أنتظرُ الموت في المتوسط أو احتمال النجاة/ مصطفى علوش()
-1-
وخرجت الناس للتظاهر.
حملت كل ما بداخلها من توق للحرية، كسّرت عصا الطاعة والرعب، وتطلعت نحو السماء، ثمة غيم هناك، بدأ من عند البوعزيزي، غيم ماطر يشبه البكاء النظيف، كبكاء الفرح.
ومع أول شهيد، جلس المغني يراقب الدم المهدور على الأرض، على عجل، رتب كلماته وغنى يا حيف، وانتشرت الأغنية وموجة الاحتجاجات لتغدو بعد أيام ثورة.
وصارت المدن تساند المدن، والقرى تؤازر القرى، بعد درعا خرجت سلمية وحمص، وحماه وادلب وداريا ودوما وحرستا وجوبر. وتناسل الفرح، فرح الحرية، الفرح بولادة بلد جديد.
وبدل أن يساندنا العالم «الحر» جلس يتفرج علينا كمسلسل درامي مشوق.
تركونا نواجه أعتى نظام ديكتاتوري في العالم، آخر معاقل الرعب الستاليني، وآخر ما عرفته البشرية من قذارة وجهل ونهب.
كنا وحدنا في الساحات، نغني ونلتف حول الحلم المقبل، صرنا ندفن الشهداء عبر كرنفالات. وحدها الحرية كانت محركنا وهدفنا النبيل.
في البيوت والشوارع والمقاهي، كنا نتحاور في شكل الوطن الجديد، نحلم بالعدالة للجميع. ونغفر مسبقاً عن كل جرائمهم المقبلة، نسامحهم على ما فعلوه وما يمكن أن يفعلوه، ثمة وطن بدأ يظهر في أحلامنا الكبيرة.
مقابل نبلنا وصدقنا، اصطف الطغاة جميعاً مع الطاغية، رتبوا شكل القتل، عدد الشهداء، وجهزوا سجوناً جديدة، صارت المدارس سجوناً والجوامع سجوناً والمراكز الثقافية سجوناً.
مقابل صرختنا التي لخصها ذاك الحرّ: «أنا انسان ماني حيوان»، كانت صرخات القتل والموت تتعالى من كل مكان فيه صورة الطاغية.
تحالف معه اللصوص وقطاع الطرق، والمجرمون والنشالون، وكل خبثاء العالم، ولم يتحالف معنا أحد.
وصبرنا كما يصبر الأحرار، وتعالت شعاراتنا فوق قذاراتهم، وقلنا: «الشعب السوري واحد» وغنينا مع الساروت «جنة جنة جنة يا وطنا جنة «وردوا على الغناء بالقنابل، وعلى الهتاف بالقصف. ورغم الموت والقتل تابعنا.
والعالم يتابع تفرجه، كان ينتظر أن نموت جماعياً ليتباكى علينا، وكان الطاغية يبتسم، يبتسم حين كنا ندفن شهداء المجازر، يبتسم معتمداً على قذارة هذا العالم.
نحن، السوريين عشاق الحضارة، وأصحاب الأبجديات، تركنا وحدنا بلا جدران، وحدنا أمام الرصاص والاعتقال والتصفيات، تركنا وحدنا نبكي شهداءنا، وصارت كلفة الحرية أكبر.
-2-
وانتظرنا، تأملنا أن يستيقظ ضمير العالم، ولكن مقابل حلمنا اجتمع غربان الشرق والغرب علينا.
وصرنا «إرهابيين» نحن دعاة الحرية والحبّ والمطر. إرهابيون، نحن دعاة العطاء والكرم، نحن السوريين الذين هتفنا «الشعب السوري واحد» «إرهابيون»، لأننا لم نرضخ، ولم نمت بعد القتل والاعتقال.
«إرهابيون» وفي إحدى الجمع كان عندنا 850 نقطة تظاهر سلمية أيها العالم.
« إرهابيون» وغياث مطر في قلبه كان غاندي، حين كان يقدم الورود والماء للعسكر وعناصر الأمن.
وهرب من الشعب الثائر من هرب، لأن القتل صار أكبر مما كنا نتوقع، وتابع العالم صمته.
لبنان المتحرر من طغيان الطاغية واحتلاله منذ سنوات امتلأ باللاجئين، والأردن جهز لنا الزعتري، وتركيا فتحت حدودها ومخيماتها لدموعنا وقهرنا.
صرنا الخبر الأول، والثاني، وصرنا برنامج ما بعد الخبر ..
والعالم ينتظر. حريتنا التي طالبنا بها كانت أكبر من أن يبتلعها العالم كله.
وبعد كل برميل، كانت الناس تهرب من الموت الآتي إليها، صار ينتظرنا المتوسط. ليتقاسم مع الطاغية موتنا، ولكنه كان أحياناً يأخذنا لشواطئ النجاة.
في منافينا الجديدة، كانت سوريا كما نحلم بها معنا.
والطاغية يبتسم، يثرثر كمعلم ابتدائي فاشل، يعلمنا معنى المصطلحات والمفاهيم، بينما رصاصه يقتلنا، وطائراته ترسل لنا الألغام البحرية.
في المنفى تفقدنا ما تبقى من الشعب، أحصيا عدد الشهداء والمفقودين، والجرحى والمشوهين. في المنفى بكينا على ما تبقى من رماد الوطن. وبدأنا نرتب شكل ولاداتنا الجديدة، جوازات سفرنا.
في المنفى، غرباء. عن كل شيء، نبكي وحدنا في آخر الليل، كما يبكي مجند على حبيبته، مجند اعتقله الطاغية على حاجز وزجّه في المعركة ضد الناس.
وحدنا هنا في المنفى، ووحدنا في الداخل، ننفض الغبار عن صور التظاهرات الأولى، نغسل أغانينا الأولى، ونقول مع سميح شقير «يا حيف«.
يا حيف أيها العالم، وأنت تتفرج حتى اللحظة على موتنا وهجرتنا، يا حيف على معارضتنا البائسة وهي تتعلم حتى اللحظة فن الكراهية لا فن السياسة ومعرفة جوهر هذا العالم، يا حيف على معارضتنا وهي تتسابق على الثرثرة، بينما الطاغية وحلفاؤه يتابعون مراسم موتنا وقتلنا الجماعي.
يا حيف، ودموعنا لم تحرج أوباما ولا زعماء العالم الحر.. يا حيف على تماسيح السياسة العالمية وهي تصنع من سوريا فلسطين جديدة.
يا حيف على كل شيء، ليس الطاغية وحده يقتلنا إنما عسكره والموالون له، والصامتون على جرائمه.
يا حيف، والمطر الذي انتظرناه مازال محبوساً في سماء الانتظار.
يا حيف، على قسم من الشعب اعتقدنا أنهم بشر مثلنا فاكتشفنا أنهم قتلة ولصوص.
والمغني الذي بذر الأغنية مازال ينتظر، لا يزال الجرح مفتوحاً وأمهاتنا في كل الأماكن ينتظرن رحيل الطاغية.
واللوحة التي رسمتها أصابع فنان «كفر نبل» تنتظر حسن الختام.
وأنا هنا وحدي أبكي قصيدتي وكل الذين ماتوا، وأبكي حروفي اليتيمة وأنتظر الموت في المتوسط أو احتمال النجاة.
() كاتب سوري