صفحات الثقافةغازي دحمان

هجرة الروح

 

غازي دحمان

في قلب سورية، المتشظية ببراميل وقنابل وعربدة عسكر النظام وجنون التطرف، والانتماءات الصغرى، ثمة موت لروحها يستمر نازفاً دون أي أمل بالتوقف. موت بدأ يفقد سحره الدرامي ويتحول إلى أعداد من الجثث هنا وهناك، لا روح له، وكأنه ينسجم مع سياق المأساة الكبرى في هذا البلد، سياق هجرة الروح منها.

من يسير في قلب دمشق، اليوم، يكتشف أن العاصمة التي كانت غزيرة في دفئها وانسيابية الحياة فيها، تحولت إلى تجمّع كبير لمتاريس وحواجز وأكياس رمل ودشم. أما كائناتها البشرية فتقاسمت أدوار لعبة العسكر والحرامية: عسكر النظام الذين يقفون على أهبة الاستعداد لخوض المعركة في كل لحظة، والناس الذين باتوا يشعرون بالغربة في مدينة تقطّعت أوصالها وتشوّهت معالمها، أمام احتمال الموت أمام كل حاجز ومتراس. ناسها الذين طالما تمتعوا بطبيعة هادئة يتميزون بالاستقرار ما خلا زيارات قريبة أيام العطل “السيران” الدمشقي الشهير، إلى الغوطتين، أو بيروت. هؤلاء تحولوا إلى أناس مُستَفّزين مرعوبين، كائنات حذرة تتعاطى بحذر مع كل شيء.

لم يعد أحد في دمشق يلتفت لمحلات الحلويات الشهيرة، ولا زوّار يذكّرون دمشق بأكلاتها التي كانت تعبق الرائحة الزكية في أجوائها، لم يعد للصبار الشامي نكهته القديمة وغابت طقوس أكله في منحدرات المهاجرين وأبو رمانة ولم يعد أحد يلاحظ مواسمه ويتذكّرها (خاصة بعد أن اقتلعوا حقول الصبار على أطراف حي المزة الشرقية)، ولا توت الشام ومشمش الغوطة وكرز رنكوس وتفاح الزبداني و”دراقن” وادي بردى. لم تعد دمشق تضج بزقزقة عصافير سنونو الجامع الأموي وشارع النصر عند كل مساء، دمشق اليوم مدينة بلا عناصرها تلك ولا تفاصيلها الصغيرة التي غابت عن الحضور.

لا يختلف الأمر كثيراً في حلب التي تدمّر ثلاثة أرباعها، تلك المدينة التي ربت أبناءها على التذوّق، وشكّل هذا العنصر روحها، في الموسيقى والملبس والمأكل، باتت مدينة بائسة ومحطمة، أسواقها القديمة التي كانت قبلة أهلها واستئناسهم في النهار والليل باتت موحشة تأتيها أصوات طلقات من هنا وهناك. حلب تلك فقدت هيكلها الجميل، عماراتها وأسواقها وجمال حدائقها، وهي تجبر على تغيير نمط تذوّقها لينحصر في التمييز بين أصوات القذائف ما بين دوشكا وهاون وبراميل متفجرة وسيارات مفخخّة.

حماة هجرت نواعيرها، باتت هذه مجرد أخشاب تدور بضجر وملل ولم يعد أحد يلتفت لعنينها. وحمص ذبلت فيها النكتة واستبدلت بالتعايش مع المأساة اليومية وما يحمله كل يوم من مفاجأة لا طاقة لبشر على تحملها. واللاذقية وطرطوس لم يبق من بحرهما وسحره سوى ذلك الهدير المزعج في ظل حالة التوتر الدائمة وضغط العائدين واللاجئين.

ولعلّ هجرة الروح وموتها تتبدّى أكثر في أرياف سورية الشاسعة. هناك، ولأن الروح توثّبت وحلّقت إلى سماء سورية متمردة على القهر والعسف، عملت قوى الظلام السلطوية على تجفيف منابع انبعاث تلك الروح. ولأن الريف بتشكيله التضاريسي قرى متناثرة كان من السهل خنق كل قرية والتنكيل بها وبروح أهلها منفردة، وتسليط كل من ليس له روح لإنجاز هذه المهمة.

قد يستغرب القارئ أن ملاحقة الروح في سورية شمل حتى أرواح الحيوانات، تلك التي كان عسكر النظام يقتلها بهدف التدرب على الرماية، أو تلك التي كان يقتلها انتقاماً من مالكيها لحرمانهم من مصدر الرزق الذي يعيلهم.

ولكن لماذا هذا الاستشراس في قتل الروح وتهجيرها، هل هو ضمانة لاستمرار الاستبداد والقهر والوقود اللازم لتشغيل آلياته؟ ومتى ستعود الروح لجسد سورية، وكم من الوقت يحتاج ترميمها، كيف ستتجلى بعد انقضاء الأزمة وكيف ستتمظهر؟ لا جواب يحضرني في هذه اللحظة، لكن يقيني أن روح سورية لم تمت لكنها تهجر الأمكنة التي تسقط فيها القذائف على أمل العودة قريباً إلى أرض السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى