صفحات المستقبل

لا حركة فيها.. ولا بؤس/ زينب ترحيني

“الآن أصبحت الأصوات تشبهني أكثر. أو ربما العكس، ربما تعلمت التشبّه بصفائها في شتاتها. لا فرق. هو القرب جذر المسألة”.

هكذا إذاً. من هنا تبدأ القصة. تصحّ تسميتها، ربما، قصة غريبين في مدينةٍ مجنونة. لا، هذه تسميةٌ مُستخدمة حدّ الإفراط. وفي الحقيقة، هما ليسا غريبين. لماذا هذا الجنوح؟ لماذا الإصرار على أخذهما إلى تلك الأمكنة؟

هما لبّ المدينة. لهما أصولٌ لا تنتهي، تغوص في شوارع وتحكي. أحدهما لا يفقه شيئاً من الجنون المحيط، الثاني لا يحوك داخل الرأس إلاّ خلاصات تدفع للثبات. ما دام الصراع القائم قائماً، فالحال على حاله. هنا أصل حكايته التي لم تفهمها هي بكليّتها بعد.

تناقضات كثيرة، تبدأ من الفكرة وفعل اليد لتصل إلى الفكرة وشكلها فوق اللسان. التظهير، العلنيّة، الإشهار كلّه يحتاج الى وقت وجرأة وكثير من الإتقان.

“في العهد القديم، كانت هناك امرأة قبل حواء. ليلى، متمردة، خارقة القوى تركت عدنهم بخيارها الشخصي فاتهموها بجنون الليل”.

التناقضٌ بابٌ إلى القرب. لنُكثر منه، إذاً.

***

“جدّتاي في بالي على الدوام. أراهما عند المغسلة تتوضآن، وفي الحمام وأنا أنحني فوقهما لرفعهما عن الكرسيّ، وهما تبتسمان لي أو تصرخان… أكره أبي وأمي عندما أتذكر أنهما تركاني في المدرسة بينما جدّتي ميتة في الطابق السفلي لبيتنا. سمعت قرآناً في طريق العودة فعرفت أنها رحلت، ماتت”.

مع انطلاق يوم أمس، تقرّر أن لاّ جدّات بعد اليوم. انتهين. مات من تيسّر منهن والبقية لن تصل. لم يعد مسموحاً وجودهن، من الأصل. لنا عمرٌ معيّن، حدّ معيّن، وبعدها يُكتب علينا الرحيل، جماعيّاً. أما المباح فهو: موتٌ قبل الأوان، وجع أمهات، لا أحفاد، فوضى في عالم أيتام، أيتامٌ قتلى، جثث أطفال، أمهات خائفات مذعورات تزغردن في جنائز لا تنتهي…

هذا الجنون بدأ منذ قليل، ولن ينتهي. سيجرف ما تيسّر له، ما يعلق أمامه. الباقون سيبكون ثم ينسون ليعودوا ويموتوا وحيدين، على ضفة قرى فارغة ومدنٍ لا صخب فيها. بيروت تصفرّ. لأيّام كساها لون واحد، شاحبٌ لا ينطق. لونٌ أصفر لا حركة فيه ولا بؤس، أصفر خال. بدت فارغة لولا وهلة ظهرت فيها الجثث، طفت في لحظةٍ في فضائها، وحدّقت بالسكان الأحياء. لم يبحث أحدٌ عن تفسيرٍ منطقيّ، لم يجرؤ أحدٌ على سؤال ما يجري.

هذا أسودٌ مصفرّ، على الأرجح.

***

– “ماذا تفعل؟ ها؟ يومان فقط وقد أبدأ مشياً عشوائياً لامتناهياً في هذه المدينة. أيفرحك هذا؟”.

– “أحب أن أراك تمشين في هذه المدينة بلا وجهة. سيخفّف هذا من إحساسي بأنني في قنّ”.

وحده المشي ما يُخفّف عنّا. على كورنيش المنارة شابة تمارس رياضة المشي بشكل يوميّ. بشكلٍ دائم. صورةٌ من صور المدينة، هكذا سيُقال عنها في سنينٍ مقبلة. تسير كلّ يوم مُرتديةً كنزة بشعار “سوبرمان”. نحيفة، تتباعد قدماها عن بعضهما بشكلٍ لافت، تلوح بشعرها الكثيف الأشقر. سماعات الموسيقى في أذنيها، على الدوام. لم تنزعها ولو مرّة، أقلّه في كل مرةٍ نصادفها. شقراء أو لونٌ أبيض باهت، لا تلتفت من حولها، توحي بأن لا شيء يعنيها: لا بحر ولا بشر ولا إشكالات ولا شباب ولا عباراتٍ متطايرة. تسير بخطى ثابتة. تعيد الكرّة، يومياً، بدقة متناهية. توحي بأنها تعدّ الدعسات، منذ لحظة خروجها من البيت وحتّى العودة. حذاؤها الرياضي وبنطالها الأسود ويداها المتحركتان معها بطريقة نافرة، صعوداً ونزولاً، يجعلانها شبه عائمة على الوجه أو البطن. تثير الفضول. تنظر إليها، تُمعن النظر، لكن لا أمل. لن تلتفت. لن تردّ. لا شيء يعنيها أكثر من قدميها الطائرتين، و”سوبرمان” الجالس أسفل صدرها.

قبل أيّامٍ، أخبرنا سائق السرفيس، نحن الركاب، أنه طلّق زوجته وأنّه يتمنى أن “تدهسها أقرب سيارة”. ردّ أحد الركاب جاء تلقائياً وسريعاً: “خير اللهم اجعله خير؟”.

قال بثقة انها خرجت من دون إذن، إذنه هو يعني. عاد إلى البيت ولم يجدها. وهو لا يؤوي “عاهرات بين أولاده”. هذه هي القصّة. هكذا بدأت وانتهت. صمت الركاب، ومعهم السائق. في البال أن الرحمة كلّ الرحمة هي اكتفاؤه بـ”الطلاق”، لم يقتلها. سكّانٌ مجرمون.

***

“وأنا خارجة من بيتي اليوم، خطرتَ ببالي، حاولت تخيّل شكلك في هذه المدينة. لم أتمكّن من رؤيتك سوى على هيئة رجل طويل، هائل الطول، يضع سيجارة في فمه ويجلس على رصيف خفيض”.

الخيال. تحفيز الرأس. دفعٌ إلى الأمام. هذه مجرّد قصة. ندخلها ولا نعلم شيئاً عن نهايتها. ننتظر. هذا أصلاً ما نفعله. احترفنا الجلوس والتحديق والصمت. جلوسٌ في زاوية الأحداث، نحدّق على مهل، نغشى فوق أرواحنا على مهل، نتحسّس قلوبنا على مهل، وكذلك نفعل مع رؤوسنا. في الضاحية، تسير سيارة مفخخة. تمرّ بين المارّة والسيارات. لا تنفجر. في الوقت نفسه، يُخرج طفلٌ رأسه من شباك السيارة وبيده بالون بلون أحمر فاقع. ينظر من حوله ويضحك لـ”الوطن”.

على حاجزٍ آخر، يقف “وطنان”، أحدهما يلعب بهاتفه والثاني يتفنّن في اللعب مع المارّة. هذه يندهها بـ”يا حجّة”، وأخرى يحدّق مطولاً في قفاها. نعم، له كل الحقّ، من أجبرها على امتلاك مؤخرة؟ ثم إن هذا وطنٌ، مستهدفٌ وبيمون. فليتحرّش، لا عليه.

***

– “لا أريد للحب أن يكون جواباً لفراغ، لا أريده أن يكون سدّاً لفوهة في رأسي”.

– “متى تقولين لي ذلك الشيء الذي لم يحن قطافه بالأمس؟”.

– “ذكّرني، في مرحلةٍ متقدّمة، أن أقول لك أمراً أو سرّاً صغيراً، لا فرق”.

الاقتباسات تعود إلى حوارٍ بين شخصين، أُخذ إذنهما قبل نشرها هنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى