أطفال جنّدهم «داعش» من السجون والمدارس والجوامع … وحوِّلهم من ضحايا إلى قَتَلة
إعداد الاطفال لمهمات القتال في أحد معسكرات «داعش» في الموصل
الموصل – محمد عواد
دخلت سيارة بيضاء اللون تحمل راية تنظيم «داعش» حي المطاحن الشعبي غرب مدينة الموصل وتوقفت وسط زقاق ضيق مكتظ بالسكان. ترجل منها ثلاثة مسلّحين، توجهوا نحو منزل فلاح عبيد، وطرقوا بابه. «مبارك يا شيخ!» قال أحد الثلاثة وهو رجل ضخم ملتحٍ، لصاحب المنزل ويده اليمنى تربت على كتفه. «ولدك رفع رأسك… استشهد مقبلاً غير مدبر وسيكون شفيعاً لك إن شاء الله عند ربّ العالمين».
ساد الصمت المكان، واكتفى أهالي الزقاق الذين تجمهروا، بالنظر في وجوه بعضهم البعض، فيما دخل الأب مطأطأ الرأس إلى باحة منزله ليعلو بعد قليل صراخ الأمّ والإخوة في الداخل. بهذه الطريقة أبلغ «داعش» عن مقتل سالم فلاح عبيد في منتصف أيلول (سبتمبر) 2015، بحسب عبدالله، أحد جيران عائلة سالم.
لم ينه سالم، 16 سنة، دراسته الابتدائية، فهو الابن الخامس لعائلة نزحت من قضاء سنجار إلى حي فقير في الموصل عام 2009 إثر موجة جفاف ضربت المحاصيل الزراعية آنذاك. قبل سيطرة «داعش» على محافظة نينوى كان يعمل في ورشة صغيرة لصناعة الأدوات البلاستيكية يملكها أحد معارف والده. يصفه صاحب الورشة بأنه كان «صبياً خدوماً ومهذّباً، خفيض الصوت وخجول الطبع». لكن سلوكه ومظهره بدأ يتغير قبل أن تبزغ ذقنه.
أواخر عام 2014 ترك سالم العمل في الورشة. أطال شعره وارتدى ما يعرف باللباس الأفغاني، وبدأ يتولى مهام داخل المدينة ضمن ما يسمى بالشرطة الإسلامية. «صار يتردد علينا أحياناً لإلقاء السلام لا أكثر»، يتابع ربّ عمله السابق.
في مجلس العزاء الذي أقيم لسالم في الحي، كانت صورة الصبيّ وأحاديثه الأخيرة عن «الجهاد والشهادة» حاضرة في أذهان عائلته وأقربائه وأصدقائه، وهي كل ما تبقى منه، فجسده كان قد تطاير إلى أشلاء عندما نفذ عملية انتحارية بمركبة ملغومة عند مصفاة بيجي في محافظة صلاح الدين.
جاره الذي كان حاضراً مراسم العزاء يقول إن سالم وزع حلوى «السّجَق» في الحيّ قبل أسبوعين من مقتله فرحاً بظهور اسمه في قرعة الانتحاريين. «ظنناه يتفاخر فقط ولم نعتقد أنه سينفذ فعلاً عملية انتحارية».
هذا الصبي واحد من آلاف يستخدمهم تنظيم «الدولة الإسلامية» وقوداً في حربه بأساليب مبتكرة، منذ أن فرض سيطرته على محافظة نينوى ومركزها الموصل في حزيران (يونيو) 2014 وأزال الحدود مع الجارة الغربية سورية.
ففي معارك بيجي وتكريت وسهل نينوى وأطراف كركوك كما في الرمادي وبلدات محافظة الأنبار ومؤخراً الفلوجة، استخدم التنظيم مئات الانتحاريين، لإحداث اختراقات في صفوف البيشمركة والجيش العراقي وميليشا الحشد الشعبي ولوقف تقدمها.
من أشبال القائد إلى أشبال الخلافة
بحسب مسؤولين محليين بنينوى، يقدر عدد الذكور دون سنّ الـ 18 سنة في المحافظة بحوالى 750 ألف نسمة. تمهيداً للغزو جنّدت الجماعات المسلحة العشرات منهم في عمليات اغتيال بالمسدسات الكاتمة والعبوات اللاصقة استهدفت وجهاء محليين وموظفين حكوميين. «كانوا يستغلون خفة حركة الصغار وعدم إثارتهم للانتباه»، يقول اللواء مهدي صبيح الغراوي قائد العمليات السابق، في إفادته أمام اللجنة البرلمانية حول أسباب سقوط الموصل.
ولم تمض أيام قليلة على إعلان «دولة الخلافة» حتى بدأ التفكير بزج هؤلاء الصبية مع أبناء القادمين من دول آسيا الوسطى وأوروبا والمغرب العربي في تنظيم خاص بهم. إذ تشير وثيقة مسربة بعنوان «مبادئ في إدارة الدولة الإسلامية» كتبت في الأيام الأولى للغزو إلى ضرورة «مراعاة التغيير الاجتماعي والتربوي الذي حصل بعد الفتح». ويصف كاتب الوثيقة، ويدعى أبو عبد الله المصري، أهمية «توطين المهاجرين الجدد وعائلاتهم في دولة الإسلام» وبناء معسكرات تدمج الأطفال من أبناء «المهاجرين» و»الأنصار»، وتكون اللغة العربية هي السائدة فيها.
هكذا وخلال أسابيع ولد مشروع «أشبال الخلافة» الذي يستهدف كل طفل ذكر من دون تحديد سن معين للتكليف. بل إن التنظيم وفي معرض مبالغته في الحشد للمشروع نشر صوراً لرضيعٍ يستلقي إلى جانب الراية السوداء وأسلحة رشاشة تحيط به.
يقول أحمد الجبوري، مدرس سابق في جامع «فتحي العلي» غربي الموصل، إن الإعلان عن افتتاح معسكرات لتدريب الأطفال في نينوى بدأ في شهر أيلول (سبتمبر) 2014 ومعه تقلصت عمليات إرسال الأولاد إلى الجانب السوري وتركزت على حالات خاصة فقط «وصلتنا في الشهر نفسه توجيهات من ديوان الدعوة والمساجد بتعميم اسم «أشبال الخلافة» أثناء الخطب والدروس».
يصعب العثور على نظير لتسمية «الأشبال» في ماضي الجماعات الجهادية في العراق. فالفصيل الوحيد المكون من صغار السن كان ذاك الذي أعلنت عنه قبل نحو عشر سنوات خلايا «القاعدة» في ديالى وحمل اسم «طيور الجنة». لكن يمكن العودة بالتسمية إلى عقد التسعينات من القرن الماضي عندما زجّ نظام صدام حسين بطلاب المدارس ضمن تشكيلات «جيش فدائيي صدام» وحملوا اسم «أشبال القائد». الفارق أن توظيفهم آنذاك كان مقتصراً على الدعاية الحربية، إذ لم تشر أي من المصادر إلى مشاركتهم الفعلية في القتال كما يحدث الآن.
دروس التكفير على الشبهات
يكشف الجبوري، أن الخطوات الأولى لمشروع «أشبال الخلافة» بدأت بوضع اليد على المراكز الدينية. فقد شن التنظيم حملة اعتقالات واسعة طاولت مئات الأئمة والخطباء، خصوصاً أولئك المقرّبين من الحزب الإسلامي (جزء من حركة الإخوان المسلمين). «هؤلاء كانوا يسيطرون على جلّ الوظائف وبالتالي على حلقات الدروس الدينية المخصصة للأولاد» يقول.
الرجل الذي تحدث عبر خدمة «الفايبر» ينوّه إلى خطورة ما حصل. فنينوى تحتل المركز الأول على مستوى العراق من ناحية عدد المساجد والجوامع، والمسجل فيها رسمياً هو 2217، ويتساءل هنا: «ترى، أي وزارة إعلام وأي وزارة تربية، ستكون أقوى تأثيراً من وضع اليد على ألفي جامع ومسجد؟».
تلقى الجبوري العلوم الدينية طوال ثماني سنوات، وصار بعدها مدرساً. وبعد أن أوكلت له مهمة شرح كتاب لنحو ثلاثين طفلاً قرر أن يلزم بيته ويعتزل التدريس. ويقول موضحاً أسباب اعتكافه «إن مناهج الدورات الحالية تكفّر على الشبهات… هي تكفّر عموم المسلمين».
وكمثال على الأثر الذي تحدثه الدروس الدينية الجديدة يقول الجبوري إنه من مجموع 140 صبيّاً شاركوا في دورات جامع فتحي العلي الصيف الماضي انتقل 15 منهم إلى معسكرات للتدرب على السلاح فبايعوا «داعش» وصاروا مقاتلين في صفوفه.
ويؤكد أن الهدف النهائي ليس تجنيد الأطفال بل خلق «مجتمع داعشي بالكامل». ويوضح: «إنهم يستخدمون الصغار في مسائل الحرب وفي تطبيق الحدود، ويوزعون عليهم الرواتب والغنائم لتصبح كافة الأسر مرتبطة بالتنظيم ومتورطة في أعماله، تتلقى منه المنافع وتتقاسم معه الثارات والدماء».
طريق الجامع
من السهل ملاحظة الإشارة إلى «المجتمع الداعشي» في أجزاء من مدينة الموصل، خصوصاً عند حلول مواقيت الصلاة. إذ يقدم إلى المساجد عشرات الأطفال بالزي الأفغاني صحبة آبائهم، يبدون لمن يراهم للوهلة الأولى نسخاً كاريكاتورية مصغرة عن مقاتلي التنظيم الكبار، لكن لمن شاهد عدداً منهم وهم ينفذون أحكام القتل العلنية في منطقة باب الطوب وسط المدينة يدرك على الفور أن الطفولة قد انتزعت منهم وبوسعهم فعل أي شيء.
في حي الزنجلي أحد المناطق الشعبية المكتظة غرب المدينة، تتلاصق البيوت الإسمنتية بكثافة إلى جانب بعضها البعض، يقطنها فقراء ومتوسطو دخل. هناك تعرّف معدّو التحقيق في شهر آب (أغسطس) 2015 إلى 23 صبياً من المبايعين، تخرّجوا في دورات شرعية وعسكرية، منهم تسعة أطفال كانوا من المواظبين سابقاً على المشاركة في دوريات كرة القدم للفرق الشعبية، من بينهم كان سمير حمادي (13 سنة).
الطريق الذي كان يوصل سمير إلى ملعب الكرة هو ذاته الذي كان يقوده إلى «جامع الهدى» في منطقة الزنجلي حيث التقطته شباك «داعش». فمنذ أن بلغ سن السابعة وهو يرافق والده إلى صلاة الجمعة.
سمير يجسّد جزءاً من التناقض الذي تعيشه المدينة. فقد قتل تنظيم القاعدة (أصبح لاحقاً الدولة الإسلامية) والده قبل نحو ثلاث سنوات بتهمة الترويج للانتخابات المحلية. على رغم ذلك انتمى إلى «أشبال الخلافة» بتأثير رفاق الكرة والجامع الذين كان يقضي معهم وقتاً أطول مما يقضيه في البيت.
أحد المدرسين في الدورات التي كان ينظمها «جامع الهدى» وشارك فيها سمير لثلاثة مواسم قبل سيطرة «داعش» على الموصل يقول إن «استعراضات مبايعة داعش تجذب المراهقين»، مضيفاً: «عندما أردت إقناع الطفل بالعدول عن المبايعة بحكم علاقتي بعائلته أجابني مبتسماً: أستاذ يجب أن نذهب جميعنا إلى الزر، لأن الله سيكون في استقبالنا، وكان يقصد الزر الذي يضغط عليه الانتحاري ليفجر سيارته أو حزامه الناسف».
