكلمات، عن معانٍ كامنة، أو مراوغة، كما كانت تفعل العواصم العربية، حينذاك، ولا تزال، للأسف، تفعل بعد تحويلها ربيع الشباب إلى خريف الكهول.
وليس من المصادفة أن الذين أسهموا في صنع أسطورة بيروت كانوا لبنانيين وعرباً مكَّنتهم المدينة، الأكثر تسامحاً في محيطها، من أن يكسروا تابوهات عربية، بدت حتى لحظتها، أنها غير قابلة للكسر. فمَن كان يتصوَّر أن العرب الذين لم يروا، عندما انفتحوا على الإرث الأثيني الفلسفي والرياضي، أمَّة مخلوقة للشعر غيرهم، أن يهجروا عمود الشعر، وأن يروا الشعر في النثر، بل في القصيدة؟
حدث ذلك في بيروت. ولكن، ليست بيروت هذه: مسرح المِلَل والنِّحَل المتصارعة، على المكشوف.
العربي الجديد