أنظمة الاستبداد والثورات ضد الخوف/ ناصر الرباط
ثمة بناء نظري كبير ومعقد عن نظام الحكم الآسيوي يعود بأصوله إلى بدايات عصر التنوير الأوروبي وكتابات مفكرين مصلحين كثر، على رأسهم الفرنسي مونتيسكيو (١٦٨٩ – ١٧٥٥) صاحب الكتاب المشهور «رسائل فارسية». في هذا الكتاب يحاول مونتيسكيو رسم ملامح نظام حكم استبدادي شرقي من طريق رسائل متخيلة لمندوب ديبلوماسي فارسي في فرنسا يقارن بين شاه إيران ونظام الحكم الملكي الأكثر تنوراً الذي يشاهده في أوروبا. وقد أوّل الكثيرون من الباحثين المعاصرين كتاب مونتيسكيو على أنه نقد مبطن لميول الملك لويس الرابع عشر الاستبدادية صاغه كاتبه على لسان مراقب من ثقافة أخرى ونسب الاستبداد إلى بلاد أخرى لكي يحذر من مغبات الوقوع فيه في فرنسا.
لكن ما يبقى واضحاً، بغض النظر عن أهداف مونتيسكيو، هو أن نسبة الاستبداد للشرق كانت بدهية يمكن كاتباً أوروبياً استخدامها ثيمةَ تحذير من دون التساؤل عن مدى صحتها. فالاستبداد في نظر أوروبا المقبلة على تنويرها شرقي (ومسلم بداهة).
نظرية «الاستبداد الآسيوي» هذه قديمة الجذور. فهي تستند أصلاً إلى نظرة ال إغريق القدامى إلى أعدائهم الفرس الذين جهز ملكهم قورش حملات كبيرة لاحتلال اليونان منيت بالهزيمة أكثر من مرة، على الرغم من التفاوت الهائل في القوة العسكرية بين الفرس وال إغريق. وقد نسب ال إغريق انتصاراتهم إلى نظامهم المدني القائم على المواطنة على عكس نظام فارس الاستبدادي القائم على السلطة المطلقة للشاهنشاه، حيث الفرد ليس أكثر من عبد يتصرف به سيده كما يشاء. وبغض النظر عن المبالغة في تصوير هذا الاستبداد الشرقي كمعاكس مطلق للحرية ال إغريقية، فإن الصورة استمرت بتغذية المخيال الأوروبي حتى وقت قريب، وساهمت مساهمة مباشرة في تبرير الاستعمار الأوروبي المتطاول على أنه «تحرير» للشعوب المستعمَرة من حكامها المستبدين المطلقي الصلاحية، كما وعد نابليون المصريين في خطابه الأول، إثر دخوله القاهرة مستعمراً عام ١٧٩٨.
لكن نقد النظرية وتتبع مآلاتها التاريخية لا ينبغي أن يعمينا عن حقيقة الاستبداد في عالمنا الشرقي والمسلم. فالشرق، إحصائياً، عانى من الاستبداد أكثر من الغرب أو الجنوب (الثقافي لا الجغرافي بالطبع). وعالمنا العربي بالتحديد ما زال عصياً على التحليلات النيو – ليبرالية التي تنبأت في بدايات الألفية الثالثة بانتشار الديموقراطية في العالم. فدول عالمنا العربي كلها (باستثناء الخطوات المبدئية في تونس) ما زالت حتى اليوم ترزح تحت حكم شمولي وأنظمة استبدادية لا ترحم. وحكامنا بأجمعهم ما زالوا حتى اليوم يمنحون في تصرفاتهم ونظرتهم إلى أنفسهم وتعاملهم مع شعوبهم، صدقية لنظرية الاستبداد الآسيوي يعجز كل نقد ما بعد – كولونيالي عن تفنيدها. بل ربما يمكننا القول، مع قليل من السخرية، أن عالمنا العربي حقق معجزة معرفية حيث إن أنظمته انتحلت مظاهر نظرية مغرضة فيها من الافتئات العنصري الكثير ومنحتها البرهان الذي لم تمتلكه سابقاً في انقلاب تحليلي غريب، حيث ترى العادة أن النظرية هي التي تشرح الواقع لا الواقع هو الذي يتقمص النظرية.
أنظمتنا الشمولية تملي إرادتها وتفرض أهواءها من دون رقيب؛ تستعلي على شعوبها وتكذب عليها وتقمعها من دون مساءلة، تعاقب وتعذب وأحياناً تقتل معارضيها من دون أي قانون. وهي ترفع مقام زعمائها وتقدسهم من دون أي اعتبار لأي منظومة أخلاقية. وهي تفعل ذلك كله وأكثر، معتمدة بالأساس على افتراض السلطة المطلقة مقابل الطاعة المطلقة من الشعب (أو الرعية إذا أردنا استخدام المصطلح الذي يعبر عن الواقع).
هذه الطاعة تفرضها منظومة تعتمد أساساً على الخوف: خوف المواطن من نظامه وتسلطه ورقابته وأجهزته المخابراتية، وخوف النظام من مواطنه المستضعف والمغلوب على أمره، ولكن المشكوك في ولائه في كل الأحوال. متلازمة الخوف هذه هي ما طبع العلاقة بين المستبد ورعيته على مدى التاريخ، وهي ما نسبه مونتيسكيو إلى أنظمة الاستبداد الشرقي وحذر الأنظمة الملكية الأوروبية من مغبة الاستسلام لإغرائها. متلازمة الخوف هذه هي ما استعاده حكامنا المعاصرون والمستبدون من التراث ونفضوا عنه الغبار وطوروه ونظموه بمساعدة خبراء من دول أرقى في الرقابة والتعذيب والدعاية وعبادة الفرد، مثل مخابرات ألمانيا الشرقية ورومانيا وكوريا الشمالية، ولكن أيضاً وكالة المخابرات المركزية الأميركية والمخابرات البريطانية والفرنسية (فالكل على استعداد لأن يساعد في القمع). وهي أيضاً ما جعل ويجعل أنظمتهم، على جبروتها وتسلطها، ضعيفة بنيوياً بما أنه لا يوجد خوف مطلق يمكن أن يؤسس لطاعة مطلقة. فالخوف المطلق، كما السلطة المطلقة، مَفسدة. وهو على رغم القمع المنظم والممنهج أضعف من أن يلغي أولوية قيم أخرى منغرسة في النفس الإنسانية بعامة، لكنها تتراوح في أهميتها وفقاً للثقافة، مثل الكرامة واحترام الذات، كما أثبتت ثورات الربيع العربي.
ربما كان هنا مكمن ثورات الربيع العربي العميق التي وإن تعثرت وتراجعت بل ربما أعادت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبلها لأسباب لا أظن أنها نابعة من طبيعتها، فإنها تجرأت على تحدي أنظمتها التي استبعد المحللون إمكان تحديها من دون تدخل خارجي (كما ادعت الولايات المتحدة لتبرير غزوها العراق عام ٢٠٠٣). فقمع الأنظمة العربية التي ثارت شعوبها عليها هائل، وتحالفاتها في ما بينها ومع رعاتها الخارجيين الأقوياء أمنت لها دعماً قوياً عندما احتاجت إليه في وجه شعوبها المقهورة. ثورات الربيع العربي كانت تحدياً معتبراً للخوف، وبالتالي لمنظومة السلطة المطلقة مقابل الطاعة المطلقة التي أنتجته واستثمرت فيه طويلاً. وفي هذا وحده مدعاة لاحترام الثورات على ضعف تنظيمها وضبابية أهدافها وتشرذمها ثم تسلحها واعتمادها على ممولين خارجيين في نهاية الأمر. فالأنظمة الاستبدادية التي استعادت زمام سيطرتها (أو هي في الطريق لذلك) على شعوبها التي ثارت، أو حتى تلك التي تمكنت من وأد محاولات الثورة في بلادها قبل وقوعها، فوجئت بثورات مستضعفيها، بل بتجرؤهم أساساً على التفكير بالثورة بعدما استكانوا طويلاً لأدوات قمعها ودعايتها المطلقة التمكن.
ثورات الربيع العربي فشلت بفضل تحالفات هائلة ضدها، إضافة إلى ضعف تنظيمها. وهي ربما وضعت العالم العربي ثانية في ثلاجة الاستبداد لجيل آخر. لكنها أيضاً فتحت باباً جديداً غيّر من معادلة متلازمة الخوف التي تحكمت بمصائر العرب منذ استقلالهم عن المستعمر الأجنبي. فالمستبدون العرب اليوم، على ازدياد بطشهم، يخافون شعوبهم أكثر مما ظنوا أنهم أنجزوه ببناء أنظمة استبدادهم القوية. والشعوب العربية اليوم تعلم أنه يمكن تحدي الخوف مهما كانت العواقب. وبعض معالم تهرؤ هذه المتلازمة تبدو جليةً في لمعات تحرر منيرة تنبجس من أرجاء العالم العربي ما كان في الإمكان تخيل حدوثها من دون الشرخ النفسي الكبير الذي أحدثته الثورات ضد الخوف.
* كاتب سوري وأستاذ في «إم. أي. تي.» بالولايات المتّحدة
الحياة