صفحات الثقافةعزيز تبسي

أوجاع المخيلة.. شجرة العائلة/ عزيز تبسي *

صعد السلم المعدني المائل على قوائم أربع، ووقف بقامته الطويلة الرياضية، المغطاة بمريوله الغامق الملوثة أكمامه وأطرافه بلطخات من الأصبغة، أمام اللوحة المثبتة على الجدار، يعمل بمثابرة على إتمام ما تبقى شاغراً من أغصان الشجرة التي تتدلى من نهاياتها الدقيقة أسماء وتواريخ رجالات السلالة الهامشية.

يلقي من حين لآخر نظرة إلى الخلف إلى حيث يجلس جده العجوز على كرسي خشبي عال، مرتدياً ثياب الخروج النظيفة المكوية، تظهر أناقته بقميص الكتان الأبيض العريض، البنطال الطحيني، الصندل المفرغ بسيور جلدية متقاطعة من مقدمته وجانبيه. يتأمل سانداً ذقنه الحليقة على راحة كفه، حفيده الشاب العائد من المحترف الجماعي الذي أنشأه مع أصدقاء من أصول متعددة في أطراف مدينة حيفا، وكيف ساقه إلى ضرورة رسم هذه اللوحة التي كانت مفتاحاً لأقفال الذاكرة، وسبباً في تسرب خليط مائها وأسماكها وضفادعها… هي سانحة كذلك لتفحُص الشروط الاستثنائية التي أمدت بعمره أربعين عاما، بات من الممكن تسميتها إضافية، بعد أن كان يتراءى له الموت، في زمن خلا، مرة على الأقل كل أربعين ساعة.

أيامها خاض مباريات في التخييل، وهي بمنزلة مبارزات للتفلّت من الساعات التي تعبر بقسوة، والتي تفترض دوماً أن هناك المزيد من الأشياء القبيحة التي لم تفصح بعد عن نفسها، كذاك القتل التي يتهرب الناس من إظهار خوفهم منه، وأحوال مصائرهم بعده. تجارب لتخيّل التاريخ قبل الوصول إليه وعيشه، ونوع مبتكر من قراءة طالع المستقبل.

هو نمط من التجارب المنهكة، حين ندفعها نحو نهاياتها الاحتمالية بهندسة تاريخية صارمة، تُقصي العاطفة والأمنيات المنبعثة من طفولة تتوسل الكلام الأنيق. ماذا لو لم نعثر على وجود لنا في المستقبل، وهذا من الاحتمالات التي لا يمكن تجاهلها. لا نقصد الوجود الهزلي المكتفي بالتلصص على الوقائع والانفعال بها، بل الوجود الحي الفاعل في صنع التاريخ والسيطرة على جنوح حركته وتعثرها. ترى ألم يتوفر للهنود الحمر وجماعات القبائل الإفريقية من يقرأ لهم تاريخهم، ويساعدهم على النجاة من كمائنه؟

في سرد الوقائع يتبين أن دخول التاريخ أصعب بكثير من الخروج منه. مصير يشبه أحوال السجناء في بلدان شرق المتوسط، حين كانوا يُساقون مقيدين بسلاسل فولاذية إلى السجون، ويتركون ليتعفنوا، حاكين جلودهم بأظافر من زجاج مثلوم ليصلوا إلى عظامهم البيضاء.

يعلو اللوحة – الشجرة، اسم الجد الأعلى، الذي ثبّت أولاده وأحفاده سيرته والتفوا حولها، الشاب الذي فرّ من التجنيد الإجباري العثماني. سيق مع المئات من أبناء المدينة للجيش الرابع الذي قاده «جمال باشا» إلى صحراء سيناء لصد هجوم متوقع من الجيش البريطاني عند تخوم قناة السويس. اختفى لسنوات بعد هزيمتهم هناك، في شعاب الجبال بين الكرمل ومرج ابن عامر، ليظهر بعدها أمام باب منزل العائلة في حي «الحميدية» متأبطاً «بقجة» ملابسه، مندفعاً لبشارتهم بأنه صار عندنا ملك عربي، كما هي كل دول العالم، وأننا صرنا من اليوم أحرارا. يمضي بعدها بأيام مع الحالمين من أبناء الحي، بثيابهم النظيفة وذقونهم الحليقة المعطرة إلى أمام «فندق بارون» ليروا الملك الشاب فيصل الأول، ويتلقفوا أخبار خطبته المبشرة بمملكة عربية، يتعاقد أبناؤها فيما بينهم على المواطنة والمساواة، ويعملون معاً لإعادة بعث الأمجاد العربية من رقادها.

يتبين أن الدخول في التاريخ ليس بسهولة الدخول إلى صالة سينما، حيث يكفي أن تُحمل النقود القليلة إلى كوة القطع لتبادلها ببطاقة، تطبق عليها بين إصبعيك، لتقدمها بعد برهة إلى الموظف، الذي يأذن لك بالدخول الرحب إلى الصالة المضيئة الواسعة، حيث كرسيك الفارغ ينتظر جلوسك المتقن.

الجد الثاني، الابن البكر للجد الأعلى، الذي شب في أول سنوات الانتداب الفرنسي، ساقته المصادفة للعمل في شركة الخطوط الحديدية كملقم موقدة البخار، ما جعله شاهداً على تقّطع جغرافيا بلاد الشام والعراق، وتقلص المسافة في الرحلات التي كانت تبدأ من محطة حلب وتنتهي بحيفا.. والرحلات الأخرى التي تبدأ من حلب وتنتهي ببغداد..

– بلادنا تضيق كقمصاننا، قال لزوجته التي اعتادت غيابه لأسابيع في رحلات عمله، وربما ليطمئنها على عدم تأخره في رحلاته بعد الآن.

ما كان الذي يجب أن يعملوه لتبقى المسافات كما هي، أي بلادهم الواسعة، لا أن يرتضوا بتقطيعها كقالب من الحلوى، وينتظرون الحصة التي أبقيت لهم، كضيوف على مائدة تتكرم عليهم من طبيخ لحمهم ودمهم؟

الجد الثالث اجتهد للحصول على شهادة متوسطة قبل نهاية الانتداب تؤهله للعمل في الوظائف التي توفرها المؤسسات الحكومية الجديدة. ينجح في العمل في إدارة الجمارك، ويتنقل إلى كل بوابات البلد الصغير المتكئ على وسادة من آمال مخصوصة: الاستعمار كما البرد سبب لكل علة!

لكن الاستعمار يرحل كنتيجة للحرب العالمية الثانية، ويبقى البرد وعلته، لتتوسع وتصبح عللاً تأخذ من بعضها وتتراكم. يبقى الكيان الصهيوني حارس الاستعمار ولم يرحل معه، والتجزئة التي صنعها بحذاقة، والأصوات التي تصعد من لدن الطغاة المتسربلين بأزياء الثوار لتذكّر بالحرية، وتتساءل بصوت خافت، أتستأهل هذه الشعوب الحرية أم القليل منها يكفي، داسّة أصابعها في أفواه العامة، للتيقن من نمو أسنانهم اللبنية التي تؤهلهم لمضغ فطيرتها المرتجاة، لتصل بسرعة إلى النتيجة التي كانت بحيازتها قبل هذا الفحص المتعجل» من المبكر منحهم الحرية. إذاً ما الذي سيفعلونه في هذا الوقت المستقطع من تقويم التاريخ؟ أن يبتهجوا لإنجازات الحكومات المتعاقبة التي باتت تضيء القرى، وتدهن أطراف الأرصفة بالأبيض والأسود، وتسند خاصرة الرغيف، وتدعم أكواب الشاي بالسكر، وتعتمد شتم الاستعمار من حين لآخر كبديل غير نمطي عن الرياضة الصباحية.

راهن الجد الرابع على التعليم لتجاوز التفاوت الاجتماعي، الوسيلة المتبقية للتفلت من مصير مكتوب على جبين العائلة من حين ولادة أبنائها. عرف بغريزية الحدود الفاصلة بين أحلام الفرد وأوهامه، في شروط يصعب السيطرة عليها. غادر الحي في أول فرصة مؤاتية، لكن سرعان ما ظهرت علامات التمرد على أولاده. ذهب اثنان في مصيرين مجهولين، الأول لم يعد من بيروت بعد اجتياحها الصهيوني، والثاني سيق إلى سجن كارثي، يخرج بعده ليتجه نحو الموسيقى حيث يُختزل الكلام المؤدي للتهلكة، في بلاد تتعبد الصمت، وحين يأتيها الكلام تغرق في اللغو المكرر.

ويأتي الصوت حاداً وواضحاً. يرفع رأسه إلى أعلى السلم: يا جدّي يجب إعادة رسم هذه الشجرة، أرى أننا نسينا ذكر الجدات والأمهات والحفيدات.. وتابع وهو ينزل السلم، سأرسمها من البداية بعد عودتي من حيفا. سأغادر غداً.

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى