أنا مخيم اليرموك/ خالد بريش
، هل تعرفوني؟ أنا فخر صناعة المجتمع الدولي بعد تشريد عائلتي وأهلي عام النكبة ظنا منه أننا سننسى أمّنا وضرعها وحليبها وبالتالي يستكمل سَبْيها. وأخ كبير لبضعة إخوة أولهم كان اسمه تل الزعتر اغتاله حاقدون بل قاموا بمحو آثاره من على وجه الأرض فنبشوا مقابره على أنغام رصاص العروبة متغنين بالمقاومة وببطولات وعنتريات مارسوها على العزل من النساء والشيوخ والأطفال فصفق لهم كل المتعطشين للدماء الفلسطينية بلا استثناء. فإن نسيتم أخي تل الزعتر، فأنا لم أنس بعد.
أما أخي الثاني واسمه جسر الباشا فقد اغتاله نفس السلاح من أجل إرضاء الصهيونية العالمية كي يحصل منها على شهادة حسن سلوك، عله يرتقي بها على سلم البيت الأبيض درجة وربما أقل قليلا أو أكثر قليلا ليس بالأمر المهم. المهم يا سادة يا كرام هو مشاركة نظام المقاومة والممانعة في الدخول على خط المزاد العلني القائم منذ عام 1948 حول من يقتل من الفلسطينيين أكثر… ومن يشرد أكثر… ويقدم بالتالي للأسياد خدمات أكبر…
أما أخي الثالث فقد كان توأما لأخ آخر أسمته منظمة الأونروا لحماية اللاجئين لكونه أطل برأسه أولا: صبرا… وذلك كناية عن الصبر الذي عاشته أمي أعني وطني أقصد فلسطين، حيث عانت الويلات في حمله فسقط من رحمها وهي تصرخ تحتضر تنادي بقايا من عروبة وضمير، فخرج منطلقا يلاحقه الخوف فمشى ثم مشى عشرات الكيلومترات مصطحبا معه كل فقراء الله المخدوعين من صفد وصفورية وحيفا ويافا وغيرها من المدن التي لم يبق لبعضها أثر حتى وصل إلى نهاية فصول كتب الصبر التي أدماه شوكها فاستوطنها. وأسمت تلك المنظمة البائسة أخي الثاني: شاتيلا، لا لأن الشعور بالتشتت قد أصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه، بل لأنه شتلة الحرية في صحراء مجدبة، ولأنه شتلة الورد الجوري الأصيل في في زمن فج لا يعرف القوم فيه إلا رائحة العفن والدماء والخيانة والغدر بالعزل من أطفال ونساء وشيوخ… إنه الشجرة المباركة التي يستمد منها الثائرون ضياءهم.
عفوا نسيت أن أقول لكم إنهما قتلا مرتين: مرة بسلاح صهيوني اختبأ وراء أشباح طائفية موتورة متعطشة للدماء، ومرة أخرى بسلاح المقاومة والممانعة ولكن بواسطة دُمى حملت في أصلابها حقد التاريخ والثأر وفي جيوبها بقايا من خيرات الثورة. وطبعا طمعا في الرضى الصهيوني عليها وعلى كوادرها في الجنوب المسبي حينذاك. وإن كانت المرة الأولى قد تمت تحت جنح الظلام، إلا أن الثانية دامت عدة أشهر وعلى مرأى ومسمع ومباركة من كل العالم وبالأخص العرب، وألف آه من العرب! والويل والثبور لمن رفع إصبعه أو أشار للسفاحين حينذاك بكلمة، فهم كانوا مدعومين من القريب والبعيد على حد سواء وفي جعبهم إدانات جاهزة ومعدة سلفا.
ولي إخوة آخرون أحدهم اسمه: البَصّ، وآخر اسمه الرشيدية، وقد أدميا حتى أنهكت روحهما فخرجا من المعركة لا حول لهما ولا قوة يترنحان ويستمسكان ببقية باقية من اعتزاز وعنفوان يرددان: اصطبروا وصابروا…
ولي أخ آخر اسمه: نهر البارد، استوطن المتوسط ظنا منه أن القوارب سوف تنطلق من على شاطئه إلى يافا، وهل هناك أجمل من العودة إلى يافا؟ دفع إليه نظام الممانعة والمقاومة بزبانيته من شذاذ الآفاق وأصحاب السوابق والجرائم بعدما أطلقهم من سجونه وحركهم بخيوط خفية كي يعربدوا ويستحلوا ما حرمته الشرائع والإنسانية فيغطي على جريمته النكراء التي ارتكبها في وضح النهار عندما اغتال الرجل الذي طالما أنعم على كبرائهم وولاتهم ومرتزقتهم مما رزقه الله. أقصد قطعوا اليد التي طالما أحسنت إليهم، فدُمرت بعدها تضاريس أخي كاملة ولم يبق منها سوى أطلال تنافس أطلال بغداد بعد زيارة المغول لها. إلا أن مدمريه نسوا جينات مئات الجثث التي تعفنت تحت الأنقاض، وكلي أمل أن تنبت يوما نخلا وورودا تحكي لنا قصص معاناتهم.
أما أنا يا سادة يا كرام فإنني أعاني من الحصار المحكم منذ مدة تخطت ثمانية عشر شهرا، مات خلالها الأطفال والشيوخ جوعا في الوقت الذي يتباهي فيه أنسبائي بأكبر طبق مأكولات شهية مؤلف من كذا… وبأكبر مائدة… وأكبر رغيف خبز الخ… الخ… وقُطع عني الماء والكهرباء، ودُمرت بيوتي بشكل ممنهج على رؤوس أبنائي، وكل ذلك لأنني رفضت أن أكون رأس حربة لنظام دموي قمعي جزار، وأن أكون الجلاد بالنيابة عنه لمن يطالبون بالحرية، مع العلم أن أعضائي وكياني هم أول الباحثين عن الحرية، ولأن أمي ـ أعني حبيبتي فلسطين وبكل بساطة ـ علمتني أن الموت وقوفا أفضل أمام التاريخ وعند الله ألف مليون مرة من الموت ركوعا، وعلمتني أن لا أوجه بندقيتي لمطالب بالحرية مهما كانت النتائج، وبالأخص بعدما قرأت وحفظت عن ظهر قلب ووعيت عنوان الدرس الأول لهؤلاء الثائرين: الموت ولا المذلة! الموت ولا المذلة!
وكذلك علمتني أمي الدرس الأهم والذي جعلته حجابا لقلبي حتى لا يضعف يوما، ولنظري حتى لا يزيغ عن الطريق، ألا وهو: إن النصر مع الصبر وإن مع العسر يسرا. فكانت صلواتي تبدأ: مرحى بالموت شموخا، وتختتم بصيحات الإدانة لأنظمة الانبطاح والخنوع بأبشع صوره، أقصد دجالي المقاومة والممانعة.
، هل تعرفوني؟ هل سمعتم عني؟
أنا وإخوتي وكل الشرفاء من أبناء جلدتنا نعرفكم جميعا فردا فردا، ونعرف عنكم ما تخفونه وما تعلنونه، وما تدبرونه لنا وما تُؤمرون بتنفيذه. ولكننا لسنا مثلكم لأننا لا ولن نتمتم صلوات وتوسلات وقصائد بالعبرية الفصحى، مهما كانت الظروف وحجم المعاناة. ولأن الغد قادم لا محالة قدوم الفجر بعد الليل ولقد أعددنا له أثواب زفاف وشموع وكل ما يلزم…
كاتب لبناني يقيم في باريس
القدس العربي