أماكن الألم السوري/ روجيه عوطة
ليست الثورة السورية درساً في التاريخ فحسب، بل إنها درس في الجغرافيا أيضاً. فالحرية التي يرغب فيها السوريون، رغماً عن “سارين” الطاغية، تصنع خريطة بلادهم من جديد. صحيح أن الأثمان المدفوعة مرتفعة، إلا أن الحرية لا تُقاس بمعادلات الربح والخسارة. ذاك أن كل تضريس صغير من تضاريسها، وما دام الحديث جغرافياً هنا، مساحته أوسع من تلك الأرض الإديولوجية التي تدعى “الوطن”، وملحقاتها من حدود ومؤسسات وأجهزة قمعية.
الثورة في سوريا أعظم من الزمن الذي اندلعت خلاله، لكن، هذا الأمر، لم يمنع أحرارها من اكتشاف بلدهم، ونفض الغبار والدم عن مناطقه وشوارعه وأحيائه. لقد باتوا اليوم على بينة من جغرافيا المدن والقرى، اكتشفوها بالشجاعة الدائمة، والمعاناة اليومية، ولهذا السبب تحديداً، من المستحيل أن ينسوها في الأيام المقبلة.
في هذا السياق، تأسست صفحة “أماكن الثورة السورية” على “فايسبوك”، وجاء في تعريفها أنها تُعنى بالأمكنة، “حيث يولد الأبطال كل يوم”. وفي ربطها بين الجغرافيا والبطولة، تحاول الصفحة أن تحدد الخريطة السورية بحسب الأحداث الدائرة في أرجائها. فعندما يقع حدث معين في منطقة من المناطق، تنشر الصفحة لوحة فنية تتعلق بمكان الوقوع، بالإضافة إلى بعض المعلومات عنه، منطلقةً من إسمه حتى حاله الحاضرة.
بذلك، تسمح “أماكن الثورة السورية” للمستخدمين أن يتعرفوا على سوريا من خلال العمل الفني من جهة، والسرد المعرفي من جهة أخرى. هذا، وتشترك الوسيلتان، اللوحة والحكاية، بغاية شبه بائنة، وهي تحويل الأمكنة إلى أساطير ثورية، يسندها التاريخ، ويحميها صمود الشعب السوري.
كثيرة هي الأماكن التي تلقي الصفحة الضوء عليها، بدءاً بكفرسوسة وأريحا والسلمية، وصولاً إلى سرمدا، والمعضمية، ودير العصافير، فضلاً عن قطنا والميادين والحجر الأسود، وغيرها. بالتالي، يدخل المستخدمون إلى محافظات عديدة، متوجهين نحو مدنها وقراها، ومتجولين في شوارعها وأزقتها، حيث يقرأون عن تاريخها المكبوت بفعل البعث و”أبده”.
فـ”موحسن” مدينة تابع لمحافظة دير الزور، وتقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات. لذا، تتميز ببحيراتها، التي تُسمى باللغة المحلية بـ”الصراة”. أما إسمها، فمركب من عبارتين: “موح”، أي الأرض التي انسحبت مياه النهر الفائض منها، و”حسن”، وهو إحدى الشخصيات التي كانت تحيا في هذا المكان المائي.
كما تُعرف المدينة بـ”موسكو الصغرى” نتيجة احتوائها على عدد كبير من المنتسبين إلى الحزب الشيوعي. ومع اندلاع الثورة السورية، لم تقف “موحسن” على الحياد، بل شهدت الكثير من التظاهرات ضد نظام بشار الأسد، وكان لها دور عسكري على قدر كبير من الأهمية، بحيث أن مقاتليها أسقطوا عدداً من طائرات الميغ، التي كانت السلطة البعثية تستخدمها لقصف الناس، والإنتهاء منهم. إذ أنها لا تتوقف عن تدمير أماكنهم، وإزالتها عن الخريطة، فبالنسبة لهذه السلطة، من الممكن اختصار سوريا بأماكن العائلة الحاكمة، كيف لا؟ وقد اقترنت كل البلاد بإسم “أسدها”.
في النتيجة، تسعى صفحة “أماكن الثورة السورية”، من خلال العمل الفني والسرد، إلى مكافحة هذا الإقتران، والإطاحة به. كما لو أن غايتها الأساس هي تفتيت “سوريا الأسد”، وتحرير مناطقها من طغيان الجغرافيا والتاريخ الآحاديين. فأن تصبح سوريا أماكن وتواريخ مختلفة، فهذا يعني أنها بدأت تتفلت من وطأة الأبد، وأنها ستستحيل مأهولة بالأحداث الواقعية، لا الإديولوجية.
إذ أن الشرط الأولي لتأليف المكان هو أن يكون مأهولاً، وبالتالي مفتوحاً على التبدل والتغير، وقبل ذلك، عليه أن يُشعر سكانه بالاستقرار، لا بالجمود أو الثبات، وهي من تمثلات الموت السلبي. تالياً، لقد حولت الثورة السورية بلدها إلى مكان مسكون، بعد أن كان عبارة عن معتقل شاسع ومقبرة مقفرة، كما حولت “أبده” إلى أزمنة كثيرة، من الحتمي أن يبلغ السوريون حريتهم خلالها.