صفحات سوريةعمر قدور

“أوقفوا القتل.. نريد أن نبني وطناً لكل السوريين”!


عمر قدور

عندما قامت الناشطة السورية ريما الدالي وزملاء لها بتنفيذ وقفة احتجاجية أمام مبنى مجلس الشعب في دمشق بشعار “أوقفوا القتل.. نريد أن نبني وطناً لكل السوريين”، لم يكن معلوماً أن تاريخ الثامن من نيسان 2011 سيطلق إشارة البدء لحملة اعتصامات صامتة في أماكن أخرى تقتصر على حمل اللافتة السابقة فقط. ومع أن الشعار المرفوع لا يوجه إدانات قوية ومباشرة للنظام إلا أن ردّ فعل قواته الأمنية لم يخرج عن المألوف، ألا وهو اعتقال ما أمكن من الناشطين المشاركين بصرف النظر عن سلمية تحركاتهم وسلمية أهدافهم، بل بات من الملاحظ على نطاق واسع أن النظام يستهدف بشكل حثيث الناشطين السلميين في الوقت الذي يدّعي فيه أنه يواجه عصابات مسلحة، في دلالة على أن ما يؤرّقه حقاً هو استمرار المظاهرات وتعاظمها رغم كل أنواع التنكيل التي جرّبها خلال ما يزيد على أربعة عشر شهراً.

لا يحرج النظام، كما تبين من اعتقاله لريما الدالي وآخرين من الحملة ذاتها، أن يظهر بموقع المصرّ على استمرار القتل وموقع الرافض لبناء وطن لكل السوريين، فهو منذ البداية رفض مشاركة السوريين في بناء وطنهم، ولم يرَ أصلاً أن لهم حقاً فيه، أو أنهم يستحقون إرادةً حرة ومستقلة. مدفوعاً بوهم القوة والدعم الذي يتلقاه من جهات خارجية لا يتحرج النظام من تفنيد دعاواه الإصلاحية بنفسه؛ مصرّا على أنه باقٍ كما هو، وأنه لن يتنازل قيد أنملة عن استفراده بالبلد، وأن أنصاره أيضاً على الدرجة نفسها من الإصرار، فهم لن يقبلوا أبداً بوطن لكل السوريين، ولن يرضوا بأقل من سحق من يرون أنفسهم أشقاء لهم في الوطن.

في أكثر من مكان وأكثر من مظاهرة رفع الشباب السوري هذه اللافتة: “ثورة الحرية ومكاسبها لجميع السوريين؛ لمن ثار.. ولمن وقف متفرجاً.. وحتى لمن عاداها”. لكن الواقع المؤسف أن من يعادون الثورة لم يكترثوا يوماً بشعاراتها وأهدافها، وأنهم استمرأوا الديكتاتورية إلى حدّ إعلان استنكارهم واستهزائهم بطالبي الحرية؛ “بدكن حرية؟!” هذا ما يقوله الشبيحة وهم ينكّلون بالمعتقلين. وبالتأكيد سيكون من الصعب أو المستحيل إقناع هذا النوع من الكائنات بأن مكاسب الحرية ستكون لهم ولأولادهم أيضاً.

في جانب منها قد تكون حملة “أوقفوا القتل..” عودة إلى البراءة الأولى للثورة، حين كانت هتافات الثوار مصرة على أن “الشعب السوري يد واحدة”، وعلى أن “الدم السوري واحد”، حتى حين بقي إعلام النظام يحتفي بقتلاه فقط دون أدنى اعتبار للضحايا المدنيين الذين لا ينكر وجودهم. من هذه الناحية تحاول الحملة التذكير بوعي أغرقته الدماء، فالانقسام بين السوريين تجاوز بمراحل كثيرة تلك التمنيات الصادقة التي أرادت مجتمعاً متماسكاً، ووطنياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو على الأقل نادت بمجتمع لا يُستباح فيه الدم بسهولة، ولا يجد القتلة من يقبل ويبرر أفعالهم بسهولة أكبر.

“.. أو نحرق البلد”

لكن الواقعية تقتضي بأن الظروف كلها أضحت بعيدة عن هذا الخطاب، فبناء وطن لكل السوريين يقتضي توافقاً لا يبدو متاحاً في الأمد القريب، ومن المرجح أن مسلسل القتل سيدخل طوراً أشدّ قسوة وتدميراً بعد التفجيرات التي شهدتها عدة مدن سورية، أي أن الوطن كله قد يكون الآن قيد التفخيخ. إن شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي يرفعه الموالون يثبت فعاليته يومياً، ويثبت أنه أمضى من كل النوايا البناءة، وما تمّ تدميره بالمعنى المباشر للكلمة يُنذر بتحويل البلد إلى أنقاض مثالها الحاضر حي بابا عمر وحي الإنشاءات في حمص، فضلاً عن العديد من البلدات والقرى التي لم تأخذ حظها من التغطية الإعلامية. المقارنة هنا لا تتعلق بجدية ونبل النوايا، فأصحاب “أو نحرق البلد” يملكون الإصرار والمقدرة على تدميره، ولا يشعرون بأدنى حرج وهم يصورون الوطن كرهينة يبتزون بها الآخرين.

