أميركا تنسحب../ غازي دحمان
بين تخمين أنها منسحبة، وتقدير أنها باقية في الشرق الأوسط، سال فيض من التحليلات عن موقف الولايات المتحدة الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، فلا واشنطن أعلنت، بصراحة، أنها في طريق الانفكاك عن المنطقة نهائياً ومغادرتها، ولا هي تقوم بما يوحي أنها ما زالت ضنينة بمصالحها في المنطقة، وأمينة على تراثها السياسي والعسكري الذي صرفت عليه جزءاً مهماً من رصيدها المالي والبشري.
الاستراتيجيات لا تخفي نفسها، في الغالب تتمظهر بأشكال عدة، يمكن استكشافها عبر التوجهات والسياسات، ويمكن تلمسها من الإجراءات العملانية العديدة، فالاستراتيجيات تشكل روح القوى الكبرى، وعقلها، وجسدها الذي يظلل مساحات واسعة من الحيز الأرضي، باعتباره مناطق نفوذ وتمدد لفيض قوتها.
المفارقة المحيّرة أن ظلال الوجود الأميركي في المنطقة ما زالت باقية، ما زالت مرتكزاتها العسكرية موجودة، ومنتشرة على مساحة واسعة في الشرق الأوسط. وما زالت خطوط إمدادها ونقل مؤن جنودها على حالها، ومظلتها العسكرية ما زالت تغطي المنطقة، من مصر التي اهتزت العلاقات معها شكلياً، إلى الأردن الذي تتعزز العلاقات العسكرية والسياسية معه، فتركيا التي تقع، بالمعنى العسكري، تحت مظلة حلف الأطلسي (الناتو)، والتي تشكل الولايات المتحدة محوره الأساسي، لكن المفارقة، أيضاً، أن هذه المظلة تدخل في حالة يمكن وصفها بالتسكين الاستراتيجي، أو تعطيل الفاعلية، مرةً، بذريعة أن واشنطن لم تعد راغبة بالحروب، وأخرى بذريعة الرغبة بإدارة النزاعات الدولية، عبر ما يسمى القوة الناعمة التي تحيّد المكون العسكري، وتعطل أذرعته، وتعطي كل الفاعلية للأدوات الديبلوماسية والتجارية.
ذلك لا ينفي وجود عملية إعادة تموضع، ظاهرة ومكشوفة، تجريها واشنطن، ليس على صعيد وجودها في المنطقة وحسب، بل، وعلى صعيد حضورها قوة عالمية، ينتشر نفوذها على مساحة أرضية واسعة من العالم. ولافت أن واشنطن، بصدد صنع مقاربة مختلفة، إذا استمرت سياستها بالنزوع إلى أفكار باراك أوباما، قوام تلك المقاربة إعادة تعريف القوة والحضور الأميركيين، بعد أن يصار إلى إعادة صياغة عناصر الحضور والقوة وترتيبها، ودمجهما بحسابات الربح والخسارة والرشادة في الإنفاق، ذلك أن أوباما، ونخبته الحالية، هم إفراز للأزمة المالية التي عصفت بأميركا، وكل مخرجاتها السياسية ليست أكثر من سياسات عامة، ذات بعد اقتصادي لإدارة تلك الأزمة، وترتيب عملية الخروج منها، ويدخل، في هذا الإطار، التوجه الأميركي صوب الشرق، والذي يعكس سياسات تجارية واضحة، وعملية بحث عن الأسواق، أكثر منها اعتبارات أخرى.
أميركا في مرحلة تسكين فاعليتها الشرق أوسطية، وتلك مرحلة تحرك أولى، وفي ظلها، تعمل واشنطن على فتح نوافذ وممرات آمنة، لخروجها، ليس بالمعنى العسكري، ولكن، بمعنى وجودها كقوى ذات أسلوب مميز، في حقل التفاعل الدولي، وذلك لا بد يحتاج إلى هامش زمني ليمكن استبطانه وقبوله، إذ أياً يكن تأثير سياسات أوباما على الاستراتيجية الأميركية، يبقى أن أميركا دولة تنطوي على توجهات ورؤى سياسية عديدة، تتعايش وتتصارع في السياق الديموقراطي الأميركي، كما أَن هناك مراكز قوى ترتبط مصالحها بشكل مباشر بالشرق الأوسط، وتملك هذه تأثيراً وازناً في عملية صنع السياسة الأميركية، واتخاذ القرارات فيها.
بيد أن الملاحظ في السلوك الأميركي ترتيبه المغادر، بمعنى أن واشنطن كأنها ترتب عملية خروج، أكثر من إدارة نزاعات وتنظيم مصالح. يبدو هذا السلوك واضحاً على مستوى كل الملفات التي تعمل واشنطن عليها، دفعة واحدة، في المنطقة، ففي الملف الفلسطيني، تكشف خطة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن لا منطقية كبيرة في مضامينها، لتصورها أَن اللحظة العربية مناسبة لدفع القيادة الفلسطينية إلى القبول بأي حل، لكنها تعكس رغبة أكبر في عمل شيء لإسرائيل قبل المغادرة. وربما لتضمن التخلص من ضغط إسرائيل عليها، وتركها ترتب انسحابها بهدوء، في الملف السوري يبدو الانسحاب أكثر وضوحاً، وتبدو السياسات المتبعة فيه أَكثر تطبيقاً لقاعدة التخلص من الهموم الشرق أوسطية، فبالإضافة إلى رفضها أي تدخل عسكري في الحدث السوري، تقنع إدارة أوباما نفسها برهانات، ثبت أنها تنطوي على تضليل كبير، من نوع استنزاف روسيا وإيران، وقتل التطرف نفسه بنفسه في الساحة السورية، عبر حروب القوى التي تكرهها أميركا. وتنطوي هذه الرهانات على تصور ساذج، مفاده تخلص أميركا من الهم الشرق أوسطي، بإنهاك القوى المعادية لأميركا، أو بأن يخرج الشرق الأوسط نفسه بنفسه من دائرة المناطق المهمة حيوياً.
ويتجلى الوضوح الأكبر في سياسة أميركا الانسحابية في سياستها تجاه إيران، وتتمظهر البراغماتية الأميركية عبر محاولة نزع العنصر النووي من السياق الإيراني، مقابل السماح بتمدد نفوذ طهران السياسي والمذهبي في المنطقة، فلا يبدو أن لدى واشنطن إشكالية في ذلك، وقد أثبتت أنها غير منزعجة من تمدد ذلك النفوذ على مدار منطقة واسعة. ربما لأن توجهات أميركا الجديدة تميل إلى العودة إلى سياسة التلزيم، بحيث يجري تلزيم طرف بأمن منطقة معينة، واستقرارها، على طريقة “البكج”. ذلك أقل كلفة ومجهوداً، ويثبت هذه الحقيقة تفكيك واشنطن تحالفاتها الإقليمية القديمة في الخليج ومصر، وقد يكون انعكاس هذا الإدراك على حلفائها السبب وراء بحثهم عن تحالفات جديدة، ما دامت أميركا في طريقها إلى الرحيل.
العربي الجديد