صفحات الرأي

أن تكون وحيدا معناه أن لا تكون البتة: تحت أنظار الآخرين!


تزيفتان تودوروف

ترجمة: إسماعيل أزيات

نحتاج جميعا أن يعترف بنا الآخر حتى نصير موجودين. الطفل يحتاج إلى نظرات والديه، الأستاذ موجود بفضل تلامذته، الأصدقاء يتشبّه الواحد منهم بالآخر، وسواء التمس المرء أن يكون شبيها لهم أو مختلفا عنهم، فإنّ الآخرين هم الذين يقرّون ويؤكّدون لنا كينونتنا.

ليس مصادفة أن يكون جان جاك روسو، آدم سميث وجورج هيغل قد أضفوا قيمة، ومن بين كلّ الأنساق الأصليّة الأوليّة، على الاعتراف بفضل الآخر. هذا النسق الأخير هو بالفعل استثنائي وفريد بصفة مزدوجة. أوّلا من حيث محتواه ذاته: هو الذي يسم، أكثر من أيّ فعل آخر، ولوج الفرد إلى الوجود الإنساني تخصيصا. لكنّ له أيضا خصوصية بنيوية: هو يبدو، بوجه من الوجوه كأّنه مدين لكل الأفعال الأخرى. بالفعل، حين يشارك الطفل في أعمال كالتناوب أو التعاون، فإنّه يتلقى إقرارا بوجوده من خلال شريكه الذي يهيّئ له مكانا، يتوقف ليستمع إليه ‘يغنّي’ أو يغنّي معه. حين يستكشف أو يغيّر العالم المحيط به، حين يحاكي شخصا راشدا، يرى نفسه كأنّه موضوع أفعاله الخاصّة به، وإذن كأنّه كائن موجود. حين يتمّ تشجيعه أو التعارك معه أو يدخل في تشارك مع الآخر، فإنّه يستلم، كمزيّة ثانوية، الحجّة على وجوده. كلّ تعايش هو اعتراف بالآخر أيضا، وهو ما يفسّر كذلك الاهتمام الذي أعيره لهذا النسق ذي الأفضلية على كلّ الأنساق الأخرى.

الاعتراف بالآخر يشمل فعاليات لا تحصى ذات تجليات أكثر تنوّعا. يلزم،بمجرّد إدخال مفهوم بهذا ‘الشمول’، التساؤل عن بواعث وأشكال هذا التنوّع .

في الإمكان، بدءا، عدّ بعض مصادر هذا التنوّع التي هي خارج هذا المفهوم ذاته. يمكن أن يكون الاعتراف بالآخر ماديا أو غير مادي، اعترافا بالثروة أو بالأمجاد، منطويا أو غير منطو على ممارسة السلطة على أشخاص آخرين. إنّ الطموح إلى الاعتراف بالآخر يمكن أن يكون واعيا أو غير واع، مشغّلا آليات عقلانية أو غير عقلانية. يمكنني أيضا أن أجتذب نظرة الآخر عبر مختلف مظاهر كياني، عبر جسدي، عبر ذكائي، عبر صوتي أو عبر صمتي.

اللّباس والكرامة

ضمن هذه الزاوية من النظر، يلعب اللّباس دورا متميّزا، لأنّه تماما ميدان تلاق بين نظرات الآخرين وإرادتي، ويبيح لي أن أحدّد موقعي بالنسبة للآخرين: أريد أن أتشبّه بهم، أو أتشبّه ببعض منهم، لكن ليس بهم جميعا أو لا أتشبّه بأحد. باختصار، أختار لباسي تبعا للآخرين، أ لأقول لهم إنّهم لا يثيرون فيّ أيّ شعور. في المقابل، إنّ الذي يتعذر عليه أن يمارس رقابة على لباسه (بسبب الفقر مثلا) يحسّ نفسه مشلولا أمام الآخرين، محروما من كرامته. ولذلك ليس خاطئة تماما الدعابة القديمة التي تقول: يتألّف الكائن البشري من ثلاثة أقسام، روح، جسد ولباسô

الاعتراف بالآخر يصيب كلّ مناطق كينونتنا، ولا يمكن لمختلف أشكاله أن يحلّ الواحد منها محلّ الآخر: ستتمكّن على الأكثر، عند اللزوم، من جلب بعض السّلوى. أنا في حاجة أن يُعترف بي على المستوى الوظيفي كما في علاقاتي الشخصية، في الحبّ وفي الصّداقة؛ ووفاء رفقائي لا يوازن حقا خسارة الحبّ، كما أنّ كثافة الحياة الخاصّة لا يمكن أن تمحو الاخفاق في الحياة السياسية. إنّ فردا استثمر الأساسي من مطالبته بالاعتراف في المجال العمومي، لكنّه لم يتلق أيّ التفات، يكتشف نفسه فجأة مسلوب الكينونة؛مثل هذا الشخص الذي أمضى حياته في خدمة المجتمع أو الدولة، ومنها يستمدّ ما هو أساسي في شعوره بوجوده المادّي؛ ما ان تحلّ الشيخوخة ويختفي المبتغى الاجتماعي، لا يعرف أن يوازن هذا النقص بالعناية التي هو موضوعها من قبل أقربائه؛ بانعدام وجوده عموميا، أصبح له ببساطة انطباع بأنّه لا يوجد البتة.

لقد رأينا مع هيغل أنّ طلب الاعتراف يمكن أن يصاحب الصّراع من أجل السلطة؛ لكن، يمكنه أن يتمفصل مع علاقات حيث يسمح حضور تراتبية ما بتجنّب النزاعات. إنّ سموّ أو دونية الشركاء هي غالبا ما تكون معطاة مسبقا؛ أيّ واحد من بينهم يصبو إلى الرّضا بنظرة من الآخر. أوّل اعتراف يتلقاه الطفل يأتيه من ذوات هي أرفع منه تراتبيا: أبواه أو من يعوّضهما؛ ثمّ إنّ هذا الدّور تتلقفه سلطات أخرى مكلّفة من قبل المجتمع بممارسة وظيفة الجزاء أو العقوبة: المدرّسون، المعلّمون، الأساتذة؛ مشغلونا، مدراؤنا أو رؤساؤنا. النقاد يملكون مفاتيح الاعتراف بالنسبة للفنانين والكتّاب المبتدئين أو بالنسبة للذين ينقصهم من بينهم الثقة الداخلية. كلّ هذه الشخصيات السّامية قد قلّدها المجتمع وظيفة أساسية: وظيفة النطق بالعقوبة العمومية.

الاعتراف الصّادر عن من هم أدنى ليس لنا أن نتغاضى عنه ولو أنّه غالبا ما يتمّ التكتّم عليه: السيّد، كما نعلم، في حاجة إلى خادمه ليس أقل من حاجة الخادم إلى السيّد، الأستاذ يتأكّد إحساسه بالوجود من قبل تلامذته الذين هم رهن به، المغني يحتاج كلّ مساء إلى تصفيقات المعجبين به والآباء يعيشون كصدمة نفسية رحيل أبنائهم عنهم وهم الذين يبدو، مع ذلك، أنّهم الوحيدون المطالِبون بالاعتراف.

لماذا الامتثال للأعراف والمعايير

هذه المتغيرات التراتبية للاعتراف تتعارض جملة مع وضعيات تدعو للمساواة تبرز في صلبها بكلّ سهولة مشاعر المزاحمة. هذه الوضعيات ذاتها متعدّدة: الحبّ، الصّداقة، العمل، الحياة العائلية في جزء منها. في النهاية، يمكن أن يصير المرء نفسه مصدر الاعتراف بذاته سواء بالمضي في سبيل الانطواء، برفض أيّ اتصال مع العالم الخارجي، سواء بتنمية كبريائه بإفراط وبالاحتفاظ بالحق الحصري في الإعجاب بمزاياه الخاصة به، وسواء، أخيرا، بأن يوجد في ذاته ما هو تجسيد لله والذي يعمل على استحسان أو استهجان سلوكاتنا: هكذا، يبحث القدّيس على تجاوز حاجته إلى الاعتراف الإنساني ويكتفي بعمل الخير. بعض الفنّانين يمكنهم أيضا أن يكرّسوا أنفسهم للعمل دون الانشغال مطلقا بما يعتقده عنهم الآخرون. يلزم أن نضيف إنّ هذه الحلول ليست أبدا إلاّ حلولا جزئية أو مؤقتة؛ وكما عبّر عن ذلك وليام جيمس: ‘اللاّ حبّ الذاتِ الاجتماعي الشامل يوجد بالكاد، الانتحار الاجتماعي الشامل لا يخطر مطلقا على بال الإنسان’ (1)

يلزم الفصل بين شكلين من الاعتراف اللذين نصبو إليهما جميعا، لكن ضمن أبعاد جدّ متنوّعة: يمكن الحديث بصددهما عن اعتراف مشابهة وعن اعتراف مخالفة. هذان الصّنفان متعارضان: إمّا أن يُنظر إليّ كمختلف عن الآخرين، أو كشبيه لهم. الشخص الذي يتأمّل أن يبدو الأفضل، الأكثر قوّة، الأكثر جمالا، الأكثر بريقا، يريد بالتأكيد أن يكون المتميّز من بين الآخرين؛ هذه حالة متواترة بخاصة خلال مرحلة الشباب. لكن يوجد أيضا نمط آخر من الاعتراف الذي هو بالأحرى ميزة الطفولة وسنّ النضج فيما بعد لاسيما عند الأشخاص الذين لا يعيشون حياة عمومية كثيفة وحيث العلاقات الحميمية راكدة: إنّهم يستمدّون الاعتراف بهم من فعل الخضوع والامتثال بمنتهى الدقة ما أمكن للعادات والمعايير التي يعتبرونها تلائم شرطهم. هؤلاء الأطفال أو هؤلاء الرّاشدين يحسبون أنفسهم راضين عندما يلبسون ما يناسب فئتهم العمرية أو ما يوافق وسطهم الاجتماعي، حينما يزيّنون أحاديثهم بإحالات مكيّفة أو ملائمة، لمّا يثبتون أنّ انتماءهم إلى الجماعة باق وثابت.

إّذا كنت من خلال عملي أضطلع بوظيفة يعتبرها المجتمع نافعة له، يمكن أن لا أكون في حاجة إلى أن يقوم اعتراف لي بالتميّز (لا أنتظر أن يُقدّم لي الثناء باستمرار): أكتفي تماما باعتراف المشابهة (أقوم بواجبي، أخدم وطني، أو منشأتي). لكي أحصل على هذا الاعتراف، لست في حاجة دائما إلى التماس، في كلّ مرّة، نظرات الآخرين: لقد استبطنت هذه النظرات في شكل معايير وعادات، وامتثالي الوحيد للقواعد يبعث إليّ صورة عن نفسي ــ علاوة على أنّها إيجابية ــ ؛ إذن أنا موجود.لا أتطلّع أن أكون استثنائيا، بل أن أكون طبيعيا؛ النتيجة، مع ذلك، هي نفسها. الامتثالي هو على ما يبدو أكثر تواضعا من المتباهي بنفسه؛ بيد أنّ الواحد منهما ليس أقلّ حاجة إلى الاعتراف من الآخر.

إنّ الرّضا الذي نستمدّه من الامتثال لمعايير الجماعة يفسّر في قسم كبير منه قوّة المشاعر الجماعية، حاجة الانتماء إلى جماعة ما، طائفة دينية ما. اتّباع، وبكلّ دقة، عادات بيئتك، يوفّر لك إشباع إحساسك بوجودك من خلال الجماعة. إذا لم يكن عندي أيّ شيء يمكن أن أفتخر به في حياتي، أتعلّق، أشدّ ما يكون التعلّق، بأن أؤيّد أو أدافع عن السمعة الحسنة لموطني أو عائلتي الدينية. أيّة تقلّبات تخضع لها الجماعة لا يمكن أن تثبّطني: ليس للإنسان إلاّ وجود واحد يمكن أن يخيب، ولشعب ما مصير يمتدّ لقرون، تصير إخفاقات اليوم منبئة بانتصارات الغد.

هذان الشكلان من الاعتراف يدخلان في تنازع بكلّ سهولة أو يشكّلان تراتبيات متحرّكة، في تاريخ المجتمعات كما في تاريخ الأفراد: التميّز ييسّر التنافس. في حين يبقى الامتثال إلى جانب التوافق. هل سأظلّ متعقّلا على قارعة الطريق حتى أخضع للقواعد الجماعية وأمنح لنفسي الاعتراف الدّاخلي بالامتثال، أو أجتاز الطريق وسط السيارات الزّاعقة حتى أستجلب إعجاب رفقائي (اعتراف بالمخالفة، لكنّه قد يتحوّل بدوره إلى اعتراف بالمشابهة في صلب جماعة هي ما تمثل عصابتنا)؟ عند عمر ما، يكون الإشباع الممنوح لنا من قبل نظرائنا له قيمة أكبر من أيّ شيء آخر، وبالتأكيد أكبر من الرّضا المستمدّ من الخضوع للقواعد العامّة للمجتمع.هذه الوضعية إذن حاملة لمخاطر: يتمّ انتهاك ‘قواعد الأخلاق’ بسهولة إذا ما كان في الإمكان ضمان ضحك أو إعجاب الناظرين. ليس للجرائم المرتكبة ضمن هذه العصابة في الغالب من مصدر آخر.

تمييز آخر يتعلّق ليس بأشكال الاعتراف، لكن بسيرورتها. يشتمل الاعتراف في الواقع على مرحلتين. ما نطلبه من الآخر هو أوّلا أن يعترف بوجودنا (هذا اعتراف بمعناه الضيّق) وثانيا تأكيد وإقرار قيمتنا (لنسمّ هذا القسم من السيرورة الإقرار). هذان التدخّلان الملتمسان لا يتموضعان ضمن نفس المستوى: الثاني لا يمكن أن يكون له مكان إلاّ إذا كان الأول قد تحقق. إذا ما قيل لنا إنّ ما نفعله هو حسن، يعني أنّه تمّ، قبل كلّ شيء، القبول بوجودنا ذاته. يتعلّق الإقرار بمحمول قضيّة والاعتراف بموضوعها (أو بقضية غامضة لها صيغة ‘x هو ‘، قضية وجود محضة). قد يكون روشفوكو من الأوائل الذين ميّزوا بين الاثنين: ‘ نحبّ أن نتكلّم بالسّوء عن أنفسنا، عوض أن لا نتكلّم البتة’. كما أنّ آدم سميث له حساسية تجاه هذه الازدواجية، تجاه الاختلاف بين ‘اهتمام وإقرار’ ونراه يحذّرنا: ‘أن تكون منسيا من قبل الناس أو أن تكون مستهجنا من طرفهم، هما أمران مختلفان تماما’ (2).

و في المقابل، فإنّ إعجاب الآخرين ليس إلاّ الشكل الأكثر جلاء من اعترافهم، لأنّه علامة على قيمتنا؛ لكنّ كراهيتهم أو عدوانيتهم هي أشكال اعتراف وإن كانت أقلّ وضوحا: إنّها تثبت، ليس بأقلّ قوّة، وجودنا.

إنّ التفرقة بين هاتين الدّرجتين من الاعتراف أساسية، لأنّهما توجدان في الغالب منفصلتين وتحدثان، تبعا لذلك، استجابات خاصّة: من الممكن أن نكون غير مكترثين بالرأي الذي يحمله الآخرون عنّا، إنّما ليس في الإمكان البقاء فاقدي الإحساس تجاه انعدام الاعتراف بوجودنا ذاته. وكما قد لاحظ وليام جيمس: ‘ثمّة أشخاص لا يهمنّا رأيهم إلاّ قليلا ومع ذلك نجلب اهتمامهم’. يميّز علماء النفس المعاصرون بين شكلين من العجز عن الاعتراف ذي رواسب مختلفة تماما: الإقصاء أو انعدام الإقرار، والإنكار أو انعدام الاعتراف. الإقصاء هو عدم الاتفاق على محتوى الرأي، الإنكار هو رفض اعتبار أنّ ثمّة رأيا قيل: الإساءة المفروضة على الذات في الحالة الأخيرة خطيرة جدّا.

أن تكون وحيدا، معناه أن لا تكون البتة

لقد بيّن كارل موريتز هذا الاختلاف بملاحظة الآثار المتباينة للاستهزاء وللبغضاء (3): ‘أن تحسّ نفسك موضع استهزاء، يعود على نحو ما إلى الإحساس بأنّك معدوم، وأن تجعل من الآخر هزأة يكاد يعادل أن تصيب أناك إصابة قاتلة لا تساويها أية إهانة أخرى. في المقابل، أن يبغضك الجميع باستثناء أناك أنت، فهذه وضعية مرغوب فيها، بل مشتهاة. هذا المقت المعمّم لن يقود إلى قتل أناي، على العكس: سيملأها بإحساس التحدّي الذي سيبيح لها أن تعيش طوال قرون وأن ترفع الصّوت بغضبها تجاه عالم الكراهية. لكن أن لا يكون هناك أصدقاء ولا أعداء، فهذا هو الجحيم الحقيقي حيث تحسّ الذات المفكّرة بعذابات الانعدام المطّرد في مختلف أشكاله ‘.

إنّ بغض شخص ما هو إقصاؤه: يمكن أن يعزز هذا البغض إحساسه بالوجود.لكن أن تهزأ من أحد، أن لا تتعامل معه بجدية، أن تحكم عليه بالصّمت والوحدة، معناه أن يمضي أبعد: أن يرى نفسه مهدّدا بالعدم.

لقد قام دوستويفسكي بالتمييز بين هاتين التجربتين: رفض الإقرار (الإقصاء)، ورفض الاعتراف (الإنكار). وهو واحد من بين أهمّ موضوعات Notes dun souterrain . سّارد هذا المحكي المحموم يخشى أشدّ ما يخشى الإنكار، في حين يقبل الإقصاء بطيب خاطر، لأنّ هذا الأخير يبرهن، وإن بكيفية غير مستحبّة إلاّ قليلا، على كينونته. لقد التقى بضابط تظاهر بعدم رؤيته، كان يحلم أن يتعارك معه وهو يعلم أنّه سيُهزم بكلّ سهولة. يفعل ذلك ليس بمازوشية، ولكن لأنّ التعارك مع أحد ما يعني أنّ هذا الأخير أدرك وجودك. الضابط، من جهته، لا يرغب في التنازل. ولذلك لمّا يلتقيان في الشارع وحين يعترض السّارد طريقه بشكل علني، فإنّ الضابط يرفض المعركة: ‘أخذني من كتفي، دون أدنى كلمة تحذير أو تفسير، غيّر مكاني، ثمّ مرّ كما لو أنّه لم يلاحظ وجودي’. المنطق نفسه يحكم علاقة السّارد بمعارفه الآخرين: هو مستعد لقبول الوضعيات الأكثر إهانة وذلاّ شرط أن يُلحظ وجوده؛ الكلام الأكثر شتيمة أجدر من غياب الاعتراف. إذا كانت وضعية العبودية تؤمّن نظر الآخرين، تصبح متمنّاة. رجل القبو ــ وهو يقول الحقيقة عن كلّ إنسان ــ لا يوجد خارج العلاقة مع الآخر: فأن لا تكون هو ألم أكثر غمّا من أن يكون المرء عبدا. ‘أن يسرع إلى المجتمع’ يصبح بالنسبة إليه ‘حاجة لا تقاوم’: أن يكون وحيدا معناه أن لا يكون البتّة.الإحساس بالإهانة المستشعرة في الحالتين ليس هو نفسه. يمكن للإقصاء أن يتمّ التفاوض بشأنه. سواء بتحليل شبيه بما قام به رجل القبو أو لمجرّد كبرياء: ماذا يهمّ من رأي هؤلاء الآخرين الذين أزدريهم (هذا العنب حِصرِم) ؟ يبقى صحيحا، مع ذلك، أنّ بعض الإقصاءات من المشقة أن تُعاش. أن تكون مُتجاهلا من قبل الآخرين بدوره يمنح الإحساس بانعدامك ويحدث الاختناق.

الاعتراف كما رأينا علاقة لا متماثلة: الفاعل يمنح الاعتراف، والخاضع للفعل يستقبله: الدّوران معا قابلان للتّبادل. ومع ذلك، كما رأينا أيضا، فإنّ كلّ الأفعال الأوليّة تحمل في نفس الآن اعترافا ثانويا أو غير مباشر ليس بفعل نظرات الآخرين، ولكن لمجرّد أن وجدنا أنفسنا مأخوذين في إطار تفاعل أو تشارك. هذا الأمر يخدم أيضا علاقة الاعتراف ذاتها. يتلقى فاعل الاعتراف المباشر، بسبب لعبه لدوره فقط، مزايا الاعتراف غير المباشر. أن تحسّ نفسك ضروريا للآخرين (لأجل أن تمنحهم اعترافا)، يعني أن تحسّ أنت أنّك معترف به.قوّة هذا الاعتراف غير المباشر، هو، من حيث القاعدة العامة، أعلى من الاعتراف المباشر. يحكي أحد النّاجين في غيتو فارسوفيا أنّ أضمن طريقة للبقاء كانت أن تنذر نفسك لشخص ما: ‘كان من اللازم أن يكون لك أحد تمحور حياتك حوله ومن أجله تستهلك ذاتك’ (4). الأب الذي يضحّي من أجل ولده يتألّم أكبر الألم يوم يحسّ أنّ الولد لم يعد في حاجة إليه اكثر من كلّ المرحلة التي كان يعطي فيها دون أن يتكوّن لديه انطباع بأنّه لا يتلقى شيئا في المقابل. زيادة على ذلك، فإنّ الاعتراف غير المباشر يفلت من كلّ المراقبة الأخلاقية المتعجّلة دوما للحكم على من يتطلّع علانية إلى الإطراء. أن تكو قويا، أن تساند، أن تشجّع الآخرين يعود في ذات الآن إلى أن تكافئ ذاتك؛ أن تطالب بالمساعدة يعني أن تقبل بعطبك وبضعفك: هذا السلوك أكثر مشقة لمّا لا يكون المرء طفلا أو مسنّا، مريضا أو سجينا.

إنّ الاختيار بين مختلف أنماط الاعتراف لا تتوقف فقط على مقاصد الفرد أو إرادته: بعض المجتمعات، بعض الحقب التاريخية تعطي الامتياز لواحد منها مع إقصاء الأخرى. علينا هنا أن نعالج مسألة هامّة: هل التطلّع إلى الاعتراف هو حقا كوني أم أنّه لا يميّز إلاّ المجتمع الغربي الذي لم أتحدّث إلاّ عنه حتى الآن؟ حينما يذكر روسو ‘الرغبة في الشهرة، في الأمجاد، في الامتيازات’ ألا يكون يختطّ قسمات المجتمع الذي يعيش فيه، أو تلك المجتمعات التي سبقته أو تتهيّأ على وجه الأرض؟ ألا يتعلّق الأمر بواحدة من النتائج التي كان مشايعو شعائر أخرى كالبوذية مثلا يلومون الأوروبيين عليها، أقصد انشغالهم المفرط برفاهيتهم؟ وحتى في قلب الحضارة الغربية، ألا ينطبق هذا الوضع بشكل أفضل على الحياة المدينية العمومية أكثر من الحياة المجهولة والهادئة لأناس بسطاء لأطفال يضحكون، لفتيات يحلمن لصيّادين بالقصبة يتروّون، لفلاحين يحرثون الأرض؟ وفي النهاية فإنّ النص القطعي بالنسبة للتقليد الغربي والذي هو الإنجيل، ألم يقل بوضوح أن لا نتصرّف ‘أمام الناس بغية استرعاء الانتباه’، ‘بغية جني مجد من الناس’، ولكن بالرضا بما سيعلمه أبونا ‘الناظر في السر’ وما سيوزعه من الثواب بإنصاف ؟

أشكال الاعتراف المختلفة

ما هو كوني ومشكّل للإنسانية هو كوننا، منذ الميلاد، نلج شبكة من العلاقات بين إنسانية، أي عالما اجتماعيا؛ ما هو كوني هو أنّنا جميعا نصبو إلى الإحساس بكينونتنا. في المقابل، فإنّ السّبل التي تسمح لنا بالوصول إلى ذلك تتنوّع تبعا للثقافات، للجماعات، وللأفراد، كما أنّ القدرة على الكلام كونية وتأسيسية للإنسانية، فإنّ اللغات متنوّعة، كذلك النزعة الاجتماعية كونية، لكن ليس أشكالها. يمكن أن يكون الإحساس بالوجود نتيجة ما أدعوه بالإنجاز، بالاتفاق دون وساطة مع العالم، كما التعايش مع الآخرين؛ هذا الأخير يمكن أن يأخذ شكل اعتراف، أو تعاون، شكل تعارك أو تشارك؛ والاعتراف، في النهاية، ليس له نفس المدلول تبعا لكونه مباشرا أو غير مباشر، اعتراف مخالفة أو مطابقة، داخليا أو خارجيا. الرغبة في الشهرة، في الأمجاد، وفي الامتيازات، وإن كانت موجودة في كلّ مكان، لا تدير حياتنا برمّتها (إنّها توضّح الحبّ ــ الخاص، لا فكرة المراعاة)؛ إنّها وحدها من سمحت لروسو أن يفهم بأن لا وجود إنساني دون النظرة التي يحملها البعض عن البعض.

من الأكيد أنّ الاعتراف الاجتماعي لا يتمظهر بنفس الكيفية في مجتمع تراتبي (أو تقليدي) وفي مجتمع مساواة كما الديمقراطيات الحديثة. من جهة، وفي المجتمع الأول، يتطلّع الفرد أكثر إلى أن يحتل موقعا اختير له بشكل مسبق (اختياره جدّ محدود)؛ إذا ما وجد نفسه ضمن هذا الموقع، فإنّ له الإحساس يالإنتماء إلى جماعة وإذن فهو موجود اجتماعيا: ابن الفلاح سيصير فلاحا وعبر ذلك سيكتسب الإحساس بأنّه معترف به. يمكن القول إذن إنّ اعتراف المطابقة يهيمن هنا.هذا الموقع المقدّر والمُختار سلفا يختفي حيث الاختيار نظريا و على العكس لا حدود له. لم يعد الامتثال للنظام هو علامة الاعتراف الاجتماعي وإنّما النّجاح.الأمر الذي يخلق وضعية أكثر إقلاقا. ينشأ هذا السّباق نحو النجاح من الاعتراف بالمخالفة. هذا الأخير، مع ذلك، ليس مجهولا في المجتمع التقليدي: إنّه يأخذ شكل تطلّع نحو المجد، تحو الشرف والذي يكرّس السموّ الشخصي. إنّها السبيل المختارة من قبل الأبطال الذين يصبون إلى إثارة انتباه خاص بالأعمال الباهرة التي يحققونها. يتحوّل هذا الطموح، هو الآخر، في المجتمع الحديث: يتعلّق الأمر الآن بالبحث عن الحضوة. النجاح اليوم قيمة اجتماعية نسرع إلى إظهارها، إلاّ أنّ الحضوة لا تثير نفس الإحساس بالاعتبار كما تحصيل مجد (نتشهّى ما عند الأشخاص ذوي النفوذ، كمشاهير التلفزة مثلا، أكثر ممّا نحترمهم).

من جانب آخر، يؤمن مجتمع المساواة كرامة متساوية للجميع (إنّها مساواة العبيد القدامى كما سيقول هيغل) وهو ما لا يفعله إطلاقا المجتمع التقليدي الذي لا ينبني على مفهوم الفرد. إجمالا، يفضل المجتمع التقليدي الاعتراف الاجتماعي، في حين بمنح المجتمع الحديث لكلّ مواطنيه اعترافا سياسيا وقانونيا (للجميع نفس الحقوق، وهو ما يتناقض مع نظام الامتيازات المتحكّم في المجتمعات التراتبية) في نفس الآن يعطي قيمة للحياة الخاصة، العاطفية والعائلية. تظل الحاجة إلى الاعتراف وعلى الدّوام قوية جدّا.

نسمع كثيرا في أيّامنا رجال سياسة يعبّرون عن أنّ الغاية المثلى لمجتمع ما تتجلّى في العمل أقلّ من أجل مزيد من الوقت الحرّ، ومزيد من التمتّع بأوقات الفراغ. غير أنّ مثل هذه الفكر تفترض تصوّرا مُتعيّا للإنسان، الحيوان المستهلك للمتع هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. ليس أكيدا أنّ أوقات الفراغ والتعطّل عن العمل مؤاتية لتفتّح الشخص.لا شأن كبيرا لسهولة الحياة بجانب المنع من الوجود. تتطلّع الكائنات الإنسانية غاية التطلّع إلى الاعترافات الرّمزية أكثر من بحثها على إشباع الحواس، وهي على استعداد للتضحية بالحياة، كما قد لاحظ آدم سميث، من أجل شيء أبخس من العلم الوطني. لا يحصل الفرد في العمل على أجر يسمح له بالعيش، ولكنّه أيضا يحصل على إحساس بالمنفعة، بالقيمة، تُضاف إليها متع التشارك الاجتماعي؛ إنّه يبحث على أن يكون أكثر من أن يحيا. ليس يقينا أن يعثر على كلّ هذا في أوقات الفراغ: لا أحد بحاجة إليه، العلاقات الاجتماعية التي تنعقد فيها محرومة من كلّ ضرورة. يمكن أن تكون الراحة الجسدية مرحبّا بها، لكن غياب الاعتراف يحدث ألما نفسيا مبرّحا. إعطاء معنى ولذة للعمل نفسه هو من دون ريب أكثر فائدة من مضاعفة أوقات الفراغ.

مهما تنوّعت أشكال الاعتراف، فيلزم عدم نسيان واحدة من خصائصها الأساسية: إن طلب الاعتراف من طبيعة لا تنفد، وإنّ إشباعه لا يمكن أن يكون أبدا تامّا ونهائيا. مع كلّ الإرادة الطيبة، فليس في مقدور الآباء أن يملأوا كلّ ليالي رضيعهم: فإلى جانبه، ثمّة آخرون يطلبون مثل هذه الرعاية، ثمّ هم أنفسهم في حاجة إلى ضروب أخرى من الاعتراف وليس فقط ذاك الذي يمنحهم رضيعهم بشكل غير مباشر. فضلا عن ذلك، فإنّ هذا الأخير يوسّع سريعا من دائرة جشعه: ليس فقط الآباء الذين يلزمهم أن يمحضوه انتباههم، هناك أيضا الزائرون، من قريب إلى قريب، يعمل على استدعاء كلّ الناس. لماذا سيكون هناك أشخاص يمنعون عنه نظراتهم ؟ الشهية إلى الاعتراف مثبّطة، كما لاحظ ذلك فرويد بطرافة في عيد ميلاده الثمانين: ‘ يمكن أن نتحمّل كمّا لا نهائيا من المديح ‘ (5). حتى اعتراف المطابقة الأكثر وداعة من اعتراف المخالفة يفرض أن نبدأ يوميا الملاحقة أو الإلحاح في الطلب. وليس الشعور بالنقص أمرا أساسيا فقط، بل هو أيضا لا شفاء منه (وإلاّ سنكون قد ‘شُفينا’ أيضا من إنسانينا).

الهوامش:

1 _ W.James, Principles of Psychology,T,I,Holt, 1904

2 _ A.Smith, Th’ories des sentiments moraux, Editions daujourdhui, 1982

3 _ P.Watzlamick et al, Une logique de la communicaton’,Seuil, 1972

4 _ Edelman, M’moires du ghetto Varsovie, Editions du Scribe, 1983

5 _ W.Jones, Sigmund Freud, T,III,The hogath, Press, 1957

** النص مأخوذ من مجلة :Sciences Humaines, N 131 , Octobre 2002

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى