أميركا والإسلامويّون والإرهاب… ثم ما المصير؟ / محمد الحدّاد
في 2009، وبعد فترة قصيرة على تولّي السيد باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة، خرجت مجلة «نيوزويك» المعروفة بنضاليتها في مجال السياسة الخارجية الأميركية، بغـــلاف مثــير يعــتبر سابقة.
كانت صفحة الغلاف مطليّة باللون الأخضر (لون الإسلام في المتخيّل الغربي) وعليها بحروف ضخمة: «الإسلام الراديكالي حقيقة من حقائق الحياة، كيف نتعايش معه؟» ووردت هذه الجملة باللغة العربية في المجلة الصادرة بالانكليزية.
كان هذا العدد من المجلة مؤشراً إلى عديد المؤشرات الأخرى للتحوّل الذي شهدته السياسة الأميركية مع أوباما، والمتمثل في الانتقال من المواجهة المباشرة للإرهاب إلى محاولة احتوائه بطرق متعدّدة، منها الليونة إذا لزم الأمر. وصيغة السؤال كما طرحته المجلة تتضمن جوابه، ويمكن القول على سبيل الاختصار إنّ الإدارة الديموقراطية لأوباما استعادت العقيدة الديموقراطية المعتمدة سابقاً في عهد بيل كلينتون، وأطلق عليها آنذاك عقيدة «الاحتواء المزدوج»، وكانت تعني محاصرة الدولتين «المارقتين» إيران الملالي وعراق صدام حسين، بإضعاف كلّ منهما بالأخرى وإضعافهما معاً بعزلهما عن محيطهما الإقليمي وعن العالم والاقتصاد المعولم.
ومع أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، طبقت نظرية الاحتواء المزدوج على محورين وليس دولتين، هما محور مرشد الثورة بطهران– المالكي– الأسد- «حزب الله» من جهة، وتنظيم «القاعدة» وفروعه من جهة أخرى. فسؤال «كيف نتعايش معه؟» (الإسلام الراديكالي) الذي طرحته «نيوزويك» اتضح جوابه مع مرور الزمن: تحويل وجهته لاستنزاف المنطقة كي تعيش شعوبها في المواجهات والدماء وتمتصّ ثرواتها بواسطة الفساد والرشوة والتهريب. وهو لعمري موقف ذكي لا يحتاج إلى تضحيات مادية ولا بشرية من القوى الخارجية، بما أنّه يعتمد فقط على الاستفادة من المخزون العميق للعنف لدى قطاعات واسعة من شعوب المنطقة، وتوجيه هذا العنف إلى الداخل بدل الخارج.
وعبثاً يلهث أبناء المنطقة لمواجهة هذا الفخّ المنغلق عليهم ما لم يحسموا في أصل الموضوع، أي مقولات التكفير والجهاد المستعملة في غير مواضعها. لكن المفارقة الكبرى تتمثل في أنّ المجتمعات التي تصطلي بنار الإرهاب وتسعى إلى مواجهته تعمل من حيث تدري أو لا تدري لصناعته وتأجيجه، وتسخّر لذلك أموالها ومؤسساتها، عبر أجزاء من برامج التعليم ووسائل الإعلام وخطب المساجد. والأدهى أنه يتضح مع الوقت أنّ قدراتها على تصنيع الإرهاب أكبر بكثير من قدراتها على السيطرة عليه، عدا طابع «الكافكائية» (العبثية) الذي يطبع موقف من يصنع الشيء ويحاربه في آن.
الإسلاميون الموصوفون بغير الراديكاليين هم جزء من هذا المشهد العام، وهم صادقون وكاذبون في إدانتهم العنف والإرهاب. فهم صادقون لأنهم لا يمارسونه بأنفسهم، وكاذبون لأنّهم هيأوا له ويهيئون كلّ أسبابه: فمَنْ الذي نشر الفكر التكفيري للمودودي وسيد قطب في كلّ بيت؟ ومن الذي نشر فكرة أن العمل السياسي ضرب من الجهاد؟ ومن الذي شجّع الشباب على تعاطي الرياضات القتالية؟ ومن الذي عمل عقوداً لإضعاف رابطة المواطنة بمقولات «الجماعة» و «الشيخ»، ومن الذي نشر الشكّ في مشروعية الدولة الوطنية بتهويمات استعادة الخلافة؟ وفّر هؤلاء كلّ شروط العنف والإرهاب قبل أن يتحوّلوا إلى موقف المدين للراديكاليين والإرهابيين.
ولعلّنا نجد في أحداث الأيام الأخيرة شاهداً جديداً على هذا التناقض في مواقف «غير الراديكاليين»، بما يصبّ حتماً في مصلحة الراديكالية. فعندما واجه العسكري الليبي خليفة حفتر الجماعات المتشدّدة والمسلحة في ليبيا، قامت قائمتهم وانطلقت حناجرهم بالإدانة لهذا الشخص. ولو كانت ليبيا دولة مستقرّة تحكمها مؤسسات لما استحقّت مبادرة حفتر غير الإدانة، لكنّ الجميع يعلم أنّ ليبيا فوضى عارمة وميليشيات متناحرة وخطف يومي للمدنيين وملايين من قطع السلاح تباع على الطريق العام، والجميع يعلم أنّ الجماعات الجهادية المسلحة ما فتئت تنتشر وتسيطر على مدن ليبيا وأريافها وصحاريها منذ سقوط القذافي، وهيّأ لهم الإسلامويون «غير الراديكاليين» المناخ المناسب لهذا الاكتساح من خلال منع السيد محمود جبريل من رئاسة الحكومة، على رغم حصوله على غالبية الأصوات في انتخابات 2012، ثم إقصائهم السياسيين المعتدلين القادرين على تسيير الدولة من خلال قانون العزل السياسي المشرّع عام 2013. وهم اليوم، في ليبيا وكلّ مكان تتوافر فيه أبواق دعايتهم، يذرفون دموع التماسيح على الشرعية المنتهكة في ليبيا، كأن فيها دولة كي نتحدث عن الشرعية، ويتظاهرون بالعطف على المدنيّين المتضرّرين من المواجهات، وكأنهم لا يعرفون كم تضرّر الليبيون في السنتين السابقتين من سطوة الميليشيات والخطف اليومي للنساء وسيادة قانون الغاب في كلّ مكان.
إنّ الرابط المشترك بين أميركا والإسلامويين «غير الرادكاليين» في موضوع الإرهاب، هو ظنهما معاً أنهما قادران على الاستفادة من هذا الإرهاب. فأميركا تستغلّه لجعل منطقة «الشرق الأوسط الكبير» محتاجة الى رعايتها وحمايتها وحضورها، والإسلامويون ليَظهَروا بمظهر الاعتدال أمام التشدّد، ويمثلوا الحلّ الأنسب والواقعي في منطقة لا تقبل بالحلول الحديثة للتعايش على أساس المواطنة.
بيد أنّنا إذا نظرنا إلى الأحداث المتعاقبة منذ سنوات، تأكّد يوماً بعد يوم أنّ الإرهاب أقوى من كلّ قوّة تظنّ نفسها قادرة على تطويعه والاستفادة منه، وأنه سيتجاوز الجميع ويتحرّر من كلّ عقال، فهو قوّة عمياء لا يمكن احتواؤها. لذلك نقول مجدّداً: لا نجاح لأية خطة أمنية تطارد الإرهاب ولا تراقب مداخله وتواجه نتائجه وتروّج لأسبابه، إلاّ إذا كان القصد تعميق الظاهرة توقّعاً للاستفادة منها.
الحياة