أهناك مدن سورية عميقة حقاً؟/ عمر قدور
سيكون ضرورياً التنويه بأن هذا النقاش مدين لبعض ما أورده حازم الأمين في مقاله «الطيار السوري بين العصب العلوي والثقافة الأكثروية» («الحياة»، «تيارات»، 29/3/2015)، خاصة ما يثيره جزء من المقال هذا نصه: «في دمشق كان على العلوي، وإن كان من أركان السلطة، أن يصبح دمشقياً، وفي ذروة غطرسة النظام «العلوي» مارست المدينة تعالياً على ريفييها الذين يحكمونها موحية بأن ما هم فيه من سلطة، لا يتعدى وظيفة عابرة أوكلتها هي إليهم بسبب انشغالها بأمور أخرى أهم».
تنطوي هذه الفكرة على مبالغة، ولكنها مبالغة تجد الكثير من القرائن على المغامرة بتبنيها. فحافظ الأسد، مؤسس هذه العلاقة مع دمشق السنّية، كان يدرك أن سلطته لن تستقيم من دون شراكة مع دمشق العميقة، وهذه ليست دمشق الناس والأهل، لا بل استعان بالأولى على إخضاع الثانية. فحين ارتكب المجزرة في حماة مثلاً لجأ إلى دمشق العميقة لمنع دمشق الراهنة من أن تنفذ إضراباً احتجاجياً.
ولا يُلام حازم الأمين على تبنيه مفهوم «المدينة العميقة»، وإطلاقه على دمشق وحلب تحديداً، إذ طالما جرى تداول هذا المفهوم أو ما يشبهه، إما لنفي الصبغة الطائفية عن النظام، أو لمحاولة فهم عدم اصطفاف السنّة جميعاً مع الثورة. في الحالتين كان التحليل يستند إلى النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، ومنها الماركسية، أي إلى وجود شبكة من المصالح والطبقات الاقتصادية تتكفل برسم سياسات الفئات المعنية، ولا يندر استخدام التحليل الاقتصادي لنفي البعد الطائفي، ولو رداً على من يمنحونه الأولوية.
في سورية، وحالات مشابهة عدة، سيكون التحليل الاقتصادي الكلاسيكي قاصراً عن الإلمام بالتحولات الاجتماعية والسياسية، وسيزداد قصوره لدى اعتباره صالحاً طوال عقود من حكم عائلة الأسد. فانقلاب البعث قضى، إلى غير رجعة، على طبقة ناشئة من البرجوازية المدينية، وعلى طبقة آخذة بالأفول أو التحول إلى البرجوازية هي طبقة الإقطاع. الأثر الاقتصادي الأشد لذلك الإجراء لم يكن كما هو متوقع تقليدياً، أي لم يكن تأميم الثروة «باستثناء الأراضي» لمصلحة فئات مهمشة أو لمصلحة الدولة، بل كان دفعاً للبرجوازية كي تهرب بثرواتها خارج البلاد. يعلم اللبنانيون أكثر من غيرهم كيف قامت نهضة بيروت في جزء معتبر منها، في الستينات، على الرأسمال السوري الوافد.
إذاً أتى حافظ الأسد إلى السلطة في وقت لم يعد فيه وجود لبرجوازية محلية، وعلى رغم إعطائه تطمينات لبقاياها المتوسطة أو الصغيرة في دمشق وحلب، إلا أن ذلك لا يُفهم إلا بالتضافر مع تقرّبه من دول الخليج، وسيزداد الأمر وضوحاً مع حرب تشرين والمساعدات التي حصلت عليها سورية ومصر بدءاً من 1973، ولم تنقطع إلا بعد حوالى عقد من ذلك التاريخ.
وما يلفت الانتباه هو التزامن بين «الانفراج» في الداخل والخارج. فعندما كانت علاقة النظام تتحسن مع الخليج كانت قبضته تتراخى قليلاً في الداخل، وعندما تتأزم علاقته بالخليج يضيّق الخناق على الداخل! التحليل الكلاسيكي ينبغي أن يقود إلى العكس، أي إلى فرضية الانفراج في الداخل عندما تتأزم علاقات النظام الخارجية، إلا إذا كان النظام يحسب من يستهدفهم في الداخل تابعين لخصومه الخارجيين. مرة أخرة، لا يصلح التحليل الكلاسيكي في حالتنا.
في الوقت الذي بدأ فيه حافظ الأسد ما يُوصف بالتصالح مع المدن العميقة وفق بعض التحليلات، كانت أنجم ثلاثة من قادة قوات النخبة تبرز بقوة: رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض. هؤلاء الثلاثة سيقمعون مباشرة تحرك الإخوان المسلمين وبعض الاحتجاجات المرافقة له، وسترتكب قواتهم مجازر جماعية في حلب وحمص وسجن تدمر والمجزرة الأضخم على الإطلاق في حماة. الأهم على صعيد التحليل أن سلطة هؤلاء فاقت أية سلطة مدنية أو اقتصادية في البلاد، وهي بالتأكيد لا تقارن بالسلطة الإدارية المحدودة لوزير الدفاع آنذاك مصطفى طلاس. كان ثمة ظن شائع حينها بأن تجار حلب تحديداً وقفوا وراء الإخوان، ما استلزم تحرك النظام لمفاوضتهم ومفاوضة نظرائهم الدمشقيين باستخدام عصا كبيرة، مع غياب لجزرة لا يتيحها فساد النظام. للتذكير، رافق المواجهة مع الإخوان وميّز بعدها عقد الثمانينات تدهورٌ اقتصادي كبير، ما ينفي فرضية مشاركة دمشق وحلب «العميقتين» في مجزرة حماة، إذ لو صحّ لكان الثمن انتعاشاً اقتصادياً لا هروباً جديداً لرأس المال وإجراءات عقابية تبطش به.
ومع حقبة التسعينات برز مشروع التوريث الذي اقتضى التخلص من منافسي باسل الأسد ومن ثم أخيه بشار ضمن الطغمة الأمنية والعسكرية المتنفذة، فأقال الأسد الأب بعض أزلامه لمصلحة أزلام وريثه، ومن ضمنهم شبكة جديدة من شركاء السلطة الاقتصاديين الذين برزوا فجأة، ولا ينتمون إلى المتن المديني أو البرجوازية السالفة. أيضاً ترافق الانفراج الداخلي مع انفراج إقليمي، خاصة مع مشاركة النظام في حرب تحرير الكويت وعودة المساعدات الخليجية إلى خزائنه الخاوية. خلاصة القول: الطبقات الاقتصادية «الأعلى» هي صناعة النظام وفساده، ولا تعبّر إطلاقاً عن «مدينة عميقة» تفرض مشاركتها على النظام، ناهيك عن مشاركتها في جريمة مهولة كمجزرة حماة. على رغم ذلك، وهذا من طبيعة الرأسمال، فرّ الكثير من أثرياء الفساد مع بدء الثورة، وحجم الأموال الهائل الذي وصل إلى لبنان ومصر وتركيا يوضّح فشل النظام في اصطناع دولة عميقة له على الصعيد الاقتصادي.
هناك مثالان قد يعبّران عن الألغام التي تحيط بتعبير الشراكة بين حلب أو دمشق والنظام: في 1987 أُقيل آخر رئيس وزراء شامي وعُيّنت مكانه شخصية حورانية. حافظ الأسد الذي يدرك جيداً الحساسيات المناطقية التقليدية لم يكن يريد الرفع من مشاركة مدينة درعا بقدر ما كان يوجه صفعة للشوام. قبل نحو سنة من وفاة أبيه، زار بشار الأسد أحد الأسواق التقليدية في حلب، فهتف له بعض التجار الصغار الذين ضاقوا ذرعاً بأتاوات المحافظ: «يا بوحافظ غيّر لنا المحافظ». الاستجابة أتت بنقل المحافظ ليصبح رئيساً للوزراء، مع تزكية غير مسبوقة في بيان التكليف تصفه بـ «صاحب اليد النظيفة». للعلم، المحافظ ذاك كان سنياً، فهل ما يهم هي طائفته؟ أم ترقيته بعد الشكوى «الحلبية» منه؟
الحياة