أميركا والنأي بالنفس عن المعارضة السورية/ سلام السعدي
في غضون أسابيع قليلة، ومع بداية العام الجديد، تنهي الولايات المتحدة الأميركية مساهمتها في غرفة عمليات الموك الداعمة للمعارضة السورية في جنوب سوريا. ولا يعرف إن كان القرار الأميركي يتصل بإعادة توزيع الأدوار بما يخصّ الدول الداعمة، أو بوجود برنامج جديد يتناسب مع التطورات الأخيرة الخاصة بمناطق خفض التصعيد، أو يمثل، ببساطة، استكمالا للانسحاب الأميركي من الملف السوري في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب.
عمل ترامب منذ توليه السلطة على استكمال ما بدأته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في نهاية عهده بالنأي بالنفس عن المعارضة السورية، وقصر تحالفها الاستراتيجي على قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الأكراد مكونها الرئيسي. كما يأتي التطور الجديد في الجنوب السوري ضمن سياق عام تخلله تراجع الدعم العربي عن المعارضة السورية على مختلف الجبهات منذ منتصف العـام الماضي، ما عرّضها لهزائم كبيرة من قبل النظام السوري وحلفائه الذين استرجعوا العديد من المناطق. غير أن هذا التطور في موازين القوى بصورة كبيرة، وفي نهاية المطاف، أنهى العمليات القتالية بشكل فعلي وجعل مسار المفاوضات، مع نظام لا يريد تقديم أيّ تنازل، الطريق الوحيد الذي على المعارضة أن تسلكه.
كما ساهم قطع الدعم عن المعارضة بخسارة نفوذها على مناطق واسعة في شمال سوريا لصالح تنظيم جبهة النصرة التي سيطرت على مدينة إدلب وقرى عديدة بعد هزيمة حركة أحرار الشام التي كانت تعدّ أقوى فصيل في شمال البلاد.
ولكن قطع الدعم لا يتصل فقط بتغيّر حسابات الدول الداعمة وتغيّر المناخ الإقليمي، وإنما بالأزمة البنيوية التي تسيطر على المعارضة العسكرية وتمنع تحقيق أيّ شكل من أشكال الوحدة.
منذ بداية الثورة السورية، تركّز الحديث عن الانقسام الطائفي كأحد العوامل التي أضعفت المعارضة السورية، وشدت بالمقابل من عضد النظام ومنحته القوة. التركيز على الهويات الطائفية القاتلة تجاهل وجود هويات مناطقية لا تقل استقطابا وفاعلية عن الأولى، وربما تعدّ أحد أهم عوامل منع وحدة المعارضة العسكرية. إذ تتشكل الفصائل العسكرية في كل المحافظات على أساس هويات محلية مناطقية ما دون وطنية تخص مدينة أو قرية بعينها. ولا تعدو الفصائل الكبيرة كونها تجميعا لفصائل صغيرة غارقة في محليتها وغير قادرة على تجاوزها.
وهذا هو الحال مع الجبهة الجنوبية التي ورغم تشكلها كجسم عسكري- سياسي موحد قبل نحو أربع سنوات لتمثل محافظتيْ درعا والقنيطرة، بقيت تضمّ نحو ستين فصيلا عسكريا، تحتفظ كلها بهويتها المناطقية. ويقود تلك الفصائل زعماء محليون ينتمون إلى عائلات معروفة ذات نفوذ اجتماعي قديم، أو أفراد أسسوا زعامتهم في ظل الثورة ولكنهم يستندون إلى هوية تقليدية مناطقية أيضا.
ساعد ذلك على تكريس التشظي العسكري والسياسي كمرض عضوي متأصل لدى المعارضة السورية يصعب تجاوزه حتى في حال كانت هنالك إرادة لفعل ذلك. لقد ساعدت طبيعة وآليات الدعم الإقليمي والدولي على تكريس ذلك التشظي، إذ دعمت دول كثيرة فصائل متعددة بما يتناسب مع مصالحها وتحالفاتها الإقليمية. ولكن، في مرحلة لاحقة، عندما اقتضت المصلحة الإقليمية توحيد صفوف المعارضة، لم يكن ذلك ممكنا.
رغم هذا التفتّت، بقيت الجبهة الجنوبية قوة عسكرية هامة حيث لم تنجح كل محاولات النظام والميليشيات الطائفية المساندة له في استعادة المساحات الشاسعة التي سيطرت عليها المعارضة السورية خلال السنوات الأولى من عمر الثورة، وتقدّر بنحو ستين بالمئة من مساحة محافظة درعا. ولكن، في المقابل، منع الانقسام المتأصل في صفوفها تطوير قدراتها العسكرية واكتساب ثقة الدول الداعمة، وبذلك لم تتمكن هي الأخرى من طرد النظام من المحافظة.
تصل حالة عدم الثقة اليوم إلى نقطة مفصلية، إذ يبدو أن الدولة الداعمة باتت تريد التخفف من هذا العبء، هذا فضلا عن المزاج الإقليمي والدولي العام الذي تحدثت عنه والقاضي بتقليص الدعم عن المعارضة السورية بصورة عامة.
ولكن، ضمن الحسابات الأميركية، لا يزال هنالك أمر هام يحققه استمرار عمل الجبهة الجنوبية حتى اليوم. إذا نجحت بفاعلية في منع ميليشيات حزب الله وإيران من الوصول إلى المنطقة المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أن للجبهة الجنوبية دورا آخر يتعلق بالحفاظ على مناطق خفض التصعيد والتي أتاحت تجميد العمليات القتالية.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في التعويل على العملية السياسية في جنيف لإنتاج تسوية، فإن الحفاظ على تلك المناطق هو ورقة الضغط الوحيدة، وإن كانت فاعليتها محدودة للغاية، على النظام السوري وروسيا. بمجرّد قطع الدعم العسكري والمالي عن الجبهة الجنوبية، سوف يعمل النظام السوري والميليشيات المساندة له على استعادة مناطق جنوب سوريا، وبالتالي سوف يتجدد القتال ليس هناك فقط ، بل في مناطق أخرى من البلاد كذلك.
لذلك، لا يعرف حتى الآن إن كانت هنالك نية بتعويض الدعم الأميركي عن طريق دول أخرى، أو بتأسيس برنامج جديد يقوم على رؤية مختلفة. أم إن التطور الجديد يمثل، بكل بساطة، تكريسا للانسحاب الأميركي ونفض اليد من المعارضة السورية.
كاتب فلسطيني سوري
العرب