أغاثا كريستي… السورية/ صبحي حديدي
ملاقاةً، أغلب الظنّ، للاهتمام العالمي الذي اكتنف أعمال «داعش» الإرهابية ضدّ آثار العراق وسوريا، اعتزمت دار النشر العالمية «هاربركولنز» إصدار طبعة جديدة من «الكتاب المنسيّ»، الذي يحدث أنه لكاتبة غير منسية، في واقع الحال: أغاثا كريستي (1890ـ1976)، مؤلفة أكثر من 90 كتاباً، بين رواية بوليسية وعاطفية وأدب رحلات ومذكّرات، وحاملة أرقام في المبيعات تحتلّ المرتبة الثالثة بعد شكسبير والكتاب المقدّس. «تعال حدّثني كيف تعيش»، عنوان الكتاب، يروي أسفار كريستي في العراق وسوريا خلال الفترة بين 1934 و1939، صحبة زوجها عالِم الآثار ماكس مالوان، الذي كانت قد تزوجت منه مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم.
في العراق زارت كريستي مدينة نمرود، التي دمّرت «داعش» الكثير منها بالفعل. كما زارت ضريح الشيخ عدي بن مسافر، مجدّد العقيدة الإيزيدبة، في كردستان. أمّا في سوريا، فقد جالت، صحبة زوجها وضمن الوفد الأركيولوجي، على مناطق الشمال الشرقي بصفة خاصة. فتوقفت في مدن القامشلي والحسكة ودير الزور والرقّة وحمص وحلب، وفي بلدات مثل عامودا ورأس العين وعين عروس وشاغر بازار، وعلى سفوح تلال أثرية مثل تل حلف وتل طويل وتل عجاجة وتل رمّان وتلّ براك؛ فضلاً عن تدمر، التي خصّتها كريستي بمقاطع أخاذة من حيث الوصف الطبيعي والإنصاف التاريخي.
تكتب كريستي: «سبع ساعات من الاتساع الرتيب، وها نحن في تدمر! تدمر الحلم، والفتنة الخبيئة التي تتدفق بدون إنذار، ثم تزكم الأنف قبل أن تخطف البصر. إنها ساحرة وعجائبية ومدهشة، ولها كلّ ما للحلم من خصائص الحمّى والتوهج والحرّية. لم يكن في وسعي أن أحدّد علاقتي النهائية بتدمر، باستثناء أنها الحلم، والحلم في رؤيته الأولى فقط». مخيّلتها، أسيرة النصوص الاستشراقية بالضرورة، كانت قد التهبت بمشاهد الصحراء («بعد المدنية»، كما تقول في وصف الطريق من بيروت إلى حمص)؛ لكنها اتخذت سمة وصفية خاصة، تمزج الانشداد البصري بالتأمل الفلسفي: «بدت الدروب مثيرة للحيرة، ويحدث بين الحين والآخر أن ينبثق لوريّ ما، كأنّ الأرض انشقت عنه وأرسلته من العدم. ثمة باعث غامض على الرعب، ولكنه في الآن ذاته بالغ السحر».
ولا يخلو الكتاب من حسّ التهكم على جهل النُخب البريطانية بجغرافية الأرض ذاتها، التي يعتبرونها مهد الكتاب المقدّس: «أذكر أنّ العديد من أصدقائنا في بريطانيا كانوا يسألونني: ‘أين تنقبون؟’. فأجيب: ‘في سوريا’. وكنت أشعر بتلذذ خاصّ حين يرتبك السامع وهو يهمهم: ‘سوريا… سوريا… أليست فلسطين؟’. ‘كلا يا صديقي، وشطارتك في حفظ الإشارات التوراتية من صلاة الأحد لن تنفع هنا!’. ويلجأ السائل إلى الهجوم: ‘ولكن، ألستم قريبين من مدينة ما؟’. وأجيب: ‘بالطبع، حلب على مبعدة مئتَيْ ميل’. ويتنهد السائل، ثم يستسلم نهائياً». وثمة، أيضاً، نقد صريح للمؤسسات الاستعمارية، البريطانية في العراق، والفرنسية في سوريا؛ وسخرية مريرة من عقلية السيّاح الأوروبيين، مقابل التقاط دائم لذكاء أبناء البلد، وإطراء لسلوكهم الإنساني (شخصية حمودي، مثلاً: البدوي السوري الذي تطلق عليه كريستي صفة «المفاوض البارع والأركيولوجي الساخر»).
خاتمة الكتاب طافحة بالحنين، إلى سوريا تحديداً: «مبهج أن أتذكّر أنّ هضبة أزهار القطيفة التي زرعتها قرب بيتنا في شاغر بازار، تزهر في هذه اللحظة بالذات (…) إنني أعشق ذلك البلد الخصب المعطاء، وأعشق أهله الطيبين الذين يعرفون كيف يضحكون وكيف يستمتعون بالحياة، والذين يعيشون في غبطة، ويمتلكون الكثير من الكرامة والاعتزاز والعادات الراقية، مثلما يمتلكون الحسّ الاستثنائي بالنكتة والمرح، ولا ترهبهم فكرة الموت. وإن شاء الله سأذهب إلى هناك من جديد، راجية ألا تكون الأشياء التي أحببتها قد اندثرت على تلك الأرض». وبمعزل عن جرائم «داعش» ضدّ آثار سوريا والعراق، هل كانت كريستي تتخيل جرائم لا تقلّ بشاعة ضدّ أوابد أخرى، سوف يرتكبها نظام آل الأسد؟ وهل كانت مهاراتها السردية سوف تسعفها في توصيف حجم الخراب، الذي سيُلحقه بسوريا أولئك الذين ولدوا على أرضها؟ ومقدار الدماء التي ستُراق حفاظاً على سلطة/ مزرعة استبداد وفساد، وميليشيات وارتهان وتبعية؟
من الإنصاف القول إنّ توقيت إعادة إصدار كتاب كريستي يخدم أيضاً، ومن حيث لم تحتسب دار هاربركولنز، في استعادة تلك السهوب والوديان والهضاب والتلال والصحارى والأنهار التي فتنت كريستي؛ ويردّ، إلى مَنْ تنفعه الذكرى، شخصية سوريا القياسية: آبدة وعريقة وعتيقة، نابضة بالتاريخ والحضارة؛ وحيّة، هيهات أن يدمّر روحها قاتل أطفال، أو إرهابي مسعور.
القدس العربي