أكراد سورية … جدل الخيارات وهاجس المصير/ خورشيد دلي
ثمّة من يرى أن أكراد سورية لم ينخرطوا بشكل كبير في حركة الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، منذ انطلاقتها كما كان متوقعاً، ولعل مصدر هذه الرؤية القناعة المسبقة بأن الأكراد سيكونون في مقدمة الثائرين على النظام، انطلاقاً ممّا تعرضوا له من ظلم وإقصاء في العقود الماضية من جهة. ومن جهة ثانية، لكونهم يمثلون كتلة بشرية قومية مختلفة تتميز بالتنظيم، فضلاً عن خصوصية منطقتهم الجغرافية المفتوحة على أبناء جلدتهم في تركيا والعراق، فيما بات واضحاً بعد مرور نحو أربع سنوات على الأزمة السورية أن المكون الكردي يعيش حالة خاصة، تنطلق من الحسابات المتعلقة بالحقوق القومية، وسط هواجس تتعلق بالمستقبل.
المكون الكردي وقوس المطالب
مع أنه ليست هناك إحصائية دقيقة عن عدد أكراد سورية، إلا أن مجمل التقديرات تفيد بأن نسبتهم نحو 10% من عدد سكان سورية، البالغ نحو 25 مليون نسمة، أي أن عددهم يقارب مليوني ونصف المليون نسمة، وهؤلاء يشغلون، بشكل أساسي، المناطق الشمالية الشرقية من البلاد، إضافة إلى وجود أعداد كبيرة منهم في المدن الكبرى، ولاسيما دمشق وحلب. والقسم الكبير من هؤلاء هاجروا إلى المدينتين، بسبب الظروف المعيشية الصعبة، على الرغم من أن مناطقهم هي الأخصب في سورية، من ناحية الأراضي الزراعية، وتوفر مصادر الطاقة من نفط وغاز ومياه، ما يعني أن الهجرة نفسها تشكل مؤشراً مهما إلى مدى إهمال الدولة هذه المناطق تنمويّاً، سواء بشكل مقصود، لإبقاء هذه الشريحة الكبيرة تعاني من الفقر والحرمان والقهر الاجتماعي، حيث تندر وجود معامل ومصانع ومنشآت حيوية في هذه المناطق، أو لأسباب تتعلق بالسياسة العامة للدولة، والتي أهملت الريف لصالح المدن الكبرى، فكانت النتيجة كارثة للريف وبيئته ومجتمعه، واختناق للمدن الكبرى.
في الوعي القومي الكردي، برزت سنة 1957 محطة فاصلة، عندما أسس الأكراد أول حزب قومي لهم، باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني، تعبيراً عن وجودهم القومي، ورداً على الأيديولوجية القومية في عهد الوحدة مع مصر، وما اتخذته هذه الأيديولوجية من تشدد قومي، قام على إنكار الهويات القومية للشعوب والأقليات الأخرى، حيث طبقت بحق الأكراد إجراءات استثنائية من تعريب لأسماء القرى والبلدات واستهداف ثقافي وسياسي ولغوي وأمني ممنهج،
وصلت إلى حد تجريد عشرات آلاف منهم من الجنسية السورية. وبالتالي، من حقوق المواطنة، بغية طمس معالم الهوية القومية الكردية، وضرب هذا المكون وتشتيته، وتجريده من عناصر قوته وديمومته.
قبل تفجر الأحداث في سورية، كانت مطالب الحركة الكردية تتلخص في إطارين أو اتجاهين.
الأول: مطالب عامة، تتعلق بتحقيق الحرية والديمقراطية والتعددية على مستوى البلاد الثاني: المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية، تتعلق بخصوصية الهوية القومية للأكراد. الآن، وبعد مرور نحو أربع سنوات على الأزمة، تطور قوس المطالب الكردية بشكل كبير، واتخذ تدريجيّاً شكل المطالبة بنوع من الحكم المحلي، إذ باتت أحزاب كردية تطرح صيغاً من نوع الفدرالية والاعتراف الدستوري بالأكراد، قومية ثانية في البلاد، على اعتبار أن العرب هم القومية الأولى، وإلغاء كلمة العربية من اسم الجمهورية العربية السورية، لتصبح الجمهورية السورية. وقد أثارت هذه المطالب، وغيرها، جدلاً كبيراً في الشارعين الكردي والعربي معاً، بين من يرى أنه لا علاقة لهذا الطرح القومي بالدعوة إلى إسقاط النظام والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة في البلاد، وأن مثل هذا الطرح ربما يدفع الأمور نحو صدام عربي – كردي، وبين رؤية الشارع الكردي الذي يغلي بالشعارات القومية، ويرى أن سورية المستقبل لا يمكن أن تكون من دون تحقيق المطالب الكردية المذكورة.
خريطة سياسية وحزبية
في خريطة القوى الحزبية والسياسية الكردية السورية، يمكن التوقف عند مكونين سياسيين. الأول: المجلس الوطني الكردي الذي يتكون من 13 حزباً كرديّاً، ويتميز هذا المجلس بأنه تحالف بين الأحزاب التي تنتمي في مرجعيتها السياسية إلى أربيل وبشكل خاص إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني.
“برزت سنة 1957 محطة فاصلة، عندما أسس الأكراد أول حزب قومي لهم، باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني، تعبيراً عن وجودهم القومي، وردّاً على الأيديولوجية القومية في عهد الوحدة مع مصر، وما اتخذته هذه الأيديولوجية من تشدد قومي”
الثاني: مجلس غرب كردستان، ويقوده حزب الاتحاد الديمقراطي المعروف (ب ي د)، برئاسة صالح مسلم الذي ينتمي، في مرجعيته السياسية، إلى حزب العمال الكردستاني، بزعامة عبدالله أوجلان، وقد نجح هذا الحزب، في الفترة الماضية، في بسط سيطرته على المناطق الكردية، وأسس ما يشبه جيشاً منظماً يسمى وحدات حماية الشعب، وأعلن عن تأسيس الإدارة الذاتية في ثلاثة كانتونات، هي: القامشلي وعفرين وكوباني. وفي مقابل النفوذ القوي لهذا الحزب على الأرض، تتميز أحزاب المجلس الوطني بالضعف والتشتت والانقسام والافتقار إلى التمسك بزمام المبادرة على الأرض. وعمليّاً، تعاني الساحة الكردية السورية من انقسام خطير بين المجلس الوطني الكردي ومجلس غرب كردستان، بسبب التبعية للأحزاب الكردستانية في العراق وتركيا، قبل أن تشهد الفترة الأخيرة حوارات ولقاءات، أفضت إلى تأسيس مرجعية مشتركة، لم تنجح، حتى الآن، في تجاوز الانقسامات والخلافات الكبيرة التي تعتري الشارع الكردي.
غياب الثقة والبراغماتية
ثمة غياب للثقة بين أكراد سورية والنظام والمعارضة معاً، وإذا كانت الأمور معروفة لجهة النظام، بسبب سياسة الإقصاء التي مورست، وتجاهله الحقوق القومية الكردية، فإنها بالنسبة للمعارضة تبدو مختلفة، فالأخيرة لا تتبنى، صراحة، المطالب الكردية في برامجها السياسية، وغالباً ما تتعامل معها في الإطار العام، أو الشعارات الغامضة. وإلى جانب غياب الثقة هذه، ثمة مخاوف كردية من شكل الحكم في المستقبل.
وفي إطار الجدل الكردي، هنا، يمكن التوقف عند نوعين من المخاوف:
الأول: الخوف من تسلم الإسلاميين، وتحديداً “الإخوان المسلمين” السلطة، فيما الأيديولوجيا التي تحكم الحركة الكردية قومية، والطابع العام للحركة أقرب إلى العلمانية، مع أن الأكراد يدينون بالإسلام والغالبية العظمى من السنة.
الثاني: ثمة اعتقاد كردي دفين أن تركيا التي تحتضن المعارضة السورية، وخصوصاً الإخوان المسلمين، تعمل على ترتيب المشهد السوري المستقبلي، من دون دور حقيقي للحركة الكردية السورية فيه، وذلك خوفاً من انعكاس مثل هذا الدور على قضيتها الكردية في الداخل. ولعل ما دعم المخاوف الكردية هذه التصريحات التركية الرافضة حصول أكراد سورية، أي وضع
“ثمة غياب للثقة بين أكراد سورية والنظام والمعارضة معاً، وإذا كانت الأمور معروفة لجهة النظام، بسبب سياسة الإقصاء التي مورست، وتجاهله الحقوق القومية الكردية، فإنها بالنسبة للمعارضة تبدو مختلفة”
خاص أو على وضع يشبه وضع أكراد العراق، وإقامة إقليم خاص بهم، نظراً لأن مثل هذا الإقليم، أو الحكم، سيخلق حالة من التواصل الجغرافي بين الأكراد في هذه الدول، وسط ازدياد دور الأكراد في المنطقة، وتحولهم إلى لاعب إقليمي، ولاسيما بعد انفتاح الغرب عليهم، حيث المخاوف من مخططات لإقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة قد تغير خريطتها الجغرافية والسياسية.
بغض النظر عن الجدل الجاري بشأن المطالب الكردية، فثمة قناعة بأن الأزمة السورية وفرت فرصة تاريخية لهم، لتحقيق آمالهم وتطلعاتهم القومية، بعد عقود من الحرمان والتهميش والإقصاء، فمجمل مشهد الحراك السوري يوحي بأنهم الرابح الأكبر، حتى الآن، لجهة السيطرة على مناطقهم بطريقة سلمية. وبناء ما يشبه حكم ذاتي في إدارة هذه المناطق، وتعاظم وعيهم بالحرية وقضيتهم القومية. فقبل بدء شرارة الأحداث من درعا جنوب سورية، لم يكن في وسع الأكراد الحديث علناً عن حقوقهم القومية، أو رفع علم يرمز إلى هويتهم القومية، أو أحزابهم، أو حتى التعلم بلغتهم، إذ كان ذلك كافيّاً لكي يتعرض صاحبه إلى الاعتقال الفوري والسجن، بينما، اليوم، باتت لجان الإدارة الذاتية هي التي تدير الأمور على الأرض وتحت الرايات الكردية، فحواجز قوات حماية الشعب منتشرة على امتداد مناطق محافظة الحسكة في الشرق، وكذلك في منطقتي كوباني وعفرين في الشمال. وقد نجحت هذه القوات في صد عشرات الهجمات التي نظمها داعش والنصرة على المناطق الكردية، حيث النفط والغاز والمياه.
وإلى جانب هذه القوات، هناك لجان مدنية، تقدم الخدمات والمساعدات للأهالي، وتنظم جوانب الحياة الإدارية والاجتماعية، وتدير العلاقة مع باقي مكونات الشعب السوري في المناطق الكردية، ولاسيما الآشوريين والعرب، فيما بات وجود النظام يتركز في المقار الأمنية والعسكرية في مدينتي القامشلي والحسكة، حيث تسيطر قوات حماية الشعب على باقي المناطق الكردية، وسط حديث من المعارضة السورية عن علاقةٍ ما بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي.
وبغض النظر عن هذه العلاقة وطبيعتها وشكلها، فإن الواقع الجديد فرض على أكراد سورية جملة من التحديات، المتمثلة فيما يلي:
1- مواجهة الاحتياجات اليومية للسكان من مواد غذائية ووقود ومحروقات (الغاز المنزلي، المازوت، البنزين ..)، وذلك كله في ظل شح الموارد والإمكانات، وقد وجد أكراد سورية في إقليم كردستان العراق المجاور ملجأ للتخفيف من حدة أزمتهم الإنسانية، حيث لجـأ قرابة ربع مليون كردي سوري إلى إقليم كردستان، وأقيمت مخيمات لهم هناك.
2- الخلافات العديدة بين أطراف المكون الكردي، ولاسيما بين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعود، في مرجعيته، إلى حزب العمال الكردستاني وأحزاب المجلس الوطني الكردي الذي يتخذ من أربيل مرجعية له، وقد حاول رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، احتواء هذه الخلافات، من خلال احتضان الطرفين مراراً، وتشكيل الهيئة الكردية العليا من الجانبين.
3- إشكالية العلاقة بين الأكراد والقوى المطالبة بإسقاط النظام، وتحديداً الجيش السوري الحر وجبهة النصرة والائتلاف الوطني السوري، وقد برزت هذه المشكلة عندما حاولت كتائب من الجيش الحر وجبهة النصرة السيطرة على مدينة رأس العين، ما أدى إلى مواجهات دموية بين الجانبين، حيث يرى أكراد سورية أن مناطقهم باتت خارج سيطرة النظام، وليس هناك من سبب يستدعي قدوم هذه الكتائب إلى مناطقهم، فيما ترى المعارضة والمجموعات المسلحة أن هذه المناطق سورية، مثل باقي المناطق الأخرى من البلاد، ومن حقها السيطرة عليها.
في الأساس، يتجاوز الصراع الجاري في سورية مسألة إسقاط النظام إلى البحث عن شكل الدولة السورية في المستقبل، والأكراد في تطلعهم إلى موقعهم المستقبلي في هذه الدولة يعانون من جملة إشكالات وعقبات. فمن جهةٍ، ثمة إشكالية تتعلق بالانقسام الكردي. ومن جهة ثانيةٍ، هناك غياب للثقة بين القوى الكردية ومجمل أطراف المعارضة، بل في أحيان كثيرة، يبدو لقسم كبير من الأكراد أن النظام الذي مارس الإقصاء والتهميش ضدهم أرحم من بعض قوى المعارضة التي حشدت قواتها للسيطرة بالقوة على المناطق الكردية، فظهرت صورة المعارضة لديهم مجرد مجموعات عروبية وجهادية، لا تؤمن بحقوق الشعوب والأقليات والطوائف والدولة المدنية الديمقراطية، وهو ما أوجد، عمليّاً، حالة من التعبئة القومية والعسكرة في الساحة الكردية، انتهت بتشكيل جيش كردي محلي للدفاع عن مناطقهم. وأدى هذا الواقع الإشكالي إلى إحداث إشكالية في الجهة المقابلة، أي لدى القوى المطالبة بإسقاط النظام السوري، إشكالية تتراوح بين الخوف من أن يؤدي إقرار التطلعات الكردية إلى تعزيز خيار الانفصال لدى الأكراد واتباع سياسة الغموض، وتأجيل بحث المطالب الكردية إلى المرحلة المقبلة. وقد عزز هذا الأمر من حالة البراجماتية السياسية لدى الأكراد، على شكل المفاضلة بين النظام والقوى المطالبة بإسقاطه، لجهة تفهم أي طرف أكثر للمطالب الكردية وإقرارها.
الثابت، هنا، أن أكراد سورية، وللمرة الأولى، منذ اتفاقية سايكس – بيكو التي قسمت المنطقة إلى دول بعد الحرب العالمية الأولى، كما قسمت الأكراد بين سورية والعراق وتركيا، باتوا يجدون أن منطقتهم أصبحت مفتوحة مع المناطق الكردية في إقليم كردستان العراق، وإلى حد ما، مع المناطق الكردية في تركيا التي تشهد حركة تضامن غير مسبوقة مع أكراد سورية بعد أحداث كوباني – عين العرب، إذ، للمرة الأولى، نشهد تظاهرات تضامنية تخرج في مدن كردية في تركيا، ولاسيما مدينة نصبين المحاذية للقامشلي، دعماً لأكراد سورية، فضلاً عن تنظيم قوافل مساعدات غذائية وإغاثية لهم. وهكذا، بات الحراك الكردي يفيض في الجغرافية السياسية حلماً قوميّاً يدغدغ مشاعر الأكراد من جديد بدولة مستقلة، كما حصل عقب الحرب العالمية الأولى، عندما أقرت اتفاقية سيفر عام 1920 إقامة كيان كردي، قبل أن ينجح الزعيم التركي، كمال مصطفى أتاتورك، في نسف مواد هذه الاتفاقية، ببنودها الكردية، عبر عقد صفقة مع الغرب في لوزان عام 1922.
الإدارة الذاتية بين الانفصال والضرورة
أثار إعلان أكراد سورية الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرق البلاد جدلاً وردود فعل كثيرة، من المعارضة والأطراف الإقليمية والدولية، فضلاً عن الأحزاب الكردية التي هي على خلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صاحب المشروع.
في الواقع، يمكن القول، إن هذه الخطوة لم تكن ممكنة، لولا تداعيات الأزمة السورية التي ساهمت في بروز دور المكون الكردي الذي فرض نفسه لاعباً أساسيّاً في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، خصوصاً بعدما نجح في تحقيق انتصارات ميدانية كبيرة على تنظيم داعش وجبهة النصرة في مناطق رأس العين على الحدود مع تركيا ومن ثم معبر اليعربية – تل كوجر على الحدود مع العراق، ما أعطى زخماً قويّاً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، لجهة فرض سيطرته على المناطق الكردية، قوة وحيدة في هذه المناطق.
يرى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أن الإعلان عن إنشاء الإدارة الذاتية جاء نتاجاً طبيعيّاً للوضع الذي نشأ في المناطق الكردية، بعد ما سحب النظام قواته منها، تحت ضغط المعارك في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، وأنه بعد نحو سنتين من إدارته هذه المناطق، بات
“يرى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أن الإعلان عن إنشاء الإدارة الذاتية جاء نتاجاً طبيعيّاً للوضع الذي نشأ في المناطق الكردية، بعد ما سحب النظام قواته منها، تحت ضغط المعارك في دمشق وحلب وحمص ودير الزور”
الأمر يحتاج إلى تنظيم الأوضاع فيها من جديد، وإدارة شؤون الناس وتقديم الخدمات وتنظيم العلاقات الاجتماعية، خصوصاً أن هذه المناطق مختلطة سكانيّاً، لجهة المكونات القومية والدينية والطائفية، ففيها إلى جانب الأكراد عرب وآشوريون وكلدان وأرمن وسريان وشيشان وتركمان وأيزيديون وغيرهم. وعليه، فإن مهمة المجلس المكون من 82 عضواً يمثلون 35 حزباً ومنظمة وحركة، هو إدارة هذه المناطق، إداريّاً وتنظيميّاً، بعد أن تم تقسيمها إلى ثلاثة كانتونات، هي القامشلي، كوباني، وعفرين وهي مناطق تتسم بأغلبية كردية على امتداد الحدود السورية التركية تفصلها مناطق عربية، تجعل من الصعب إقامة وحدة جغرافية بين هذه المناطق.
تقوم وجهة نظر مؤيدي مشروع الإدارة الذاتية على أن الأوضاع في المناطق الكردية السورية باتت بحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد، لإدارة الأوضاع وتنظيمها في هذه المناطق، في انتظار انتهاء الأزمة السورية، ليجري، بعد ذلك، تحديد طبيعة العلاقة مع المركز من جديد. واللافت، هنا، حرص أصحاب المشروع على عدم الإشارة إلى أي طابع قومي كردي للمشروع، أو رفع شعارات سياسية من نوع الحكم الذاتي، أو الفيدرالية، وغير ذلك من شعارات تصب في خانة القضية القومية الكردية. لكن، زاد ذلك من وتيرة الجدل بشأن الموقف من الإدارة الذاتية، بين من يرى أن الهدف النهائي هو الانفصال وتأسيس إقليم كردستان سورية على غرار إقليم كردستان العراق، ومن يرى أن المسألة لا تخرج عن إطار سيناريو متفق عليه بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام، والهدف هو إدارة هذه المناطق، خدميّاً وإداريّاً، إلى حين انتهاء الأزمة السورية.
كانت ردود الفعل الرافضة للمشروع أكثر بكثير من المؤيدة لها، فتركيا الدولة الإقليمية المجاورة للمناطق الكردية السورية أعلنت على لسان مسؤوليها رفضها لها. وفي حقيقة الأمر، تبدو تركيا الدولة الأكثر معنية بالحالة الكردية السورية، نظراً لتداخل الأكراد على جانبي الحدود، فضلاً عن أن صاحب مشروع الإدارة الذاتية هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعد عمليّاً الفرع السوري التابع لحزب العمال الكردستاني، حيث تخشى تركيا من أن ينقل هذا الحزب ثقله إلى المناطق الكردية السورية، إذا ما نجح مشروع الإدارة الذاتية، خصوصاً أن العلاقة بين هذا الحزب وقيادة إقليم كردستان العراق حليفة تركيا تشهد حالة من التوتر.
جاء الرد الأقوى من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والذي أعلن رفضه المطلق الخطوة الكردية، ووصف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بأنه تنظيم معاد للثورة
“أكراد سورية باتوا يأملون في استثمار الأزمة السورية لاعتراف دستوري بوجودهم في مناطقهم، مع أن مثل هذا الخيار سيواجه، في المستقبل، استحقاق مصير الدولة السورية”
السورية، فيما اتسم الموقف الأميركي بالحذر، عندما طالب السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، الأكراد بعدم اتخاذ خطوات أحادية الجانب، والتركيز على (إنجاح المعتدلين في الثورة السورية)، وهو موقف يذكّرنا بموقف الإدارة الأميركية من إعلان أكراد العراق إقليمهم قبل نحو عقدين، فيما على الطرف الآخر، اتسم موقف النظام السوري بالصمت إزاء الخطوة الكردية.
في الواقع، ثمة قناعة عميقة لدى الأطراف الرافضة للمشروع، أنه يخدم النظام السوري كثيراً، لجهة خلط الأوراق، كما أنه، على المستوى الاستراتيجي، يمهد الطريق لخطوات انفصالية، خصوصاً إذا شهدت القضية الكردية، في الأجزاء الأخرى من كردستان، تطورات دراماتيكية، مثل ما جرى في العراق، فضلاً عن أن معظم قوى المعارضة، سواء لأسباب أيديولوجية قومية عروبية، أو دينية، أو حتى لأسباب سياسية تتعلق بحسابات الصراع في الأزمة السورية، ترفض الخطوة الكردية، وإذا ما أخذنا الرفض التركي لها، فإن السؤال عن مستقبل الإدارة الذاتية يصبح ملحاً بدرجة كبيرة. وإلى أن تتوفر الإجابة عن هذا السؤال، ثمّة واقع كردي جديد، يتأسس في سورية، وإلى أن ينجلي غبار المعارك، يبدو المشهد الكردي وكأنه أمام ولادة إقليم كردي سوري، متصل جغرافيّاً مع المناطق الكردية في العراق وتركيا، ما يفتح السؤال الكبير عن البعد الكردستاني للحركة الكردية في سورية ومٍسألة الهوية الوطنية السورية.
الخلاصة التي يمكن استنتاجها، هنا، أن أكراد سورية باتوا يأملون في استثمار الأزمة السورية لاعتراف دستوري بوجودهم في مناطقهم، مع أن مثل هذا الخيار سيواجه، في المستقبل، استحقاق مصير الدولة السورية، والأكراد في ظل هذا الواقع باتوا أمام خيارين، التفاهم مع من سيحكم سورية في المستقبل على صيغة للحقوق الكردية، أو الدخول في مواجهة قد تنجم عنها تطورات دراماتيكية مأساوية، لا أحد يعرف كيف ستنتهي. وفي جميع الأحوال، لا يمكن النظر إلى مصير أكراد سورية خارج مصير سورية، مع تأكيد أن التحديات الموجودة تفرض على الجميع مزيداً من الانفتاح والإيجابية والممارسة العقلانية، بعيداً عن التصورات المسبقة.
العربي الجديد