صالح الذي لم يتجاوز 14 سنة كان أيضاً من فريق حي الزنجلي لكرة القدم. اعتاد قضاء معظم يومه خارج المنزل واللعب مع رفاقه، بخاصة بعد توقفه عن الدراسة كآلاف الطلاب.
في صبيحة أحد الأيام قبل أربعة أشهر خرج ولم يعد. يقول أبوه: «بحثنا عنه في المستشفيات والطب العدلي ومخفر الشرطة الإسلامية القريب ولم نجده. أمضيت الليلة من دون نوم، وفي اليوم التالي علمنا أنه التحق بمعسكر التدريب في منطقة صحراوية بقضاء البعاج».
يتابع الوالد: «قصدت المعسكر صحبة قريب لي تربطه معرفة بأحد المسؤولين هناك، وتمكنا من لقاء القيادي وطلبنا منه إعادة ابني، فخرج الرجل بمفرده وبعد ساعة عاد ومعه صالح الذي بدا متعباً. عندما رآني علت وجهه ابتسامة عريضة».
حين وصل والده، صالح لم يكن قد بايع التنظيم بعد. قال قريبه: «لحسن الحظ وصلنا سريعاً، وإلا كان صعباً علينا استرجاعه».
دفعات «المجاهدين» الأشبال
سمير وصالح على رغم صغر سنهما، لا ينتميان إلى الجيل الأول من مشروع الأشبال. فكما تشير شواهد عدة، تم التقاط الدفعات الأولى من الصبية من السجون أو من أبناء المقاتلين الذين شاركوا في عملية اقتحام المدينة.
وبقدر تعلق الأمر بمحافظة نينوى فإنه حتى حزيران (يونيو) 2014 كان في الموصل أكثر من 500 سجين وموقوف دون السن القانوني، 65 في المئة منهم مدانون بالإرهاب. «نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا في الحقيقة أبرياء اعتقلتهم الأجهزة الأمنية لابتزاز عائلاتهم أو لأسباب طائفية»، يقول يونس الجبوري، ضابط شرطة برتبة مقدم، ويتابع: «لم يكن ثمة عزل بين الأحداث لذلك كان من السهولة تجنيدهم».
أبو عبيدة، خطيب مسجد في شرق الموصل بايع «داعش» حفاظاً على حياته، يؤكد هو الآخر أن أول دفعة متطوعين دون سن الـ 15 سنة كانوا أقرباء لمقاتلين أو سجناء سابقين، وقد انطلقت إلى مدينة الرقة السورية مطلع تموز (يوليو) 2014، إذ لم يكن هناك وقتها معسكرات داخل نينوى.
من بين هؤلاء كان حاتم، عمره اليوم 15 سنة، لديه أشقاء ثلاثة معروفون قبل الغزو بنشاطهم في التهريب عبر الحدود السورية العراقية. أمضى حاتم ثلاثة أسابيع في سورية عاد بعدها بهيئة جديدة محاكياً جنود «داعش» في الزيّ وطريقة الكلام.
يقول أبو عبيدة إن «الصبي بعد تخرجه من الدورة صار يتصرف وكأنه رجل بالغ، يشارك في مجالس العزاء ويتحدث إلى رجال بعمر والده، يعظهم ويأمرهم بتقوى الله». ومع أن حاتم لم يشارك في أي من الأعمال القتالية، إلا أنه يقود اليوم سيارةٍ رباعية الدفع ويرافق وفود ديوان الدعوة والمساجد في زيارات إلى المدارس لحضّ التلاميذ على المبايعة، مستشهداً بنصوص دينية يردّدها بطلاقة.
أبطال عروض التجنيد
ثمة خطوات مساعدة ابتكرها «ديوان الدعوة والمساجد» لجذب الأحداث وتجنيدهم في صفوفه، منها «القوافل الدعوية»، وهي شاحنات ركاب تحمل ملصقات ترويجية تجول الأماكن العامة كالمنتزهات والأسواق، وتؤدي عروضاً في الهواء الطلق، أبطالها لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة، ما أن يتحلق حولهم الأطفال حتى يبدأوا بإلقاء خطب حماسية.
في مدينة ألعاب الموصل، أكبر منتزهات الأطفال في نينوى والتي تقع في منطقة الغابات، يواظب «الديوان» على تسيير هذه القوافل خاصة في العطل والأعياد، يظهر فيها أولاد مدججين بالأسلحة يروجون للبيعة والجهاد.
أحدهم كان يصيح عبر مكبرات الصوت فيما يتحلق حوله العشرات: «اسمعوا إنني ناصح لكم يجب أن تجاهدوا في سبيل الله وتبايعوا الخليفة». ويأتي من بعده صبي آخر يحاول تقمُص دور أبو بكر البغدادي حتى في ارتداء الساعة بيده اليمنى، ليردد أناشيد حماسية. أما الأطفال الذين هرعوا راكضين باتجاهه فكانوا ينظرون إليه بإعجاب.
يقول أمين مراد موظف في المنتزه، إن أعضاء التنظيم ينادون بمكبرات الصوت الأطفال للتوقف عن اللعب والقدوم للمشاهدة، ويستعينون بصبية يتمتعون بصوت جهوري وبنية جسمانية سليمة وشعر طويل وشخصية مؤثرة لجذب أكبر عدد من المتفرجين. ويتابع مراد: «يتم توزيع الحلوى على الأطفال وتنظيم مسابقة تتضمن الإجابة على أسئلة دينية، وينال الفائزون جوائز عينية كالألعاب والملابس والكتيبات وغيرها».
أحد أبطال العروض يدعى عبيدة (12 سنة) تعرف إليه معدو التحقيق من طريق أحد أقاربه، فهو ابن قيادي داعشي يدعى أبو أسد العراقي قتل بغارة جوية للتحالف الدولي في أيار (مايو) 2015. ونقلاً عن قريب عبيدة فإن الطفل تلقى تدريباً على إلقاء الخطب وحركات هز اليد وفرد السبابة ومهارات التواصل مع الجمهور في المكتب الإعلامي لـ «داعش».
مراكز دعائية في الأزقة
في موازاة القوافل، ظهرت في آب (أغسطس) 2014 النقاط الإعلامية، بينها أربع نقاط ثابتة توزعت في المناطق المكتظة بالمارة، تركز عملها على بث مواد فيلمية وأخبار دعائية فضلاً عن توزيع أفلام ومطبوعات، كمجلة «الميسرة» الإلكترونية التي يصدرها المكتب الإعلامي لـ «داعش».
بعد نحو عام ونصف العام صار عدد النقاط الإعلامية أكثر من سبعين، نصفها تقريباً أنشئ عند مداخل الأحياء الشعبية الكبيرة حيث تنصب غرفٌ من الصفيح وتثبت شاشات كبيرة على الجدار الخارجي لها وتزود بحاسوب محمول (لابتوب) موصول بمكبرات صوت، لتكون جاهزة لبث الأخبار والأفلام بين فترة وأخرى.
في حي القاهرة شرق الموصل، حيث توجد نقطة دعائية، تَعَوَد محمود إبراهيم (15 سنة) وأصدقاؤه التردد إليها لقضاء أوقاتهم في مشاهدة ما تعرضه الشاشات، فالأجواء مهيئة هناك والمقاعد وفيرة. وإذا ما أشاح أحدهم وجهه عن مشاهد قطع الرقاب والأطراف يصرخون بوجهه ضاحكين: «هي هي جبّونة (يا جبان!)».
هذه النقاط توفر المقررات الخاصة بمعسكرات التدريب مثل مقرر «فقه التوحيد والجهاد»، وهي ترشد من يريد التطوع إلى المكان الذي يجب أن يقصده. الصبي محمود، توجه إلى جامع «الأوابين» في حي 17 تموز بعد صلاة الجمعة، فسجّل اسمه وحصل على موعد للالتحاق بالمعسكر.
4500 «شبل مجاهد»
طوال عامين من سيطرتها على مدينة الموصل، تمكنت أجهزة «الدولة الإسلامية» من تجنيد مئات الأطفال، سواء كمقاتلين على الجبهات أو عيون للدولة داخل المدينة أو انتحاريين تحت الطلب مع سهولة إقناعهم وتطويعهم كما يريد.
تؤكد مصادر التنظيم التي أجريت مقابلات معهم، ومعظمهم أئمة مساجد بايعوا الخليفة أبو بكر البغدادي، إعداد خمس دورات متكاملة في عدة معسكرات وأكثر من مكان منذ أيلول (سبتمبر) 2014 وحتى نهاية العام 2015، يقدر عدد الخريجين فيها بنحو 4500 من الأطفال الذكور في ولاية نينوى وولاية الجزيرة (مناطق شمال غرب وغرب وجنوب الموصل) وولاية دجلة (محافظة صلاح الدين وجزء من نينوى) وولاية الفرات (محافظة الأنبار). وتقدر حصة نينوى منها بأكثر من ألفي طفل.
وبحسب ليلى زروقي، الممثلة الخاصة في الأمم المتحدة المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، فإن نحو 700 طفل قتلوا أو أصيبوا بتشوهات مستديمة في أنحاء مختلفة من العراق منذ بداية العام 2014 جراء استخدام البعض منهم أثناء هجمات انتحارية.
فيما وثق المرصد العراقي لحقوق الإنسان في تقرير يغطي النصف الأول من العام 2015 تنفيذ 40 طفلاً من نينوى والأنبار عمليات انتحارية أثناء المعارك في المناطق التي تقع بين قضاء بيجي ومدينة تكريت في صلاح الدين.
يرى جميل عيسى، وهو ناشط مدني رصد العديد من عمليات تجنيد الأطفال بنينوى، أن التنظيم لجأ إلى كل الوسائل المتاحة لتجنيد الأطفال «أدخلهم في معسكرات خضعوا فيها لتدريبات عسكرية ولعملية إعادة تشكيل عقلية، بهدف استخدامهم كعيون لمراقبة محيطهم أو لتحويلهم إلى انتحاريين أو الاستفادة منهم للدعاية أو إعدادهم كنواة لجيل جديد مؤمن بالسلفية الجهادية».
وينبه عيسى إلى المخاطر التي يشكلها أشبال التنظيم مستقبلاً «الأمر لا يتعلق فقط ببضع مئات من الانتحاريين الموزعين في الجهات أو المرسلين إلى الأسواق العامة لتفجير أنفسهم، إنه أعقد، فهناك من جند للعمل في جهاز الحسبة وهناك من كلف بمهام المراقبة السرية، سيظل هؤلاء بمثابة قنبلة قابلة للتفجير في أية لحظة، بعد أن أشبعوا بالفكر الجهادي التكفيري، وفي أحسن الأحوال هم وقود لأية جماعات متطرفة قد تظهر مستقبلاً».
يُذَكّر عيسى بأن نسبة كبيرة من «أشبال داعش» هم ممن فقدوا آباءهم وأشقاءهم الذين كانوا مقاتلين في التنظيم «سيكون من الصعب إعادة تأهيلهم في ظل غياب الدولة، وانعدام خطط مواجهة العُقد الكثيرة لمرحلة ما بعد طرد التنظيم، ووسط الصراعات المذهبية والسياسية التي ترسم ملامح خطط التحرير».
* أنجز التحقيق بدعم من شبكة «نيريج» للصحافة الاستقصائية وبإشراف كمي ملحم
الحياة