أطياف المستبد العادل/ ممدوح عزام
يُحكى أن نجيب محفوظ كان حاضراً في ندوة فكرية لتوفيق الحكيم، وأنه نهض غاضباً بعد أن سمع الحكيم يقول إن لا خلاص للمصريين إلا بوجود مستبد عادل يحكم البلاد، وينجيها من حالة التخلّف الذي ترزح تحته. في تلك الندوة وجّه محفوظ اللوم إلى الحكيم وفكرته: لا يمكن أن يكون الحاكم مستبداً وعادلاً في الوقت نفسه.
اللافت في الأمر أن الحكيم كان قد صاغ مثيلاً لهذه الفكرة في روايته “عودة الروح” الصادرة عام 1933، عندما جعل محسن، وهو إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، يتحدث عن حلمه بأن يصحو على زعيم عظيم مستبد، يعيد الروح إلى مصر. “فمصر التي نامت قروناً كانت تنتظر ابنها المعبود” كما كتب الحكيم. وثمة من يردّد بأن جمال عبد الناصر كان قد قرأ الرواية في شبابه، وأعجب بها كثيراً، أو أنه أعجب بهذه الفكرة بالضبط.
لم يكن الحكيم هو صاحب الدعوة إلى فكرة المستبد العادل، وإنما أخذها من الشيخ محمد عبده الذي كتب في نهاية القرن التاسع عشر مقالة كان عنوانها “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”، رداً على الداعين إلى الأخذ بالحياة النيابية في السياسة. وفي تلك المقالة تتكرر العبارات التي تبدأ بسياسة المستبد القاهرة، تتلوها العبارات التي سيرغم الناس فيها على صلاحهم على هذا النحو: “مستبد يكره المتناكرين على التعارف، يقهر الجيران على التراحم، يحمل الناس على رأيه في منافعهم.. يثني أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم”.
وفي الآونة نفسها تقريباً كتب عبد الرحمن الكواكبي كتابه “طبائع الاستبداد”، وهو يشبه الرد على تطلعات محمد عبده. ليس لدي في المراجع التاريخية ما يؤكد هذا الاحتمال، غير أن رسالة الكتاب المضادة للاستبداد تقول إن موقف الكواكبي الفكري يذهب في اتجاه نقيض لاتجاه محمد عبده: “عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية”، وإنَّ “الاستبداد يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط”.
وعلى الرغم من أنّ كتاب الكواكبي طبع عشرات المرات في العالم العربي، وأن بعض تلك الطبعات نشر في كتاب مرافق لمجلة، بما يضمن انتشاره وضخامة عدد النسخ المطبوعة منه، فإن ما تسلل إلى اليومي الشفوي العربي إنما هو فكرة محمد عبده، لا فكرة عبد الرحمن الكواكبي.
يمكن للمرء أن يلاحظ وجود الآلاف ممن يقفون على رصيف انتظار ذلك الابن، وقد منحوه أسماء مختلفة، فهو المخلص في آن، أو هو المهدي المنتظر، أو هو المسيح العائد. على أن الأخطر من ذلك كله هو أن يقابل المرء رجلاً أو امرأة ويسمع كلاً منهما يدعو إلى حضور هذا المستبد المخلّص، كي يواجه الخراب.
يعرف المستبد خصومه جيداً، فيلاحق الكواكبي في لقمة عيشه، ويحرمه من العمل، وحين يجد أنه لا يطال قامته، يرغمه على الرحيل من دياره في حلب، حيث يختار مصر ليستقر فيها، فيرسل له أخيراً من يدس السم في فنجان قهوته.
العربي الجديد