صفحات الثقافة

أيدينــا علــى قلوبنــا

 

عباس بيضون

لنضع أيدينا على قلوبنا. بعد نشوة الانتفاضات العربية، يأتي الاحتراس، يأتي التوجس. لنقل ان ما حصل يتجاوز أو يتعدى حساباتنا. ثمة حسابات ما عدنا متأكدين انها شاملة. ثمة احتمالات ما عدنا قادرين على استبعادها. ثمة توجسات لا نستطيع بعد أن لا نهمس بها لأنفسنا. بل هناك التباسات لا ندري كيف سيكون حلها. هناك تعقيدات وتعقيدات اخرى في الأفق ولسنا نعرف كيف نخرج منها إذا كان لنا ان نخرج، سالمين. لنقل اننا لسنا متأكدين من اننا أبعدنا عنا، كل هذه المخاطر.

الأرجح ان عهد نومنا الطويل، بلادتنا التاريخية، يعودان إلينا بطرق أخرى. يعودان إلينا في صيغ وفي اشكالات وفي مشاكل، لسنا غريبين عنها، وليست مباغتة أو مفاجئة. لكنها تعود بزخم وبفعالية غفلنا عنهما، وعلى الأقل ما كنا نحسب انهما هكذا.

العراق لا نستطيع ان نضعه جانباً، سنة وشيعة وأكراد وبلد على شفا التفتت إن لم نقل التقسيم. سوريا وهذا الصراع الأهلي الذي هو الآخر ينذر بسناريوهات تقسيم ودويلات، مصر التي كنا طوال الوقت أكثر ثقة بها. انها بلد وليس تجميع حطام، مجتمع وليس فتات فئات وقبائل وعشائر غير بعيدة عن الطوائف. مصر بعد ان سال الدم مريراً في بورسعيد وحول الاتحادية بتنا نضع أيدينا على قلوبنا لنجدها أيضاً على شفا انقسام.

لن نتحدث عن لبنان الذي لا تقوم فيه دولة ولا يقوم مجتمع. لنقل انتهى زمن النشوة، لربما كانت كاذبة، لربما كانت تخرصات وخيالات. نتساءل فعلاً هل انتهت السكرة. هذه الفكرة عن نهضة مجتمعات من الحضيض ومن الخدر الشتوي عن قيامها من البيات، عن دخولها إلى العصر وإلى الزمان، عن دخولها إلى السياسة وإلى التاريخ. هذه الفكرة لم تكن هراء ولم تكن وهماً وخداعاً. الوقائع تقول غير ذلك. حملت الانتفاضات في شتى الأمكنة عنوانا واحداً هو الحرية، هو الحراك الشعبي، هو قوة الشارع، قوة الحشد، قوة الشعب وقلنا يومذاك انه زمن ابتكار الشارع، ابتكار الشعب، ابتكار الصراع السياسي، ابتكار السياسة، ابتكار الضغط الشعبي.

قلنا يومذاك ان شيئا سبق تخيلاتنا حدث، ان ما لم يكن في الحسبان ولم يكن في التصوّر ولا التوقع حصل، لكن هذا حصل فعلاً، بل حصل بأضرى ما يكون وازخم ما يكون. حصل بانفجارات حقيقية وبما يشبه الزلزال، ملايين استنفرت وملايين نزلت إلى الشارع وبقيت في الشارع تسهر وتراقب. ملايين تسيست وانخرطت في الصراع، ملايين تظاهرت وتعبأت، وشعوب بقضها وقضيضها في الساحة والميدان، شعوب لا حدود لاندفاعها ولا تضحياتها. وقدرة على المجابهة وبأي ثمن كان وإلى أي مدى كان وبدون حدود وبقدرة على الاحتمال والصمود تتحدى الزمن وتتعدى القوة وتتحدى المخاطر. قدرة تحد خارقة بل واعجازية وملحمية، بحيث ان السنين الأخيرة كانت بحق سنوات ملحمية وبحيث اننا لم نعرف بأي سرعة وأي زخم يركض تاريخنا، حتى اننا صدقنا واحدة من الخرافات السياسية التي فات أوانها، صدقنا تلك الخرافة عن حرق المراحل وتلك الخرافة عن تسريع التاريخ. لم نصدقها عبثا ولا توهما فقد كان أمامنا انفجار حقيقي وكان أمامنا صمود لا مثيل له وقدرة على المقاومة والمجابهة لا حد لهما.

كان أمامنا ولا يزال وإذا كان ما أمامنا بهذه المقادير وبذلك الحجم وبتلك السرعة فإن السقوط الذي قد يضمره سيكون أيضاً هائلاً، سيكون تدهوراً بأكبر الأحجام وبأكثر سرعة ممكنة. لكن هل يتضمن فعلاً احتمال السقوط وهل نحمل معنا شبحنا، لعنتنا من الأقصى إلى الأقصى، ومن النقيض إلى النقيض، فنعجز عن ان تكون في ساعتنا وفي زماننا، ونعجز عن ان نحقق نهضة، ونعجز عن الدخول الحقيقي في السياسة ولا نستطيع ان نؤسس لمجتمع ودولة، ويكون قدرنا المشؤوم هو الانقسام والتشعث ونغرق من جديد في حروبنا القبلية، أيا كان اسمها، ولا ننتبه إلى ان الانفجار يحمل معه إلى السطح كل تخلفنا التاريخي وان بإحجام تراجيدية هذه المرة، وبأثمان مخيفة وبنهايات مشؤومة وملعونة.

هل هي لعنتنا نفسها وان على نحو مقلوب. هل هو تخلفنا ينتقم منا ويثأر على الوجهين، ينتقم في حال البيات والكسل والحذر كما ينتقم في حال الانفجار والانتفاضة، بل أن الانفجار والبيات يكادان يحملان الشيء ذاته، التخلف واللاتاريخية والحياة خارج العصر وخارج الزمن وخارج التاريخ وخارج المجتمع وخارج الدولة وخارج السياسة. إذا صح ذلك، ولن يصح تماماً، فإن ما حملته الانتفاضة كان الجذور نفسها والعناصر نفسها والمسائل نفسها التي قامت عليها. لقد غلى القدر وانفجر ولفظ كل ما في جوفه. هكذا تكون الانتفاضات العربية سرعت في انتشار الوباء والأوبئة، وحولت إلى الفعل كل الإمكانات التي كانت موجودة بالقوة ودفعت إلى الامام كل الانقسامات المدفونة في تراثنا. كأن ما بين السنة والشيعة ظل راكداً، كما هو تاريخنا الحالي، طوال هذه السنين حتى جاءت الفورة فأخرجت إلى العلن عُقداً تأسست منذ قرون وظلت ماثلة وجارية طوال قرون.

هل الأمر هو كذلك وهل كان شعار الحرية مجرد عنوان لمشكلات وجدت قبله بقرون، هل كان الحشد الشعبي والمظاهرات المليونية إطاراً لفورات قبلية عشائرية، وهل كان التسييس السريع والتعبئة السياسية مجرد عنف طغت عليه عقد متأرثة ونعرات ألفية، لا املك جوابا قاطعاً لكني لا اميل إلى هكذا تفسير، احسب ان فيه الكثير من كره الذات، وكره الذات والاستهتار بها هما بدون شك الوجه الآخر والمقلوب لنرجسيتنا المجروحة ولخصامنا مع العالم. لا اميل إلى هكذا تفسير فأنا لا أظن ان مطلب الحرية كان زائفاً. كل ما نعرفه يؤكد انه قام في مواجهة قمع دام عقوداً واستبدالية للجمهور والشعب قام بها الحزب أو المخابرات طوال عشرات السنين. حتى ان في وسعنا القول ان طور الحرية جديد في تاريخنا، بمعنى انه رغم تبجحنا بالنضال ضد الاستعمار فإن الحرية كحق للأفراد جديدة علينا. لقد كان المجتمع في أفضل تصوراتنا جيشاً مرصوصاً وما يتهدده هو الطابور الخامس أي المختلف والحر، ثم ان خروج الشعب إلى الشارع بدون استبدال له أو نيابة عنه، خروجه بقوته وحدها وشعوره بقوته وحدها هما أمران جديدان علينا. اقتضت المعارك الوطنية والقومية الصف الواحد والقائد الواحد. ما يحدث الآن يرمي خارجاً بكل تراثنا السياسي والنضالي وبكل فكرتنا عن الأحزاب والنخب. ما نسميه نخباً الآن لا يصدر عن تلك القطيعة بين الأحزاب والشعب بل يصدر، في الغالب عن ترابط عضوي وحي بين النخب والشعب، ثم إن الصمود والتضحيات هما الرد الراديكالي على تراث من القمع، لا يخطر ان تكون هذه الانتفاضات هياجاً وغليانا وإفرازاً بالتالي لتخلفنا الدهري، لا يخطر ذلك، انها بداية طور جديد ولن يحدث ذلك كما لو كنا في فصل مدرسي. طور جديد وسيتم بقدر من العماوة والاختلاط والتشتت وسيخرج معه إلى السطح كل ما اختبرناه وما تمرسنا به في تاريخنا. سيخرج الكثير من الجذور والكثير من الرواسب، والكثير من النعرات والكثير من الانقسام. لكنه مع ذلك طور جديد، جديد في وجهته وافقه وليس في يومياته ولا في راهنه ولا في تفاصيله. سنقول ان المستقبل بدأ من الآن لكن مع ذلك، ولاعتبارات كثيرة، فإن أيدينا على قلوبنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى