صفحات الثقافة

أنتظر وصول رسالةٍ ما/ فيليبه بينيتِث رِيّس

 

 

الوحدة

كان ينتهي برأس حصانٍ جامح، ذي عُرفٍ منفوش، وصهيلُهُ متجمدٌ في الفضّة.

لقد كان مُلكاً لجدّي، يحتفظ به على طاولة مكتبه، وكان بواسطته يفتحُ أغلفة الرسائل على نحوٍ بارعٍ مثل مبارزٍ محترف: كان الورق يُجرح جُرحاً لا مرئياً. وحينما كان جدّي يغرس النصل في المغلّف، كان رأس الحصان يتحرّك مثل دُميةٍ في مسرح العرائس.

عندما مات جدّي، شغَل أبي مكتبه. لكنه لم يكن يستخدم مِقْطَع الورق ذاك؛ ففي كلّ صباحٍ، كانت سكرتيرةٌ تحمل له الرسائل مرتّبةً داخل مُصنّف.

بعد أن مات أبي، لم أستطع أن أشغل مكتبه، لكنّني أحضرت مِقطع الورق إلى البيت. كنت أتمنى أن أستخدمه بالمهارة ذاتها التي امتلكها جدّي. لا أزال، كلّ يومٍ، أداعبُ رأس الحيوان الفضيّ. إنّي، منذ سنواتٍ، أنتظر وصول رسالةٍ ما كي أبدأ بالتدرُّب على استعماله.

 

مسوّدة لبورخيس عُثر عليها بين

الأوراق النيويوركية لأبيلاردو لينارِس

في شارعٍ ما، في إحدى المدن، سيتلاقى رجلان. لم يسبق لهما أنِ التقيا أبداً. والمدينة التي سيحصل فيها هذا اللقاء الذي لا يهمّ أحداً، كلاهما يطآنها للمرة الأولى هذا الصباح. كلٌّ منهما يعشق امرأةً، وتراود كلاً منهما شكوكٌ أن تلك المرأة لن تحبه أبداً.

لا يتذكّر كلاهما من ثيربانتس سوى واقعة طواحين الهواء، الطواحين التي استحالت عمالقةً هائلة بمصادفاتٍ من بنات الخيال، خيالٍ لم يكن سوى جنون.

كلا الرجلين قاتلا في حربٍ واحدة، على نفس الجبهة، وكلٌّ منهما أطلق رصاصةً أردتْ، في نفس اللحظة، جندياً من الأعداء هو الجنديّ نفسه، حيث مزّقت قلبه رصاصتان. كلٌّ منهما يفكّر مراراً أنه قتل رجلاً: جنديٌّ كان على الأرجح يعشق امرأةً لم تكن تحبه، وكان يستذكر بعض الصفحات المؤلمة لليوباردي، أو بيتاً غامضاً من شعر وليام شكسبير، ما استطاع فهمه قطُّ.

بعد أن انتهتِ الحرب، أحسّ كلا الرجلين بذلك المزيج، من السعادة والرعب، المماثل لما نسمّيه الكآبة: وجعٌ فُصِّل على مقاس البشر.

لا يعرف أيٌّ منهما أن مجموع أيامه سيكون المجموع نفسه عند الآخر.

عندما يتلاقى هذان الرجلان بالصدفة، ستنشأ عن لقائهما مرآةٌ لا مرئيةٌ تنعكس فيها صورة امرأةٍ تُبدي احتقارها، ومشهدٌ ثيربانتسيٌّ معيّن، ورصاصةٌ عمياء، ستجعل من رجلٍ متنكّر بزيّ جنديّ جثّةً ترتدي سُترة جنديّ.

حين يلتقيان، سيعمل كلاهما على تمثيل إحدى التنويعات قد تصحُّ في أسطورة الكهف لأفلاطون: ظلّان متوازيان، وبائسان بالقدر ذاته لنموذجٍ أصليّ هو بحدّ ذاته ظلٌّ باهتٌ لشيءٍ آخر لا نستطيع تبيُّن معالمه.

إنهما الآن، في هذة اللحظة، وجهاً لوجه، واقفان على رصيفين متقابلين، ينتظران أن يتبدّل لون إشارة المرور، يلقي كلاهما على الآخر نظرةً عابرة، بلا مبالاةٍ مطلقة تجاه ذلك التناظر الذي يجهله كلاهما.

 

* Felipe Benítez Reyes شاعر وكاتب إسباني من مواليد 1960. من إصداراته “العوالم الفارغة” (1985)، “ظلال فريدة” (1992)، “الحقائب المفتوحة” (1996)، “نفس السفر” (2007)، “الهويّات” (2012).

 

** ترجمة عن الإسبانية كاميران حاج محمود

 

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى