صفحات العالم

أن لا نطبّب جرحى


حازم صاغيّة

حين يقرّر لبنان ألاّ يعالج جرحى ومصابين سوريّين، فهذا قرار شجاع في وقاحته، بل في إعلان نفوره من كلّ ما يوصف بـ”الإنسانيّ”.

من هنا استُخدمت كلمة “شجاع”، وإن بمضمون سلبيّ للشجاعة (والشائع أنّ الشجاعة إيجابيّة المضمون). إذ مَن الذي يقول علناً وجهراً: أنا لا أطبّب جرحى ومصابين.

فمن المعروف أنّ الطبيب، حتّى لو كان في ساحة المعركة، ملزَم أخلاقيّاً ومهنيّاً بتطبيب خصومه على الجبهة الأخرى إذا ما جُرحوا أو أصيبوا.

أغلب الظنّ أنّ السياسة وحدها لا تكفي لتفسير هذه الشجاعة في الوقاحة، بل في الوحشيّة، وأنّنا مدعوون للبحث عن أسباب أخرى، أبعد وأعمق، لتفسير ذلك.

ففي الموقف هذا يرتدّ اللبنانيّون إلى سلوك ما قبل إنسانيّ، أي سابقاً على اكتشاف أنّ الإنسان إنسان يتشارك في إنسانيّته هذه مع كلّ إنسان آخر. وقد كان الوصول إلى هذه القناعة، في الثقافة الغربيّة، مرهوناً بتحوّلين كبيرين ترافقا مع صعود الحداثة:

-أنّ الإنسان حلّ محلّ الله بوصفه قائداً للتطوّر، فاكتسب بهذا صفة القداسة ولو في صيغة مُعلمنة.

-وأنّ الإنسان، كصاحب هويّة، حلّ محلّ ابن الطائفة أو القبيلة أو الأمّة، محرزاً لنفسه صفة الشمول الكونيّ (اليونيفيرساليّ).

هكذا يغدو الامتناع عن تطبيب جرحى ومصابين شكلاً من الإقرار بأنّ “الإنسان” لا يقيم بيننا، أو أنّنا ننسحب من إنسانيّة كنّا قد بلغناها ذات مرّة لنرتدّ إلى ما قبلها من حالة التوحّش. فالوحش إذا عثر على جريح أو مصاب أجهز عليه بأكله.

واقعٌ كهذا يصحّ أن يشكّل مرآة يرى اللبنانيّون وجوههم عليها، خصوصاً في موسم سياحيّ تُدعى فيه الفرق العالميّة كي تعزف أو ترقص في لبنان، ويتوافد اللبنانيّون “المتمدّنون” لحضورها والاستمتاع بها.

نعم، نحن نفعل هذا تعبيراً عن عالميّة نزعمها لأنفسنا، كما نمتنع عن تطبيب الجرحى والمصابين تعبيراً عن انحطاط فعليّ وعميق يجعل الطائفيّ والقبَليّ فينا أقوى بلا قياس من الإنسانيّ.

لقد وفّر اللاجئون السوريّون، خصوصاً منهم ضحايا العدوان الأسديّ على أجسامهم، فرصة للبنانيّين كي يبرهنوا أنّهم يملكون من النبل ما يجعل الحياة شيئاً كريماً وجميلاً. لكنّ التوحّش الذي فينا آثر تبديد الفرصة هذه.

لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى