أنا برلينيّ… أنا سوريّ!
حازم صاغية
بعد شهر واحد تحلّ الذكرى الخمسون لإلقاء أحد أهمّ الخطب التي عرفها تاريخ العالم الحديث. فتحديداً في يوم 26 تمّوز (يوليو) 1963، وقف الرئيس الأميركيّ جون أف كينيدي في برلين، أمام حشد من 400 ألف ألمانيّ غربيّ، وألقى ذاك الخطاب الذي اشتُهر، بين ما اشتُهر، بعبارة قالها بالألمانيّة: Ich bin ein Berliner ومعناها: أنا برلينيّ.
فـ “قبل ألفي عام – كما ورد في خطاب كينيدي – كانت العبارة الأشدّ مدعاة للاعتزاز “أنا مواطن رومانيّ”. واليوم، في عالم الحرّيّة، فإنّ العبارة الأشدّ مدعاة للاعتزاز هي “أنا برلينيّ”… كلّ البشر الأحرار، وكائناً ما كان المكان الذي يعيشون فيه، هم مواطنو برلين. ولهذا فإنّني، كإنسان حرّ، أعتزّ بالكلمات القائلة: أنا برلينيّ”.
قيل هذا الخطاب، الذي استقبلته جماهير ألمانيا، الغربيّة يومذاك، بحماسة منقطعة النظير، بعد انقضاء 22 شهراً على إكمال بناء الحائط الشهير الذي شيّدته السلطات الشيوعيّة في ألمانيا الشرقيّة، والذي كان الهدف المعلن منه “حماية الاشتراكيّة من مؤامرات القوى الرأسماليّة والإمبرياليّة”، فيما الهدف الفعليّ عزل شعب ألمانيا الشرقيّة عن العالم وإحكام القبضة البوليسيّة والأمنيّة عليه.
لكنّ ظروفاً أخرى أحاطت بهذا الخطاب التاريخيّ. فقبل 8 أشهر على إلقائه حلّت المواجهة الخطيرة بين كينيدي والزعيم السوفياتيّ نيكيتا خروتشوف حول نصب صواريخ سوفياتيّة في جزيرة كوبا. يومذاك أمسك العالم قلبه من احتمال صدام نوويّ بين الجبّارين، وكان من السهل الافتراض أنّ تمتدّ مواجهة كهذه إلى أوروبا الغربيّة التي تشكّل برلين قلبها ونقطة احتكاكها الأبرز.
على العموم نُظر إلى خطاب كينيدي بوصفه رسالة تضامن مع برلين الغربيّة ومع سكّان ألمانيا الغربيّة وسائر أوروبا. وهو أساساً تضامن مع مَبدئي الحرّيّة والسلام اللذين تتهدّدهما الأنظمة التوتاليتاريّة والتوسّعيّة في الجوار الشرقيّ. فقد بدا وقوف الولايات المتّحدة مع برلين الغربيّة، في هذا المعنى، تذكيراً بوقوفها مع المواقع الحرّة والديموقراطيّة في أوروبا الغربيّة التي ناهضت النازيّين وقاتلتهم في الحرب العالميّة الثانية. وإذ يُؤرّخ اليوم لسقوط أنظمة الاستبداد الشيوعيّ في أوروبا، إبّان سنوات 1989 – 1991، فإنّ إحدى المحطّات المبكرة سيحتلّها ذاك الخطاب الكينيديّ الحاسم.
تُستعاد تلك التجربة وفي البال أنّ رئيس الجمهوريّة الذي يحلّ اليوم في البيت الأبيض، باراك أوباما، ينتمي إلى الحزب الديموقراطيّ نفسه الذي سبق أن انتمى إليه جون كينيدي. ثمّ إنّ الأصول السوداء والمسلمة لأوباما ترشّحه، من حيث المبدأ، لامتلاك حساسيّة حيال الاستبداد والطغيان أرفع من تلك التي امتلكها كينيدي في الستينات. وهذا فضلاً عن أنّ السنوات الخمسين المنقضية سجّلت تحوّلات نوعيّة في الوعي بمسألة الاستبداد على صعيد عالميّ، ناهيك عن تسجيلها انتصارات كبرى لمصلحة الحرّيّة والديموقراطيّة في بلدان أوروبا الجنوبيّة ثمّ في بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة وأميركا اللاتينيّة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ البلد الذي يعادل راهناً ما كانته برلين الغربيّة في الستينات هو: سوريّا. فهناك يجثم على صدر ملايين السكّان نظام قاتل لم يتغيّر منذ 1963، أي العام الذي وجّه فيه كينيدي كلمته البرلينيّة. والنظام هذا بزّ أنظمة كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها لجهة ممارسة القمع في أقسى أشكاله وصوره. ثمّ إذا صحّ أنّ الحرب الباردة انتهت وأنّ سوريّا، بالتالي، لم تعد ساحة من ساحاتها، فهذا لا يلغي أنّها لا تزال الجسر الأساس لتمدّد نظام عقائديّ مناهض للديموقراطيّة، هو النظام الإيرانيّ، إلى المشرق العربيّ. وغنيّ عن القول إنّ النظام المذكور يعادي احتمالات تقدّم شعوب المنطقة، بما فيها الشعب الإيرانيّ، بقدر ما يتعارض مع المصالح الغربيّة ويهدّدها. وهذا فضلاً عن أنّ التحالف الذي أقامه نظام الأسد مع روسيا فلاديمير بوتين يصبّ في الوجهة نفسها، وجهةِ الإعاقة لحرّيّات السوريّين والعرب وإلحاق الأذى، في الوقت ذاته، بالمصالح الأميركيّة والغربيّة عموماً.
فهل نسمع باراك أوباما وهو يقول: أنا سوريّ؟
بطبيعة الحال، يبدو هذا الطموح فائضاً ومبالَغاً فيه لأسباب يكثر تعدادها، بعضها يتعلّق بأحوال الولايات المتّحدة الأميركيّة وبعضها يتعلّق بأحوال الثورة السوريّة نفسها. وواقع كهذا يحمل على الأسف فعلاً بقدر ما يحضّ على قراءة العالم وتاريخه على نحو متفاوت وغير خطّيّ. لكنْ لئن بدا أنّ حظوظ بشّار الأسد قويّة، وأنّ شروطاً محلّيّة وعالميّة عديدة تنتصر له ولاستبداده، فهذا لا يضمن البقاء على هذه الحال إلى ما لا نهاية.