أنردو رثمل: الصراع الخفيّ على سوريا أمس… واليوم/ زياد منى
أنردو رثمل: الحرب السرية في الشرق الأوسط ــ الصراع الخفيّ على سوريا، 1949-1961 ــ أي بي طورس، لندن 2014 ــ عدد الصفحات: 245 تضم مصورات.
Andrew Rathmell, Secret War in the Middle East – The Covert Struggle for Syria, 1949-1961. I.B.Tauris, London 20142. 246 pp.
مع أن هذا المؤلَّف صدر في عام 1995، إلا أن الكاتب أنردو رثمل، مدير الشركة الأمنية البريطانية «أكتس سترتجي لمتد»، وأستاذ زائر في معهد جامعة «إكستر للاستراتيجيا والأمن»، أعاد طباعته في العام الماضي بسبب المأساة السورية، مع أنه ينفي أي علاقة تماثل بين أحداث تلك الحقبة وما تشهده سوريا الآن. المؤلّف يشدد عبر صفحاته على تأكيد الموقع الجيوسياسي الفريد للدولة السورية منذ نشوئها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفق تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو. عدم فهم هذه الفرادة أدى في الماضي، ولا يزال يؤدي، إلى أخطاء في الحسابات تقود إلى مآسي كالتي نشهدها الآن هناك.
إن تفادي البحاثة ـــ وفق الكاتب ــــ التركيز على هذه المسألة وعلى دور الاستخبارات وعملياتها السرية في سوريا، جعلهم يتركون الساحة للصحافة والروايات الإثارية، وهدف المؤلف إعادة الاعتبار للبحث العلمي في هذا المجال، اعتماداً على وثائق الدول الغربية ذات العلاقة، التي رفعت عنها درجة السرية ــ مع دعوتنا القراء إلى الحذر وتذكر أن الوثائق التي لم ترفع السرية عنها أهم وأخطر بما لا يقاس.
بعد افتتاح الكتاب بمقدمة الطبعة الجديدة وبمدخل عن مادة الكتاب، ينتقل المؤلف إلى الفصل الأول، المختصر عن تاريخ سوريا الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم إلى الفصل الثاني الذي يركز بالبحث التفصيلي الموثق على أحداث محددة شهدتها سوريا بين عامي 1949 و1961، أولها انقلاب حسني الزعيم (1949) ومحاكمة أنطون سعادة الصورية وقتله، من ثم أدوار كل القوى المنخرطة في الصراع على سوريا، أي واشنطن وباريس ولندن وعمّان وبغداد والقاهرة وأنقرة وتل أبيب. كما يعالج انقلاب سامي الحناوي باختصار. في الفصل الثالث، يواصل الكاتب بحثه الذي بدأه أواخر الفصل الأسبق له، في انقلاب أديب الشيشكلي وعهده (1949-1954).
وخصّص الكاتب الفصل الرابع «سوريا بين عبد الناصر والغرب، 1954-1956» للحديث الموثق في تطور العلاقات بين دمشق وقاهرة عبد الناصر والاتجاهات الوحدوية المعادية للإمبريالية والصهيونية في سوريا التي دفعت باتجاه موسكو وبعيداً من باريس وواشنطن ولندن. ويتعامل الفصل الخامس مع مذهب آيزنهاور ومع مختلف المؤامرات الخارجية التي شهدتها سوريا، وانتهاءً بالوحدة السورية ــ المصرية. الفصل السادس والأخير يتعامل مع الوضع في فترة الوحدة (1958-1961) ومواقف مختلف القوى الإقليمية والعالمية من دولة الوحدة والمؤامرات التي استمرت في حياكتها تجاه دمشق والقاهرة.
ربما كان لواشنطن يد في قتل أنطون سعادة
إضافة إلى المواضيع الآنفة الذكر، تقارب مختلف فصول المؤلف مجموعة كبيرة من الأحداث المهمة، ومنها على سبيل المثال مذهب آيزنهاور ومعاداة الشيوعية وسياسة الاحتواء التي مارسها في العالم، وكذلك اغتيال الضابط عدنان المالكي وحلف بغداد والحلف الهاشمي وحلف السنتو والتحالف المصري ــ السعودي والتحالف السوري المصري السعودي، والتحالف الرجعي العربي ــ الأميركي ودور الحزب السوري القومي الاجتماعي. تضاف إلى ذلك مجموعة من المؤامرات التي حاكتها واشنطن ولندن وباريس بالتواطؤ مع بغداد وعمّان والرياض وأنقرة وطهران لغزو سوريا وللقضاء على الاتجاهات الوطنية والقومية في الحياة السياسية والوطنية السورية، وأكثرها شهرة عملية سترغل (Straggle).
كما يبحث هذا المؤلف في أدوار العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية والاستخبارية الرئيسية منها والثانوية، في سوريا والدول والأحزاب المشاركة في التآمر عليها.
يظهر المؤلَّف أنّ المسألة المركزية في الحياة السياسية الوطنية السورية منذ عام 1948 كانت قضية فلسطين، وهي كانت في الوقت ذاته البوصلة المحددة لموقف الشارع العربي من سلطة ما ومن الغرب. كما يوضح المؤلَّف أنّ فلسطين هي المسألة المركزية لواشنطن عند رسمها سياستها تجاه أي نظام عربي، وتحديداً الموقف من إسرائيل وإلزام حلفائها بقبول اغتصاب فلسطين وما نتج من ذلك شرطاً لتطبيع علاقاتها معها. وعد حسني الزعيم بتوقيع اتفاقية الهدنة، هو الذي حسم دعم واشنطن لانقلابه، من دون إهمال عامل خط التابلاين. وعندما طلب شكري القوتلي من واشنطن مد القوات السورية بالسلاح، لاستباق سعي ضباط الجيش العروبيين لطلب السلاح الشرقي، كان شرط واشنطن، وبالتالي حلفاؤها، السلم مع إسرائيل. وعندما اختلف رئيس وزراء سوريا خالد العظم مع وزير دفاعه أحمد الشرباتي، اتهمه بأنه استورد سلاحاً وطعاماً فاسداً للجيش السوري، أي كونه متآمراً على فلسطين، وهكذا. وكل هذا غيض من فيض. المؤلف يحوي معلومات كثيرة عن هذا الأمر، ولربما كان لواشنطن يد في قتل أنطون سعادة الذي كان يرفض الهدنة مع العدو، لكن الكاتب لا يبحث في هذا الأمر، وإن تحدث في خلفيات قتله. كما وجّه الكاتب اهتمامه إلى مسألة اغتيال عدنان المالكي والقوى المشاركة فيه وناقش مختلف الاتهامات، ومنها تلك الموجهة نحو سفير مصر في دمشق محمود رياض، أي الاستخبارات المصرية.
أما في ما يخص ما يُقال عن حيوية الحياة السياسية في سوريا في خمسينيات القرن الماضي، فيوضح الكاتب أنّه رغم وجود أحزاب متعددة متنافسة، إلا أن مختلف الزعماء والصحافيين والنواب والصحف والأحزاب كانوا يتلقون الرشى من بغداد والرياض وواشنطن ولندن وباريس ليتبنوا مواقف أصحاب اليد العليا! والطريف أن نوري السعيد شكا للسفير البريطاني من عدم مقدرته على منافسة آل سعود من ناحية كميات الرشى!
كذلك ناقش دور الحزب السوري القومي الاجتماعي تحت قيادة جورج عبد المسيح وهشام شرابي في إثارة القلاقل في سوريا، بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية.
المؤلَّف يركز أيضاً على محاولات الاستخبارات السورية التأثير في أمن عبر الأردن والعراق خصوصاً، مركزاً على محاولة عبد الوهاب الشوَّاف الانقلاب على عبد الكريم قاسم. كما يتعرض المؤلف لدور السعودية في دعم المعارضة اللبنانية لكميل شمعون ثم وقفها بناءً على تعليمات واشنطن، ومساعدة الأخير في كسب الانتخابات النيابية بعد تسلمه ثمانية ملايين دولار من واشنطن، وتزوير غير مسبوق حتى في المعايير اللبنانية وفق تعبير دبلوماسي بريطاني مقيم في بيروت.
يحوي المؤلف معلومات تفصيلية كبيرة وموثقة عن تلك المرحلة، بعضها معروف للنخب فقط، وأخرى لم تكن معروفة، توثيقياً، قبل صدوره، وغيرها، مقلقة حقاً، لكن مسكوت عنها لأسباب سيعرفها قارئ الكتاب.
من المثير للدهشة أني عندما عرضت بعض المعلومات الواردة في هذا الكتاب على زملاء في سوريا، أبدوا اندهاشهم وأكدوا أنهم ـــ باستثناء بعض الأسماء المعروفة ـــ لا علم لهم بتاريخ سوريا في تلك المرحلة. لذا آمل أن يساهم هذا العرض، وبالتالي الكتاب، مع الحذر المطلوب، في تعرّف الأجيال المعاصرة في عالمنا العربي على نحو عام وفي سوريا على نحو خاص إلى مرحلة أساس من تاريخ الدولة السورية ومغزى موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي والحيوي الذي جعل منها هدفاً دائماً لمختلف التدخلات الخارجية.
إذا كان مسعى الغرب الحثيث والدموي العلني منه والخفي، لضم سوريا إلى فلكه الشرق أوسطي، قد تم في مرحلة الحرب الباردة، فإن مسعى واشنطن للهيمنة على العالم لا يزال قائماً، مع تغير العنوان الرئيسي من احتواء المد الشيوعي إلى محاربة الإرهاب. الهدف بقي ذاته: الهيمنة على مقدرات العالم عبر إحكام السيطرة على منابع النفط والغاز وخطوط إمداده ومحاصرة القوى المنافسة لواشنطن، والمقصود هنا روسيا والصين تحديداً، ضمن حدودها السياسية ومن ثم إخضاعها.
الأخبار