ألا أيتها الليلة “البهيمة”/ محمد هديب
في عمّان فرغت بطارية الموبايل، وفجأة استبد بي قلق، فرجعتُ بالسيارة بضعة كيلومترات كي أوصي بنات الحارة الأكبر سناً خيراً في غزل ذات الأربعة أعوام. غزل في الدوحة لا تعرف الحارات. تسكن في مجمع محروس جيداً بالكاميرات ومضاء بإفراط، وأشجار الزينة محلوقة ومهندزة أسطواناتٍ ومثلثات. أما في الحارة العمّانية فتتحرك بلا خبرة وتركض في اتجاه شوارع ومنعطفات فجائية، دونما حساب.
سخرت شقيقتي: ما حدا عنده بنت إلا جنابك؟
تهكمتُ على منظري الجادّ وقلت: كل ما في الأمر، لو حصل لها مكروه سيتعطل شغلي وستتلخبط مواعيدي! في الحقيقة أنا خائف، خوفاً عادياً لكنه مزمن، والسخرية هي حراشفي التي تخبئني قدر المستطاع. يا ليت كانت لدي درع. لكن الدرع لقيس بن عاصم يحمي حكمة حليم العرب. أما الخائف فكثير التلفّت من قناة فضائية إلى أخرى، وأرعن مثل صاحب الحاجة، فمن أين يأتيه الحِلم والحكمة؟
قيس يهجم على الحياة ثم يصفن. أنا أصفن ثم أهجم على الحياة.
كان الولد ملقى على أرضية مستشفى رفح. لبست قميص البيجاما بالشقلوب. لو لم يكن الأمر هكذا لكتبت نصاً “بديعاً” عن رجل يرتدي البيجاما بالشقلوب، ربما أقل إبداعاً من القصة الشهيرة عن رجل لا يعرف كيف يخرج نتفة لحم عالقة بين ضرسين.
غير أن الولد لا يبدي حراكاً في المشهد، والدم من جانب رأسه مجبول بالتراب والقش، بينما صدره تحت يدي متطوعٍ كبيرتين تضغطان لإنعاش القلب والرئتين. أحد ما يقول للرجل: استشهد. والرجل يواصل الضغط كأنما ينهر الولد: قوم ولك!
**
الحكمة ابنة التراجيديا بالرضاعة، منذ ما قبل قيس إلى الفتاة المعوّقة في خزاعة التي كانت جثتها ممزقة إلى جانب كرسيّها المدمّر. لكل حكمة شكلها، ولكن ينبغي أولاً أن تقع القيامة، قيامة ما، ثم يطبق الصمت. الحكمة -في نهاية المطاف- ابنة الصمت.
منذ ذلك الوقت السحيق من الحكم المطرزة العابرة للزمان كسلحفاة، إلى الطفلة التي تقول لمراسل الجزيرة “والله ما عملت إشي يا عمّو”. كل ما انكتب في شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي المعاصر من جنيف ولاهاي، حتى روما، يتكثف في الوجه الطفولي الذاهل “والله ما عملت إشي يا عمّو”.
**
ولو كان قيس هنا لحلّ حبوته وانضم للمقاومة. هكذا عليّ أن أحسن الظن. هو يعلم أنه زمن رخيص بلا فروسية. زمن تَقتل فيه الطائرة بلا طيار، وتسقط الصواريخ والقذائف على إحداثيات مرجيحة في يوم العيد. لا يرى القاتل قتيله. إحداثيات حسبتها بدقة مراكز الأبحاث العسكرية، لكنّ لغتها غير لغة الولد الخارجة أحشاؤه من بطنه ويطلب شربة ماء.
قُتل ابن قيس في مبارزة، وجيء بالقاتل الذي هو ابن أخيه فقال له: يا بني! بئس ما صنعت، نقصتَ عدَدَك، وأوهنتَ عضدَكَ، وأشمتَّ عدوَّك، وأسأتَ بقومك. خلّوا سبيله، واحملوا إلى أمّ المقتول (يعني زوجة قيس) ديته، فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته وما تغيّر وجهه (الحبوة أن تقعد على الأرض وتضمّ بذراعيك رجليك إلى بطنك). كل شيء كان واضحاً في النهار وغامضاً في الليل. نجوم السماء واضحة والليل ليل، واليوم خمر وغداً أمر والصحراء مفازة والجبل ينام واقفا كحصان، والخيال محظوظ لأنه لم يكن هناك بث مباشر.
لو كان قيس في غزة، لخرج إلى الشارع بالكلسون شاتماً “أبو الحكمة وأبو اللي اخترعها”، ليس لأن الطائرات بلا طيّار وبلا ضمير، بل لأن ثمة مستعربين جدداً يقولون للطفلة: أنت لم تفعلي شيئاً هذا صحيح، ولكنك لا تعلمين الوضع الجيوستراتيجي العربي، ولا تدركين خارطة التحالفات السياسية في المنطقة، ولا تقدّرين أن هناك ستة معابر مع إسرائيل ومعبراً واحداً في اتجاه جامعة الدول العربية. لو كان قيس هناك لهتف شعراً: ألا أيتها الليلة “البهيمة” ألا انجلي..
(هدير مظاهرات عارمة في أوروبا تضامناً مع غزة. يا له من عالم ساذج لا توجد فيه 50% أميّة!). الأميّة ليست عدم فك الحرف. الأميّة أن يكون جلدك سميكاً.
العربي الجديد