أية استراتيجية للعمال الكردستاني؟/ رستم محمود
أكثر من أي وقت مضى، تُدرك القيادات العليا لحزب العمال الكردستاني أهمية العلاقات الاقتصادية والسياسية بين إقليم كردستان العراق وتركيا. فكلما زاد «التورط» والاندماج التركيان في المسألة العراقية الداخلية، عبر التحالف المتين مع أكراد العراق، كان لهذا أن كسر تابوات سياسية تركية تتعلق بحل المسألة الكردية في تركيا، ودوماً عبر المزيد من الانفتاح على حزب العمال الكردستاني.
فلم يكن غريباً تزامن التصريح الأخير الصادر عن زعيم الحزب عبدالله أوجلان من أن «المفاوضات مع الدولة التركية تمر بمرحلة حساسة وحاسمة، ويُمنع أي تشويش»، مع الكشف عن مضمون الاتفاق النفطي الكردي العراقي-التركي الاستراتيجي، والذي يمتد لخمسين عاماً قابلة للتجديد، وفق ما صرح رئيس وزراء الإقليم نيجرفان البارزاني.
ما يتطلبه السير في هذا السياق السياسي استراتيجياً، بالنسبة الى العمال الكردستاني، هو تعديل جملة خيارات سياسية ينتهجها راهناً في ما يخص موقفه من الحزب الديموقراطي الكردستاني أولاً، وصراعه شبه المفتوح معه على المجتمع الكردي في المنطقة. فالمُضيّ في معادلة التوافق مع تركيا، يجب أن يتضمن قبولاً بنفوذ الديموقراطي الكردستاني بصفته «الحليف» الكردي الاستراتيجي لتركيا.
الأمر الآخر يتعلق بسلوك العمال الكردستاني واستطالاته في كل من سورية وإيران. فعلاقته الاستراتيجية مع هذين النظامين، تراكبت مع حربه المسلحة ضد تركيا طوال ثلاثة عقود دموية. لكن خياره الاستراتيجي بالمضي في تطوير المفاوضات مع الدولة التركية، سيتطلب حتما تفكيك عرى ذلك التحالف الذي قام قبل إنجاز تلك المفاوضات، لأن تفكيك تلك العلاقة سيبدو عاملاً مهماً في تأسيس الثقة بين الطرفين. وطالما اعتبر العمال الكردستاني أن العلاقة مع إيران وسورية أداة لاستمرار الضغط على تركيا، فذلك سيعتبر معوقاً مركزياً لتطور العلاقة بينه وبين الطرف التركي.
ويبدو سلوك حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي PYD مقياساً في ذلك الاتجاه. فطبيعة توافقه وتنابذه مع النظام السوري، تشكل أداة قياس لسياسة تركيا. فالمسألة السورية عموماً، والشمال السوري بالتحديد، يُعتبران حيزاً للأمن القومي التركي، وعبر ذلك تستطيع تركيا أن تقرأ الخيار الاستراتيجي للعمال الكردستاني.
في الفترة الممتدة بين 1998 حين وقّعت «اتفاقية أضنة» الأمنية بين سورية وتركيا، وحتى اندلاع الربيع العربي، قامت الاستراتيجية الجوهرية للعمال الكردستاني على «الحفاظ على الذات» في مواجهة التوافق الإقليمي المضاد لها، وهو ما خلخل الكثير من قوتها ومناعتها. لكن في ظل هذا التنابذ الحاد في العلاقات الإقليمية، وصعود أهمية المجتمع السياسي الكردي، بات الخياران الاستراتيجيان متاحين للحزب: فإما العودة الى قواعد اللعبة التقليدية والاندماج في الحلف الروسي- الإيراني- السوري في المنطقة، والاستمرار في الضغط على تركيا لإخضاعها، وإما القبول بالتنازلات التركية الممكنة في المسألة الكردية الداخلية، والتحول طرفاً داخلياً تركياً، واستمراره بأشكال جديدة من «نضاله» في سبيل المسألة الكردية في تركيا.
ثمة صعوبة بالغة في تحديد أي من التوجهين يمكن أن يسيطر على الحزب المذكور في المستقبل المنظور، ويساهم في تحديد ذلك ثلاثة عناصر موضوعية:
يتعلق الأول بمركز صناعة القرار في الحزب، والموزع بين زعيمه المعتقل أوجلان والقيادات السياسية «المدنية» الموالية له (برلمانيين ورؤساء بلديات أكراد من حزب السلام والديموقراطية الكردي في تركيا)، وبين القيادة العسكرية المسلحة للحزب في جبال قنديل. فالطرفان الأولان يبدوان اكثر حماسة للانخراط في السياق الاستراتيجي التركي، بينما تميل القيادات العسكرية الى الحفاظ على الطرق التقليدية المعهودة مع تركيا، حفاظاً منها على مكانتها ودورها في المستقبل المنظور.
الشيء الآخر يتعلق بمآلات المسألة السورية. فالشكل الذي ستستقر عليه الحالة السورية سيحدد موقع ودور الأكراد السوريين المجاورين لتركيا في النظام الجديد، وبالتالي حجم ودور العمال الكردستاني في الضغط على تركيا واستحصال أكبر مقدار من التنازلات منها. فمع المسألة السورية، بات العمال الكردستاني لاعباً اقليمياً حيوياً، ويصعب توقع تنازل منه عن دوره هذا. فعدم الاستقرار في المسألة السورية راهناً، يشكل دافعاً حيوياً لتذبذب ميول الحزب.
على أن العامل التركي الداخلي ليس قليل الأهمية. فالعام السياسي المقبل سيحدد بوضوح خطوط سير تركيا في السنوات المقبلة: شكل ديموقراطيتها ودستورها الجديد، مستقبل حزب العدالة والتنمية وزعامة طيب رجب أردوغان، خياراتها في الاتحاد الأوروبي ومستوى تشابكها مع المسألتين السورية والعراقية. كل هذه الأمور ستتضح خلال الشهور المقبلة عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهي أمور ستحدد مجتمعةً طبيعة ومستوى الإغراءات التي يمكن أن تُقدم لرأس العمال الكردستاني وقيادته العسكرية، ووفق ذلك يمكن أن يحدد الحزب المذكور استراتيجيته، التي تبدو راهناً قلقة للغاية.
* كاتب سوري
الحياة