أين الخلل؟/ علي العبدالله
أعاد مرور الذكرى السادسة لانطلاق الثورة السورية الحديث عن التعثر الذي أصابها ومنعها من تحقيق أهدافها، وعن العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تسببت في ذلك بأخذها في مسارات لا تتفق مع طبيعتها(ثورة شعبية على الاستبداد والفساد) وأهدافها(نظام جديد يعيد للمواطن حريته وكرامته بتحقيق العدالة والمساواة)، ودورها في خلق حالة الاستعصاء الراهنة رغم الثمن الباهظ الذي دفعه المجتمع والدولة السوريان.
لعب العامل المحلي، على عكس الشائع الذي روجته قوى المعارضة، الدور الأبرز في عرقلة مسيرة الثورة عبر العقبات التي أفرزها الواقع السياسي الذي شكله النظام الحاكم على مدى عقود، من جهة، وبُنى الثورة السياسية والتنظيمية والإدارية والمآزق التي دخلتها بسبب السياسات والممارسات التي اعتمدتها والتي عكست وبدقة ملحوظة نقاط الضعف والقصور والعجز التي عرفتها، من جهة ثانية.
انطوى العامل المحلي على مستويات وأبعاد كثيرة وخطيرة لا تتعلق فقط بظروف انطلاق الثورة ومساراتها المعقدة بقدر ما ترتبط بالحالة الوطنية والاجتماعية التي ترتبت على سياسات النظام، وخاصة في العقدين الأخيرين من عمره المديد، وردود فعل القوى السياسية والاجتماعية عليها، والتعبيرات النظرية والعملية التي أخذتها هذه الردود، وأول مستويات العامل المحلي وأبعاده سياسات الهوية التي اعتمدها النظام ونتائجها: تكريس الممارسات السلطوية، عبر اعتماد قاعدة السياسة أمن للتعامل مع المجتمع، ما رتب هيمنة الأجهزة الأمنية على السلطة والمجتمع، وشرعنة رعاية الفساد عبر المحسوبية والمحاباة والاستدراج، ما رتب وضع اليد على الدورة الاقتصادية ونهب المال العام، وتربية أجيال كاملة على الاعتقاد بأن الولاء للبلاد يعني الولاء للحزب، أو النظام، أو القائد، وضخّ جرعات من التطرُّف في الخطاب الحزّبي الرسمي لدرجة إضفاء الشرعية على العنف السياسي أو المذهبي، ما شكّل أرضا خصبة للتطرّف والإرهاب، فالخطاب السياسي المتطرّف مدخل طبيعي إلى التطرف الديني. وهذا مع شيوع مظاهر البذخ والترف التي تمتعت بها النخب الحاكمة ومحيطها العائلي، وغياب القنوات القانونية لمعالجة المظالم، وإغلاق جميع منافذ التعبير عن الرأي، أسفر عن انعدام ثقة المواطنينً بمؤسسات الدولة وحيادها، وعن تدمير النسيج الاجتماعي للبلاد بدفع المواطنين تدريجيا إلى تبنّي أطر ضيقة لتعريف الهوية، يرتكز أساسا على الدين، أو القبيلة، أو المنطقة، بوصف هذه المكونات وسائط أكثر فعالية لمعالجة مظالمهم، ما أدى إلى انهيار قيم التعايش والتعددية، وتعاظم إحساس المواطنين بالاغتراب، وسيادة أشكال التذرر الاجتماعي والوطني والديني والمذهبي. فقد انهارت فكرة وجود هوية وطنية سورية ومعها مفاهيم المواطنة الحديثة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات لكافة المواطنين، وهذا لم يُبق للفاعلين السياسيين والمواطنين على السواء مجالا لإنجاز التفاهمات والمصالحات، فكان الانفجار العظيم تعبيرا عن رفض المواطنين الحاسم للعقد الاجتماعي الذي فرض عليهم بالقوة والقهر والإذلال.
على الضفة الأخرى، ضفة المجتمع، بيّنت الوقائع أن الظلم والقهر والإذلال، ثمرة سياسات النظام وممارسات مؤسساته السياسية وأجهزته الأمنية، لم تنعكس سلبا على بنية الدولة فقط، التي غدت هشة بسبب تنحية الأسس الدستورية والقانونية في إدارة شؤون البلاد واستبدالها بقيم التمييز والاستئثار والاستنساب ما أدى إلى الانهيار المؤسّسي والاجتماعي، بل وامتد أثرها السلبي عميقا في المجتمع بتكريس الاستقطاب فيه، ومفاقمة النزعة الطائفية، وتحفيز نزعة العنف في أوساط الجماعات المهمشة والمحرومة، وتراجع فرص الوصول إلى التسويات أو المصالحات السياسية إلى الصفر ما زاد في حدة العجز الاجتماعي والاقتصادي.
