مراجعات كتب

أمبرتو إيكو يهجو الصحافة في رواية “العدد صفر”/ جمال شحيّد

 

 

هي الرواية الأخيرة التي نشرها أمبرتو إيكو عام 2015 قبيل رحيله بأشهر والتي ترجمها من الإيطالية إلى العربية المترجم اللامع أحمد الصمعي، الذي سبق له أن ترجم أربعة كتب لهذا الكاتب العملاق المختص أساسياً بالسيميائية والذي ترجمت روايته “اسم الوردة” إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأصبحت فيلماً مشهوراً.

تتكلم رواية “العدد صفر” (دار العربي الجديد) عن رجل إيطالي من منطقة تريستي المحاذية للنمسا، وعن تعلّمه اللغة الألمانية منذ صغره، دون الانتهاء من دراسته الجامعية، لأنه شُغل بترجمة كتب ألمانية من الدرجة الرابعة. ولكنه سرعان ما ملّ من هذا العمل، فأصبح مربياً لطفل ألماني غبي لمدة سنة. وانتهى أخيراً إلى مراجعة الكتب لثلاث دور نشر. وتزوّج، وفشل بسرعة في زواجه. فصار يؤلف روايات بوليسية للآخرين. وفي الخمسين من عمره تحوّل إلى الصحافة.

استدعاه صحافي مخضرم اسمه سيماي وطلب منه أن يساهم في إنشاء جريدة “الغد” التي سيصدرها الكومندتور الثري فيمركاتي في ميلانو علّه يلج “الصالونات الرسمية للأوساط المالية والمصارف”. وكان المشروع يقضي بإصدار العدد صفر في اثني عشر إصداراً. وفي اليوم التالي، عُقد الاجتماع الأول لأسرة التحرير: الدكتور كولونا مساعد الإدارة، مايا فريزنا التي كانت تعمل سابقاً في مجلة تعنى بالقيل والقال، رومانو برغادوتشيو المختص في كشف الفضائح، كامبريا مترصد أخبار الاعتقالات والوفيات، لوشيدي الذي “شارك في منشورات لم يسمع باسمها أحد”، بلاتينو “القادم من مسيرة طويلة في مجلات أسبوعية متخصصة في الألعاب والألغاز”، كوستانتسا الذي “عمل سابقاً بصفة مراجع في بعض الصحف”. ثم رسم سيماي لهم ملامح صحيفة “الغد” العتيدة: “سنتحدث عما يمكن أن يحدث غداً، من خلال مقالات في العمق، وملاحق فيها تحقيقات، واستشرافات غير منتظرة… إن جميع تحقيقاتنا الفضولية سيكون لها مذاق الأشياء الجديدة، والمفاجئة، بل أجازف بقول نبوءة”. وبعد الاجتماع يخرج الصحافي الراوي بصحبة برغادوتشيو ليشربا كأساً في أحد البارات، ويروي له زميله ارتباط عائلته السابق “بالنظام المشؤوم” [نظام موسوليني] قائلاً: “أبي عوّدني ألا أصدق الأخبار كمل لو كانت مُنْزلة. الصحف تكذب، والمؤرخون يكذبون، واليوم التلفزة أيضاً تكذب… نحن نعيش في عالم من الكذب، وإذا علمت أنهم يكذبون عليك، فينبغي لك أن تشك دائماً”. فيوجد “دائماً وراء ظهرك شخص يريد خداعك”. ويقول له إنه بحاجة إلى شراء سيارة سريعة ليتابع تحرياته في موضوع لم يحدده. وينتهي اللقاء بينهما بقول الداعي على الطريقة الإيطالية “الحساب عليك”.

وفي يوم الأربعاء 8 نيسان يعقد أول اجتماع حقيقي لهيئة التحرير؛ ويدور حول فضائح الفساد في الأحزاب السياسية الإيطالية. ويوصيهم سيماي بعدم إبداء رأيهم في الأحداث التي ينقلونها، وباستعمال صيغ الظن “لعل” و”ربما” بدل التأكيد. ويعلق سيماي على ما ورد في إحدى الصحف: شخص مولود في 15 آذار 1944 ومتهم بأنه حضر اغتيال يوليوس قيصر (في 15 آذار 44) وبأنه قال لبروتوس “سنلتقي قريباً في فيليبي”. والحقيقة أنه قال “عند فيليبي” وهو شرطي المرور المكلف بتنظيم السير في ساحة يوليوس قيصر في ميلانو. وورد في الاتهام أنه قال: “أعطِ قيصر ما لقيصر” علماً بأن قيصر أعطيَ 23 طعنة خنجر. ويعلّمهم سيماي فن الدحض والتكذيب. واقترح على الصحافيين أن تكرس الجريدة، إلى جانب البرامج التلفزيونية والتنبؤات الجوية والأبراج، نصف صفحة أيضاً للألعاب. وكلّف الآنسة فريزيا بنشر التنبؤات الفلكية وبالتركيز على الجانب التفاؤلي فيها. وراح الصحافيون من ثم بسرد قصص حول مقالات الألعاب: “لماذا ينبت الموز على الشجر؟ لأنه لو نبت على سطح الأرض لأكلته التماسيح؟”، “لماذا تسير كتابتنا من اليسار إلى اليمين؟ لأنها لو سارت من اليمين إلى اليسار لبدأت الجملة بنقطة”، “لماذا عدد الأصابع عشرة؟ لأنها لو كانت ستة لكانت الوصايا ستاً فحسب، وما كان حراماً مثلاً أن تسرق”، “لماذا ابتدعوا الويسكي في اسكتلندا؟ لأنه لو نشأ في اليابان لأصبح ساكي وما أمكن شربه بالصودا”… وحسم سيراي هذا الاستطراد المليء بالأسئلة الغبية وبالإجابات الأكثر غباء؛ ونصحهم بألا يغوصوا في الأدب والاقتصاد والسياسة الدولية. جريدة “الغد” هي للقارئ المتوسط الحال. ويلمح أمبرتو إيكو إلى أن معظم الإيطاليين هم مثل هذا القارئ الساذج.

وخلال المداولات التي تمت بين هؤلاء الصحافيين، يذكر أحدهم أنه تلقى رسالة تحمل ختم “فرسان مالطة”. ويذكر لهم أن الشرطة كتبت تقريراً حول تفرعات هذا التنظيم في العالم، وعددها 16 فرعاً يمتد ظهورها من عام 1908 وحتى 1982. وهنا صال أمبرتو إيكو وجال في التحدث عن التنظيمات السرية المتلطية بالدين، لا سيما في القرون الوسطى التي كان يعتبرها “عصره الذهبي”. ويذكر أيضاً أن الكومندتور نال لقبه من أخوية القديسة مريم في بيت لحم. ولكن سيماي رفض أن تطرح مسألة فرسان مالطة كي لا يغضب صاحب مشروع الجريدة. وبدأ العمل في العدد صفر مع التركيز على الإعلانات الإشهارية والإعلانات الجنائزية والأبراج وأسماء المواخير (التي أغلقت عام 1958 والتي استبدلت بالبغايا الجوالات).

ويصر سيماي على المهنية الصحافية. فيسخر أحد الصحافيين ويفضل القول: “كل شيء يسير على ما يرام”؛ فلا نقول مثلاً عن رجال الشرطة الذين أمسكوا بسارق الدجاج بأنهم تصرفوا بكل مهنية. ويضيف سيماي: “الصحف تعلّم الناس كيف ينبغي أن يفكروا”.

ويدعو برغادوتشيو الراويَ إلى كأس في أحد البارات ويقول له: “عندي نبأ مثير ستبيع بسببه جريدة “الغد” مئة ألف نسخة، لو كانت في السوق، بل أكثر من ذلك، أريد منك نصيحة. إنها قنبلة، وتتعلق بموسوليني”. ويروي له خبراً عن الأيام الأخيرة التي ظهر فيها الدوتشه في شمال إيطاليا التي كان يسيطر عليها الألمان بعد سقوط روما في أيدي الحلفاء عام 1943.

ويقول الصحافي إن موسوليني الحقيقي اختفى وحلّ محله شبيهٌ له تم إعدامه بدل معلمه. إذن كان هناك موسولينيان. وسبق للدوتشه أن استعمل هذا الشبيه في بعض الاستعراضات الرسمية. أما موسوليني الحقيقي فلجأ إلى الأرجنتين بعد سقوطه متخفياً بزي راهب مريض وبجواز فاتيكاني ربما. وترك برغادوتشيو زميله يدفع الحساب مرة أخرى. “وخرجنا، ونظر حوله ثم ذهب محاذياً الجدران، كما لو كان خائفاً من أن يتبعه أحد”.

وتدخل الرواية في تفاصيل تشريح جثة الشبيه التي نكّل بها اليساريون والشيوعيون في الشمال الإيطالي. ويطّلع صحافيّنا الفضولي على وثائق هذا التشريح الذي وجده في الأرشيف، من دون أن تذكر فيه قرحة المعدة التي كان موسوليني مصاباً بها ولا علائم الزهري عليه.

ويلي ذلك فصل عن العلاقة العاطفية الناشئة بين الراوي والصحافية مايا. ثم تعيدنا الرواية إلى تتمة الأحداث المتعلقة بموسوليني. في ليلة من شهر نيسان 1946 تفتح قبرَ الدوتشه مجموعةٌ من الفاشيين الجدد ويدفن في مسقط رأسه في ريدابيو، فصار قبره مزاراً للمتعصبين الجدد “بالأقمصة السود والتحية الرومانية”. ولكنهم كانوا يقدسون الشبيه. وتذكر الرواية تواطئاً تم في التسعينات من القرن الماضي بين عدد من مسؤولي النظام الإيطالي والفاشيين الجدد الذين ظهر بينهم المخرج السينمائي فيتّوريو موسوليني وعازف الجاز الشهير رومانو موسوليني.

ويعيدنا النص إلى جريدة «الغد» وصحافييها. أوصاهم سيماي بكتابة مقال أساسي عن النزاهة والنزهاء في العدد 2/0 قائلاً: “لا أحد يجهل الآن أن الأحزاب فيها كثير من الفساد وأن أفرادها جميعاً يتلقون الرشى، ويجب أن نجعلهم يفهمون أننا لو أردنا لأمكننا أن نثير حملة ضد الأحزاب. ينبغي التفكير في حزب النزهاء، حزب فيه مواطنون قادرون على التكلم عن سياسة مختلفة”. ولكن يبقى أن مشروع الجريدة وممولها مشبوهان ولا يمتّان للنزاهة بأية صلة.

ومن ثم تنقلنا الرواية إلى زيارة قام بها الراوي وبرغادوتشيو لكنيسة سان برناردو المزيّنة جدرانها بالجماجم والعظام، كما لو كانت فسيفساء بيزنطية. وهذه الجماجم تذكّرهما بأوضاع العالم الآن التي نشأ فيها تنظيم Stay-behind (البقاء في الخلف، البقاء وراء الخط) الذي أفرز منظمة الجيش السري المسلح O.A.S. في فرنسا، وانقلاب العقداء في اليونان، وتفجير ميونيخ على يد مجهولين، واغتيال زعيم جبهة التحرير في الموزمبيق، وبروز جماعة الذئاب الرمادية التركية، وتنظيم غلاديو اليميني المتطرف في إيطاليا وبروز الغرفة الماسونية P2 الإيطالية… وكان التنظيمان الإيطاليان الفاشيان يتوقعان عودة موسوليني من الأرجنتين مع أنه ناهز السابعة والثمانين. وهكذا تلوّنت إيطاليا في النصف الثاني من القرن العشرين بشبح موسوليني. وحاول هذان التنظيمان القيام بانقلاب عسكري وبإعادة الراية الثلاثية الألوان وبإعلان شعار “تحيا إيطاليا”، ولكن الانقلاب فشل لأن قائد الانقلاب قد أُخبِر بأن موسوليني القادم من الأرجنتين قد مات فجأة. ويعلّق الصحافي: “المسألة أن كل ما عرفناه كان زائفاً أو مشوّهاً، لقد عشنا في الخدعة طوال العشرين سنة اللاحقة. لقد قلت لك إنه لا ينبغي أبداً تصديق ما يقصّونه علينا”. وتستعر الحرب السرية بين اليمين واليسار فيَظهر تشكيل “الألوية الحمراء” اليساري وتبدأ سلسلة من الاغتيالات والمجازر (مجزرة ساحة لوجيا بيريشيا، انفجار قنبلة في مطار اتياليكوس، موت البابا يوحنا بولس الأول في أيلول 1978 بعد شهر من انتخابه من دون أن تشرّح الجثة مما يثير الشبهة في مقتله، محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني على يد تركي ينتمي إلى تنظيم “الذئاب الرمادية” المتطرف، خطف واغتيال ألدو مورو…).

لقد أعدّ برغادوتشيو 12 حلقة حول هذه الأحداث ونوى عرضها على سيماي لينشرها في الاثني عشر عدداً من جريدة «الغد». ولكنه قُتل وهو عائد إلى بيته. “كان برغادوتشيو يعرف أكثر مما ينبغي أن يعرف”. وبعد انصراف الشرطة من مكتب الجريدة، قرر سيماي إلغاء مشروع الجريدة ودفع للصحافيين تعويضاً زهيداً وقرر الاختفاء بعيداً عن ميلانو، ونصحهم باتخاذ الحذر.

تقنية الرواية

قسم إيكو روايته إلى 18 فصلاً، وضع لكل منها تاريخاً يبدأ أولها في 6 حزيران 1992، الساعة 8، ثم ننزل 6 مرات لشهر نيسان وننزل 6 مرات لشهر أيار ونعود إلى النزول مرة لشهر حزيران؛ وفي الفصل السابع عشر نعود إلى 6 حزيران 1992، ولكن الساعة 12 ظهراً. وتنتهي الرواية بالفصل 18 المعنون “الخميس 11 حزيران”. وفيه يقبع الراوي في بيت مايا ويخشى الخروج خوفاً من التعرض للاغتيال، بعد أن لاحظ (أو توهّم) آثار شخص تسلل إلى بيته أثناء غيابه وقطع الماء عنه. وأثناء التخفي يشاهد هو ومايا فيلماً إنكليزياً عنوانه “عملية غلاديو”، وهو فيلم وثائقي استعادي يكشف أحداث إيطاليا في نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعدها ويُبرز دور المخابرات العالمية وبخاصة يد الـ CIA فيها. فتقول له مايا: “لا شيء بعد الآن يمكن أن يحيّرنا، في هذا البلد. في نهاية الأمر قد عانينا اجتياحات البرابرة، ونهب روما، ومجزرة سينيغاليا، وستمئة ألف قتيل في الحرب الكبرى، وجحيم الحرب الثانية… إذا كانت الولايات المتحدة، ومصالح الاستخبارات في نصف أوروبا، وحكومتنا، والصحف، قد كذبت علينا فلمَ لا يمكن أن تكون الـBBC قد كذبت علينا أيضاً؟”. ويفكران في مغادرة إيطاليا إلى أميركا الجنوبية: “بلدان دون غموض، كل شيء فيها يجري تحت أشعة الشمس، والشرطة تقول إنها فاسدة بمقتضى القانون، والحكومة وهيئات الجريمة المنظمة تعمل معاً كما ينص الدستور على ذلك، والمصارف تعيش على غسل الأموال والويل لك إن لم تأتِ بأموال أخرى”. ولكن إيطاليا صارت هكذا، كما يقول النص: “الفساد مسموح به، المافيوزو جالس رسمياً في البرلمان، والمتفلّت من الجباية في الحكومة، ولن تَجِدي في السجون إلا سارقي الدجاج الألبانيين”. وتنتهي الرواية بهذه العبارة التشاؤمية المداوِرة: “عندما يصبح بلدنا من العالم الثالث تماماً، آنذاك يصبح قابلاً للعيش”، وستسطع جزيرة سان جوليو – حيث كانا – تحت الشمس مرة أخرى.

تبدأ الرواية إذن من آخرها. نقرأ الفصل الأول المليء بالألغاز ونحن في حيرة من أمرنا؛ ثمّ تتوضح الأمور شيئاً فشيئاً. وأمبيرتو إيكو بارع في خلق الأجواء المتاهية في أعماله الروائية. فيتساءل المرء: هل نحن ضحية أيدٍ تعمل في الخفاء من خلال جميع وسائل الإعلام وتحرّكنا مثل الدمى؟

حركة الزمن في الرواية لا تسير بخط تسلسلي مستقيم بل بصورة دائرية تلتقي فيها النهاية والبداية. وهي في المحصلة حركة قصيرة الأمد تمتد من 6 حزيران 1992 حتى 11 حزيران، أي شهر وأسبوع. وفي المداولات الصحافية بين أسرة تحرير «الغد» تتكشف لنا أسرار العمل الصحافي الخفية وأساليبه المريبة الرامية إلى التأثير في الرأي العام وتوجيهه حسب مصالح الحكام والأجهزة السرية. صحيح أن إيطاليا هي التي تظهر في الواجهة، ولكن إيحاءات النص وتلميحاته تشير إلى حيّز كوكبي أرحب يشمل عالمنا بأسره.

عنوان الكتاب: العدد صفر    المؤلف: أمبرتو إيكو

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى