أفلام «أبو نضّارة»: البركان الذي انفجر كان فينا منذ زمن بعيد/ تهامة الجندي
يوم الجمعة هو يوم التظاهر السلّمي في سوريا، وهو اليوم الذي تضع فيه مجموعة «أبو نضّارة» فيلمها الجديد على صفحتها في الفيسبوك، تقليد بدأته المجموعة مع ولادة الثورة، ولا يزال مستمرا، مع أن أفلامها لا ترّصد التظاهرات ولا جرائم النظام، ولا تحتفي بالنشطاء ولا المقاتلين. تلتقط الحياة العادية بتفاصيلها وتنوّعها، بناسها البسطاء في أماكن عيشهم وعملهم، وطقوس يومهم، تحاور عذاباتهم وضيقهم ويأسهم، أحلامهم المكسورة وهي تختلط بإصرارهم على التغيير، تستلهم صبرهم وتوقهم إلى الحرية، أولئك الناس المحرومين من صورهم وأصواتهم في وسائل الإعلام الرسمي ومنظومة السلطة المستبدّة.
الاسم يحمل دلالتين، الناس يكنّون باسم المهنة التي يمارسونها، وعدسة التصوير هي الأقرب إلى عدسة التكبير. و»أبو نضّارة» كذلك هو عنوان جريدة ساخرة، افتتحها يعقوب صنّوع، تيمّنا باللقب الذي كان العامة يطلقونه عليه. والمجموعة لم تُولد من رحم الثورة السورية، بل كانت قد تأسست قبل عام من انطلاقتها، ولم تعلن عن قيامها بحملة دعائية، ولا بمؤتمر إعلامي يتصدر منّبره طاقم عملها. عرّفت عن نفسها بما تنتجه من مشاهد تسجيلية تجريبية، تُعرض على شبكة التواصل، ولا تحمل أي توقيع سوى توقيع «أبو نضّارة». شقت طريقها بذكاء وتواضع، وأنتجت حتى اللحظة نحو مئة وخمسين فيلماً قصيرا ومتوسط الطول، وصلت إلى المتلقّي السوري، ثم العربي فالعالمي، وشارك بعضها في العديد من المهرجانات، وبعضها حاز جائزة أفضل فيلم قصير، مثل فيلم «الله والكلاب».
لم تأتِ المجموعة من فراغ، كانت جزءا من حراك ثقافي سينمائي، أخذ يظهر في سوريا، خارج دوائر الإنتاج التقليدية، الحكومية والخاصة، مع بداية الألفية الثالثة، تزامن مع دخول تقنيات الديجيتال إلى الساحة الفنية، وعبّر عن نفسه بالمبادرات الفردية، وولادة ظاهرة الأفلام المسّتقلة، وكان من أهم نتائج هذا الحراك، أن أطلقت شركة «بروآكشن فيلم» الحديثة النشأة حينها، أول مهرجان دولي للأفلام التسجيلية في ربيع 2008. وأن بلغت حصيلة الإنتاجات المسّتقلة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حوالي خمسين فيلما، أغلبها من الأفلام التسجيلية القصيرة والمتوسطة الطول. وهو رقم يلفت الانتباه، بغض النظر عن مستويات التجربة، لأنه أعقب مرحلة من الركود، كاد فيها الفيلم السوري أن يلفظ أنفاسه تحت وطأة الرقابة والروتين. ولأن حصاد السينما السورية، بكافة جهاتها المنتجة، لم يتجاوز المئة وتسعين فيلما روائيا طويلا، ومئة فيلم وثائقي، خلال أكثر من ثمانين سنة على تاريخ ولادتها في عام 1927.
شارك في ذاك الحراك مخرجون من مختلف الأجيال، سيما الجدد والمغمورين، كانوا يرمون إلى كسر احتكار المؤسسة العامة للإنتاج السينمائي، وكسّر التصوّرات الذهنية المسّبقة عن الفيلم السوري كحامل للقضايا المصيرية الكبرى. كانوا يرغبون في أن تخلع السينما عنها عباءة الشعارات والادعاءات، وتذهب مباشرة إلى الحياة في أكثر مناطقها بداهة وعمقا، وربما كان أغلبهم يحاول اقتفاء أثر المخرج عمر اميرلاي.
ضمن هذا السياق ظهرت أفلام «أبو نضارة» الإثني عشرة في عامها الأول، لقطات قصيرة بطول خمس إلى ست دقائق، تحاول خرق الصورة النمطية التي يتداولها الإعلام المحلي والعربي عن المجتمع السوري، بوصفه مشروع مقاومة وممانعة لدولة العدو، وواقع مثالي للتعايش بين الأديان والطوائف، صنعه الحكم العلماني البعثي بلمسته السحرية!
الأفلام الأولى صُورت ونُفذت، ونُشرت على الإنترنت بمنتهى السّرية، من دون أية أذون أو موافقات من قبل وزارات الإعلام والثقافة والإرشاد القومي أو المؤسسة العامة للسينما، كانت تدور حول حياة الناس، وتتجاهل الخطاب السياسي، ولم يكن فيها ما يستفز الرقيب، كانت بمثابة اختبار له. كما ذكر لي (ش) أحد أعضاء مجموعة «أبو نضّارة»، وأضاف: «أردنا أن نثير فضول المشاهد بالسؤال، من نحن، ماذا يعني اسم المجموعة، ولماذا السّرية؟ هل ثمة أمر خطير وراءها؟ حاولنا اللعب على موضوع السّرية التي تحيط بالمناضل السياسي. حالة الغموض والالتباس، تجعل المشاهد يعيد النظر بالصورة التي تصله».
المتابع لأفلام «أبو نضّارة»، يلحظ أنها تندرج في إطار مشروع متكامل، منذ لحظة التحضير الأولى، وحتى لحظة العرض ورجع الصدى، ما يعني أنها ليست وليدة الهواية، إنما الاحتراف؟ قلتُ، قال (ر): لسنا محترفين، حاولنا أن نصنع أفلاما كمخرجين، وبئنا بالفشل الذريع، ولم يقبل أحد بمشاريعنا، فاشتغلنا بالوسط الثقافي، كتبنا ونشرنا، لكن كان عندنا مخزون ثقافي، وفي داخلنا غضب، نريد أن نكسر الحاجز الذي يمنعنا من العمل السينمائي. عندنا إرث فتحنا أعيننا عليه، كنا نذهب إلى السينما، ونرى صورة مغايرة تماما لما صارت عليه. في طفولتي أخذتني أمي إلى السينما لحضور فيلم «أموت مرتين وأحبك»، وفي العتمة رأيت ما أصابني بزلزال، رأيت امرأة عارية في المجتمع المحافظ الذي أنتمي إليه، كنت أتخيل أن الأمر مستحيل، أحسست لأول مرة أن نافذة انفتحت أمامي، ما كنت أتصوّر أن تنّفتح في الفضاء العام، وتخرجني عن الحدود الضيقة لمجتمعي، السينما جعلتني أرى الجسد بتفاصيل الحرية، جسد المرأة الممثلة «إغراء» كان مصوّرا بشكل جميل، بشاعرية الصوفيين حين كانوا يتغنون بالحب، ثمة سينما شعبية من دون ابتذال، كانت قد بدأت بالظهور، كما في السينمات الغربية، تستطيع أن تقدم للمشاهد قصة تشعره بحياته، تقدم خيانة زوجية سببها الفقر، خيانة لها مبررات تنسف الضوابط التي يقوم عليها المجتمع.
وتم تقويض هذه السينما لصالح التلفزيون! عقبّتُ، قال: بات من المعروف أن السيطرة على الناس في بيوتهم، لا تحدث إلا عن طريق التلفزيون. السينما مثل الشعر تستدرج الأسئلة، وتدعونا إلى الاكتشاف، وأحيانا إلى الخروج عن جلودنا، والمضي نحو المجهول، بعكس تلفزيون النظام الذي رغب باستلابنا، جعلنا نعيش في قوقعة، أغلقها علينا، جعلنا نجتر الصور القديمة من خلال مسلسلات الفانتازيا. النظام قضى على السينما وراهن على التلفزيون، صار عندنا صناعة مزدهرة لإنتاج الدراما التلفزيونية، بينما انحسر الإنتاج السينمائي إلى فيلم أو فيلمين في العام، إنتاج قليل لا يراه الناس، لعدم وجود دور عرض لائقة، أو لمنع الأفلام الجيدة من العرض، إنتاج بلا مشاهد ولا تقاليد سينمائية، ونحن ورثنا هذا الانكسار، وحين سنحت لنا الفرصة، أن نتواصل مع الجمهور عبر الإنترنت، لبينا النداء.
بدأنا قبل الثورة، وفي ظلها كانت أدواتنا مهيأة، وكنا في الخندق، كانت لدينا أشرطتنا المصوّرة، واشتغلنا عليها، الصورة السينمائية منحتنا هذه الحرية، فنحن لسنا صحافيين في نقل مباشر. كان «طلائع» أول أفلامنا بعد الثورة، يصوّر تلاميذ في باحة المدرسة، يحيون العلم، هذا المشهد من الذاكرة الجمعية السورية، كلنا كنا طلائع، وحيينا العلم. العدسة تقترب من وجه طفلة صغيرة، أحدهم يعنّفها، ويأمرها بأن تقول: وحدة، حرية، اشتراكية، تلتفت، وتسمع صوت المتظاهرين. نحن وضعنا أصوات الثورة على مشاهد كنا صورناها، كي نقول أن زمن الثورة لا يتطابق مع نشرات الأخبار على «الجزيرة» و»العربية»، البركان الذي انفجر، كان موجودا فينا منذ زمن بعيد، وكي نعبّر عن عمق وجذور هذا الحراك، كان يجب أن نخلط الزمنين.
وماذا عن ظروف التصوير في زمن الثورة؟ سألت، وأجابت (ي): أولى محاولات التصوير كانت مخيّبة، بعد فترة عرفنا كيف نترك مسافة بيننا وبين المكان الذي يتواجد به الإعلامي، أن نصوّر في الأماكن التي لا يضيئها الإعلام، بتنا نذهب إلى المتظاهر، قبل أن يخرج إلى الساحة، وبعد أن يعود منها، نذهب إلى المقاتل من الجيش الحر أو جيش النظام، ونسأل ماذا حصل له، حتى رفع السلاح في وجه أخيه السوري؟ نلتقي مقاتلا في بيته بعد أن سلّم سلاحه. أحيانا نستعين بلقطات موضوعة على اليوتيوب، صورها اناس مجهولين، أو متخفين بأسماء مستعارة، وهناك مقاطع مصوّرة بالهواتف النّقالة يرسلها لنا النشطاء، وفي بعض الأحيان نلجأ إلى اللقطات الإخبارية. مع ذلك ليس في أفلامنا إشارة إلى تاريخ أو مكان محدد، ثمة دلالات إنسانية خالصة، والسؤال بالنسبة لنا، ليس الوصول إلى قلب الحدث، إنما الوصول إلى قلب المجتمع، واستمالة المشاهد عبر الأسئلة والالتباس والقواسم المشتركة، أيا كانت جنسية هذا المشاهد، وأيا كان موقفه من الثورة.
المصادر متعددة، ولكن ماذا عن الرؤية السينمائية، معدات التنفيذ، أشكال الدعم، ورسالة الفريق؟ تساءلتُ، وقال (ف): نحن مجموعة صغيرة، بيننا أشخاص يعملون بشكل منتظم، ويقررون أي الأفكار سنشتغل عليها، نعدّ الفكرة، ونبدأ بتنفيذها، وهناك من يقترح أفكاره علينا، أو يرسل لنا أشرطة جاهزة، ونقوم بتصنيعها. في الحالتين ثمة رؤية سينمائية نحاول تطبيقها على الصور، أثناء المعالجة الفنية والمونتاج وإضافة الصوت والمؤثرات، حتى تُوضع المقاطع في إطار فكرة محددة، وسياق معين مبني بشكل درامي مدروس. رسالتنا أن ننقذ صورة المجتمع من أي وصاية تُفرض عليه، وتختصر الثورة بشخص أو بطل أو رمز أو خطاب سياسي. معداتنا بدائية جدا، وأغلب من يعمل معنا من المتطوعين، عرضنا الأول على النت، ومشاركتنا في المهرجانات، مشاركة رمزية من خارج المسابقات، ولا يصلنا أي دعم مالي من أية مؤسسة. عملنا قائم على الرغبة، والحافز الأول لشغلنا هو قبولنا، ولدينا خطة تحريرية جمالية، أن يظهر الناس بصورة لائقة، بعيدا عن مشاهد الجثث والتعذيب. أبطالنا أولئك البسطاء المستضعفين، المسحوقين، المحرومين من أبسط حقوقهم، هؤلاء يجب أن يفرضوا احترامهم على المتلقي، ولأول مرة يُعجب الجمهور السوري والعربي والعالمي بأفلام، من دون أن يعرف من يصنعها، وهذا يكفينا أن تلبي أفلامنا حاجة الناس لصورة بديلة.
لقائي بأبي نضّارة، ذكرني بجملة مارسيل مارتن في كتابه «اللغة السينمائية»: «إذا كان صحيحا أن الحافز العميق لكل نشاط بشري، هو البحث عن السعادة، فإن ما يُرجى من السينما دائما، أن تعكس بعاطفة وبعد نظر، صراع الناس في سبيل الحصول على هذه السعادة، وعلى مكوناتها، الحرية، العدالة والحب».
[ لقائي بمجموعة «أبو نضّارة»، جرى في مقهى «ستار باكس» ببيروت مساء 26 آذار 2014. وبناء على طلب المجموعة، أغفلتُ الأسماء.
المستقبل