من المرجح أنها حالة نادرة وشاذة أن يكون الوطن في موقع الرهينة، لكن ارتفاع وانخفاض منسوب القتل وفق التطورات السياسية الخارجية يؤكد أن دماء المواطنين صارت ورقة للتفاوض، وأن لغة القتل لم تعد ورقة لإرهاب الداخل وحسب، وإنما لابتزاز الخارج أيضاً في سابقة يبدو فيها الأخير أكثر حرصاً على دماء السوريين، أو في الحد الأدنى غير راضٍ عن هذا المنسوب من القتل!. وإذ يُدخلون دماء السوريين بورصة السياسة الدولية والإقليمية فإن دعاة “نحرق البلد” لن يكترثوا مطلقاً بأصوات رهينتهم ولا باستغاثاتها، فاهتمامهم ينصب على إحكام القبضة عليها، والمساومة في البورصة من أجل إطلاق هذه القبضة مرة أخرى. إيقاع الأذى بالداخل لم يعد وسيلة لإذلاله مرة أخرى، بل تحول أيضاً ليصبح أسلوب مفاوضات مع الخارج، هذا بغض النظر عن أنه أصبح أحياناً بحدّ ذاته غايةً للتعبير عن مشاعر الانتقام والكراهية.

ولعل ما هو أشد مرارة من أفعال الذين أعلنوا عن نيتهم إحراق البلد هو الصمت المريب الذي يبديه آخرون، في دلالة لم يعد فهمها ممكناً إلا على أنها نوع من التواطؤ الضمني. أصحاب الكتلة الصامتة الصلدة هذه لا يمانعون في أن تُحرَق البلد، ولا يرف لبعضهم جفن إزاء المشاهد المريعة للتنكيل والإبادة، وقد يخرج هذا البعض عن صمته أحياناً ليعبّر عن امتعاضه من خطأ يرتكبه الثوار أو رد فعل لهم على ممارسات النظام. الصمت المتولد عن الخوف هو غير المتولد عن الرضا، ولا يخفى أن بعض الصامتين قد صموا آذانهم عن سابق عمد فلم يعودوا يتابعون سوى إعلام النظام، وهم أيضاً لا يرون سوريا وطناً لكل السوريين ما دام فناء القسم الثائر لا يعنيهم بشيء، وما داموا يرون في أشقائهم في الوطن فائضاً بشرياً يُستحسن التخلص منه.

إن شعار “أوقفوا القتل.. نريد أن نبني وطناً لكل السوريين” محاصرٌ واقعياً بتنازع شديد للمصالح، ومن المؤسف أن عقود الاستبداد أفلحت في زرع ثقافة الإقصاء، إذ لا يبدو أن هناك حظاً ليتنازل النظام والمستفيدون من بقائه ولو عن جزء بسيط من امتيازاتهم التي لا تقل عن احتكار البلد برمته، وعن التحكم بحق الحياة لكل مَن فيه. ليس الخوف من القمع وحده من يقرر عند البعض، أما الخوف المفتعل من نتائج الثورة فلا يعدو كونه ذرائع للتغطية على المصالح الحقيقية العميقة للمُصطفّين مع النظام، وإذا رأى البعض أن هذه المصالح وهمية أو آنية فإن العبرة بأصحابها أنفسهم الذين يقررون مدى أهميتها، ولن تثنيهم عن ذلك الشعارات مهما بلغ صوابها، بانتظار أن يروا مصلحة قريبة مختلفة.

بالتأكيد لا تكفي الشعارات والنوايا النبيلة، لكن هذا لا يعني أبداً التقليل من نبلها وأهميتها، وفي المسار الشائك والمعقد الذي تُضطر إليه الثورة قد يكون مفيداً للثوار أيضاً أن يذكّروا أنفسهم بمنطلقاتها وأهدافها الأساسية، لئلا ينجح خصومها في جرهم إلى ردود أفعال خارجة عن طبيعتها. قد نبالغ إذ ننتظر من أنصار الاستبداد فهمَ لغة بعيدة تماماً عن عقليتهم، وقد لا ينفع التكرار مع من اعتادوا لغة القسر والإكراه؛ هذا كله في حسابات الجدوى المنظورة، أما على المدى الأبعد فسيضطرون إلى فهم هذه البديهية. بانتظار أن يحدث ذلك يتندر بعض النشطاء بتحريف الشعار وإعادة توجيهه على النحو التالي: خففوا القتل.. نريد أن نبني وطناً لبعض السوريين. منيح هيك؟!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى