ألعاب نارية في الجولان/ ساطع نور الدين
لم تكن الصواريخ العابرة للحدود مع العدو الاسرائيلي على الدوام مجرد ألعاب نارية او ردود إنفعالية. كانت في الغالب نداء للتفاوض او ذريعة للحرب. بواسطتها جاء الموفدون الاميركيون تباعاً الى منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، والى السلطة السورية في دمشق، والى القيادة الايرانية في طهران..وبنتيجتها اشتعلت خمسة حروب كبرى، وانعقدت عشرات الجولات من المفاوضات.
الصواريخ الاربعة التي انطلقت بالامس من الاراضي السورية باتجاه الجليل الاعلى لم تخرج عن هذا المسار المحدد منذ اكثر من خمسين عاماً، وكذا الغارات الاسرائيلية التي استهدفت مواقع للجيش السوري في القنيطرة وريف دمشق، وطرحت مجددا السؤال التقليدي البائس: من يريد الحرب؟ ومن يريد التفاوض؟.
يمكن التواضع قليلا والقبول بالتفسير الاولي للحدث وهو ان الصواريخ اطلقت رداً على الاعتداء الاسرائيلي على الاسير الفلسطيني محمد علان الذي اختزل اضرابه عن الطعام طوال الايام ال٦٤ الماضية، الصراع في شكله الراهن، والقضية في محتواها الاخير. وبالتالي يكون الاشتباك على الجبهة عارضاً ينتهي بتحرير الاسير، او إنذاراً بان وفاته يمكن ان تؤدي الى إشعال تلك الجبهة.
لكن قرار حركة الجهاد الفلسطيني بالتضامن مع الاسير علان- اذا صح انها هي التي نفذت العملية- لا يمكن حصره بالمجال الفلسطيني المحدد اصلا بجبهة غزة الجاهزة والحاضرة لمثل هذا النوع من الاشتباكات، التي يمكن ان تتخطى حججها قضية الاسرى لتضع على الطاولة الحصار الاسرائيلي الخانق المفروض على القطاع وأهله.
ثمة إشتباك حصل على الجبهة السورية، وحملت اسرائيل دمشق المسؤولية المباشرة، ووجهت اليها تحذيراً عسكرياً وسياسياً أقوى من التحذيرات السابقة التي كانت توجه في اعقاب عمليات إطلاق الصواريخ من الاراضي السورية في السنوات الخمس الماضية..والتي لم تكن كلها ذات دوافع فلسطينية.
لا أحد يريد الحرب على الجبهة السورية. هذا ما يقوله المنطق السياسي البسيط الذي يفترض ان الازمة السورية هي هدية من السماء تلقتها اسرائيل. لكنه ليس من عادة الاسرائيليين ان يكونوا شاكرين لأحد، او ان يكونوا ثابتين على موقف ما، مثل قولهم الدائم ان نظام بشار الاسد على حدودهم أفضل من داعش او النصرة، او ان الحرس الثوري الايراني على حدودهم أسوأ من الجيش السوري.
البركان السوري المتفجر فرصة اسرائيلية بلا شك، لكن ما يسميه الاسرائيليون بجبهتهم الشمالية مع لبنان وسوريا مقبلة على زلزال هائل، عنوانه الرئيسي هو الاتفاق النووي الايراني والمصالحة التي شرع الاميركيون والغرب عموما في بلورتها مع طهران، من دون الاخذ في الاعتبار حجج اسرائيل او مصالحها.. وهي سابقة في تاريخ العلاقات الغربية الاسرائيلية المتجذرة منذ تأسيس الكيان الذي ظل مرتكزا وحيدا لرسم السياسات الشرق اوسطية في عواصم الغرب.
لن تظل اسرائيل خارج هذا الاتفاق ولن يصل الامر بالاميركيين حد اللامبالاة بالغضب وتالياً الابتزاز الاسرائيلي. لكن الثمن الذي يريده الاسرائيليون هذه المرة مرتفع جدا، وهو لا يقل عن حجب المكافأة عن دولة اقليمية مهمة مثل إيران تحولت منذ هجمات 11 ايلول الى شريك رئيسي في الحرب على الارهاب الاسلامي السني، وصارت في الاونة الاخيرة قوة برية رديفة لسلاح الجو الاميركي-حسب تعبير مسؤولين وخبراء وباحثين اميركيين مرموقين.
الاتفاق لم يبرم بعد لا في واشنطن ولا في طهران، برغم انه اصبح ساري المفعول من قبل الاوروربيين. الثابت ان اسرائيل تقوم الان بالمحاولات الاخيرة لحجز مكانها وحصتها من الصفقة، اذا شعرت انها باتت غير قادرة على إحباطها في الكونغرس الاميركي. وفي هذا السياق لن تكون جبهة الجولان المضطربة او جبهة لبنان القلقة مساحة للتعبير عن الانفعالات العابرة، ولن تظل الودائع الايرانية على تلك الجبهة، وأهمها وربما آخرها في الظرف الراهن النظام والجيش السوري نفسه، لا حزب الله، بمنأى عن التجاذب الاميركي الاسرائيلي الحاد.
يمكن ان يضيع صدى الاشتباك الاخبر بالامس في الجولان. لكن الجبهة مفتوحة اكثر من أي وقت مضى منذ خمسين عاماً.
المدن