أكتب وأنا أقضم أظافري/ إيتالو كالفينو
تورين 8-11-1946
عزيزي ميكيلي*
وبّختُ الكثيرين، خصوصاً نيكوسيا الأبله ذاك، لأن أحداً لم يخبرني أنك كنت هنا. وددت لو قابلتك شخصياً، وتناقشت معك وجادلتك، وربما تشاجرت معك أيضاً!
ذلك لأنني أظن أن اجتماعنا سوياً سينتهي إلى ضرب أحدنا الآخر. إن أتيتَ مجدداً إلى تورين، اطلب منهم أن يبحثوا عني ويخبروني أنك هنا.
أعرف أنك تكتب أطناناً كل يوم، رواياتٍ محبوكة، حول سِفاح المحارم، حول جرائم، رواياتٍ ساخنة، وأخرى فاترة، روايات تجري فيها مياهٌ حارةٌ أو باردة.
يملأني هذا بالحسد لأنني ما زلت أضيّع وقتي هنا. كنت آمل أن أجمع قصصاً قصيرةً في كتاب صغير، قصصاً لطيفةً، أنيقةً، مرتبة، لكن بافيزي رفض الفكرة، وقال إن القصص القصيرة لا تُباع، وإنه يتوجب عليَّ أن أكتب رواية. لا أشعر الآن بضرورة ملحة لكتابة رواية. أستطيع كتابة القصص القصيرة لبقية حياتي. قصصاً لطيفة مقتضبة بحيث تستطيع أن تنهيها بمجرد أن تبدأ بكتابتها. قصصاً تكتبها وتقرأها دون أخذ استراحة، مستديرة وكاملة كالبيض، قصصاً إن أضفتَ أو حذفتَ منها كلمةً واحدة يتفكك النص كله.
أما في ما يتعلق بالرواية، فدوماً ما تحتوي على لحظاتٍ ميتة، على أجزاء حيث تربط مقطعاً بآخر، شخصياتٍ تشعر بأنها ليست مكتملة تماماً. تتطلب الرواية مقاربةً مختلفة، أكثر استرخاءً ولا تتطلب أن تتوقف عن التنفس وأسنانك تصِرّ مثلما أفعلُ حين أكتب. أكتب وأنا أقضم أظافري، هل تقضم أظافرك حين تكتب؟ ينقسم الكتّاب إلى فئتين: هؤلاء الذين يقضمون أظافرهم حين يكتبون، وهؤلاء الذين لا يفعلون. وبعض الكتّاب يكتبون وهم يلعقون أصابعهم.
لا تعتقد أن لا أفكار رواياتٍ في رأسي. لدي أفكارٌ تكفي لعشر روايات. لكني أستطيع التنبؤ بالروايات الفظيعة التي سأكتب حول كل فكرةٍ منها، إذ لديّ أيضاً أفكارٌ نقدية و”نظرية متكاملة حول الرواية الكاملة”، وهذا ما يربكني.
الأبله المعتوه نيكوسيا يكتب روايةً جيدة حول الانفصاليين الصقليين، ستكون رواية ناجحة، إذ لديه أسلوبٌ خاصٌ وجديد. ناتاليا أيضاً تكتب رواية، شأنها شأن بافيزي. أنا أيضاً بدأت بكتابة رواية: كتبت أربع صفحات في أسبوع. تمضي أسابيع دون أن أستطيع إضافةَ فاصلةٍ إلى الجملة، تنقضي أيامٌ وأنا أتساءل ما إذا كانت مفردةُ “تصعد” أنسب من مفردة “ترتقي” في تلك الجملة.
أضف إلى ذلك، أنه يتوجب عليّ كتابة مقالات، وهذا يقتلني. الجميع يطلب مقالات وأنا أكتبها لأن كتابة مقال تستغرق نصف ساعة. كتابة مقال وليس إعداد مقال، فإعداد المقال يتطلب أن تقرأ كتباً، أن تجد أفكاراً وأن تشمِّر عن ساعديك. علاوةً على ذلك، أنا من ذاك النوع الذي ينتقل من قمة السطحيّة إلى قمة الدقة خلال لحظة.
لنقل مثلاً: تشسترتون، لأن الإشارة إليه تبدو مناسبة في تلك النقطة من المقال. تشسترتون مضافاً إلى صِفة: “أولمبي مثل تشسترتون” أو “معذَّب مثل تشسترتون”. لكني لم أقرأ سطراً واحداً لتشسترتون. لا أعرف ما إذا كان أولمبياً أو معذَّباً، ما إذا كانت له أي علاقةٍ بما أكتب. إذاً، ماذا أفعل؟ أشمِّر عن ساعديّ وأبدأ البحث حتى أجد أعمال تشسترتون، وأقرأها، أقرأ جميع أعماله، وأقرأ كل ما كُتب عنه، فقط لأستطيع أن أكتب في تلك الجملة المحددة: “أولمبي أو معذَّب أو متشنج أو فصامي… مثل تشسترتون”. فقط لأجل ذلك. في هذه الأثناء تكون قد مرّت ثلاثة أسابيع لأكتب ثلاث كلمات.
أقوم أيضاً بإعداد مقالات دورية لمجلات أسبوعية مثل “أومنيبوس”. مقالات مصورة. هذا معقّدٌ حقاً بالنسبة لي: التنسيق مع المصوِّر، التعامل مع الناس، المقابلات، السفر، التحقيقات. هذا عمل فظيع بالنسبة إلي؛ لأني شخصٌ كسولٌ وخجول، لكنه ضروري لأنه يجبرني على مقابلة الناس ودراسة البشر ومشاكلهم، أي على معرفة جزء من الحياة الواقعية.
أعدّ الآن مقالاً حول “جيش الخلاص” وآخرَ عن الهجرة السرية. كلما توجب علي القيام بتحقيق صحافي لعنت العمل، لكنني اكتشفت لاحقاً أنه ساعدني بشكل هائل على كتابة القصص. إنه العمل الذي أنقذني من التحول إلى كاتب أكاديمي.
انتهى! (…)
وداعاً واكتب لي
كالفينو
*ميكيلي: روائي إيطالي معروف بروايته “منغوليا على خطى ماركو بولو”
ترجمة: نوح إبراهيم
العربي الجديد