عكس انفجار الغضب الشعبي الشامل حالة التوتر والاحتقان الكبيرة التي نجمت عن سياسات النظام والتي طال حبسها وتحاشي ظهورها حتى بلغت درجة الغليان والانفجار التلقائي، كان رئيس النظام السابق قد نجح في امتصاص الحالة واحتوائها عبر سياسة قائمة على ثنائية استخدام القوة العارية واللعب على المواقف وردود الأفعال بإدارة توازنات للمصالح والأدوار وتوزيع الصلاحيات والمنافع بين القوى الاجتماعية والاقتصادية في العاصمة والمحافظات الأخرى مكرسا عقدا اجتماعيا مفروضا لا يحقق العدل والمساواة ما جعله عرضة للتآكل والانهيار، وهذا ما حصل في ظل رئيس النظام الحالي وقراراته وممارساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في حين عكس الانفجار الشعبي حقيقة المجتمع وانقساماته السياسية والاجتماعية والدينية والمذهبية التي بُذرت ونمت وترعرعت وتجذرت برعاية غير كريمة من نظام الاستبداد والفساد. وقد تجلى ذلك بوضوح في النزعة المحلية الضيقة التي حكمت تشكيل التنسيقيات ومنظمات المجتمع المدني بداية والكتائب المسلحة تاليا، وتعثر كل محاولات التوحيد إن على صعيد المنظمات المدنية أو الكتائب المسلحة، حيث عجزت عن تشكيل كيانات جامعة بقيادة وطنية واحدة، فقد بقيت القوى مشتتة والجهود والإمكانيات مبعثرة، ما رتب بروز مراكز قوة وسلطة أمر واقع وقرار وتمثيل متعددة ومختلفة إلى حد التناقض، انسحب ذات الموقف على المعارضة السياسية بأحزابها وكياناتها الائتلافية التي لم تبلغ درجة التحالف الشامل، وقد زاد انخراط القوى والدول في الصراع في سوريا في تكريس وتعميق الانقسامات والتشتت في ضوء سعي هذه القوى والدول لامتلاك موطئ قدم ونفوذ في المشهد السوري واستثمار ذلك في تحقيق مصالح خاصة لا علاقة لها بالثورة السورية وتطلعاتها وأهدافها.
وأما المستوى الثاني من مستويات العامل المحلي فتجلى بتمسك النظام بالسلطة ورفضه كل مطالب التغيير بغض النظر عن طبيعتها وحجمها ولجوئه إلى القوة المباشرة في مواجهة التظاهرات السلمية قبل حمل السلاح لحماية التظاهرات من بطشه وتشكل كتائب الجيش السوري الحر، وعمله على كسر إرادة الثوار وإعادة المجتمع إلى بيت الطاعة ومواصلة الحكم بذات الصيغة التي فجرت الغضب الشعبي، مع عدم حساب لخط رجعة وترك فرصة لمصالحة وطنية حيث كان رده على كل المآزق الميدانية التي واجهها الهروب إلى الإمام واستدعاء قوى خارجية(دول ومنظمات) لمساعدته على استعادة السيطرة على المدن والبلدات والقرى التي خسرها وتثبيت سلطته دون اعتبار للنتائج الكارثية على البلاد والعباد، وضياع السيادة الوطنية على مذبح إنقاذ النظام، فالمهم سحق الثورة والبقاء على كرسي الحكم.
تجلى المستوى الثاني على الضفة الأخرى، ضفة المعارضة، بغياب توافق على أهداف الثورة وأدواتها في الوصول إليها حيث انبرت أطراف المعارضة، كل من موقعه، مدني(تنسيقيات) سياسي(أحزاب المعارضة التقليدية) فصائل مسلحة، فرض تصوره باعتباره المعبر الصحيح عن أهداف الثورة وأدواتها دون تنسيق أو تشاور مع بعضها أو مع القوى الفعلية للثورة (المتظاهرون)، فالتنسيقيات قالت أن أهداف الثورة نظام ديمقراطي على قاعدة المواطنة وعمّمت وصفها لها بثورة الحرية والكرامة، وتبنت الخيار السلمي(برنامج لجان التنسيق المحلية نموذجا)، وأحزاب المعارضة التقليدية (التجمع الوطني الديمقراطي، دخل في تكوين هيئة التنسيق الوطنية، إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي) اعتبرتها تنفيذا لمطلبها بالتغيير الديمقراطي الذي تبنته قبل اندلاع الثورة، اختلفت على الأدوات بين رفض السلاح بداية ثم القبول به (هيئة التنسيق)، وترك تحديد الأدوات للثوار ومباركة خيارهم(إعلان دمشق)، بينما لم يتح لقوى الثورة على الأرض إعلان موقفها لأنها كانت في الساحة تواجه الموت بصدور عارية، ولم يكلف الآخرون أنفسهم عناء السعي لاستطلاع رأيهم والاتفاق معهم على إعلان موحد. وقد زاد الطين بلة بروز التيار السلفي وتشكيله فصائل مسلحة وتبنيه إقامة دولة إسلامية تنفيذا “لشرع الله”، أو خلافة على نهج النبوة، وكسبها حواضن شعبية واسعة بالبناء على ما زرعته دعوات السلفية العلمية(النظرية)، التي عملت برضا النظام في ضوء سعيه لمحو أثر حركة الإخوان المسلمين، وما نقله العاملون السوريون في دول الخليج من ممارسات دينية على المذهب الوهابي وعكسوه في مدنهم وبلداتهم وقراهم، ناهيك عن تحقيقها انجازات ميدانية كبيرة. كل هذا قبل أن تظهر منظمتا “النصرة” و “داعش” وتفرضان رؤاهما على المجتمعات التي بسطت سيطرتها عليها.
لقد قاد فشل قوى الثورة، السياسية والعسكرية، في تشكيل قيادة وطنية موحدة ليس إلى عدم تنسيق وخوض معارك محلية وتباين البرامج والخطط فقط بل والى التنافس السلبي من اجل استقطاب دعم خارجي من خلال تحقيق مكاسب ميدانية، أو ادعائها، وتوفير مصادر دعم مالي وعسكري والاستئثار به والدخول في مواجهات جانبية لحماية هذه الإمكانيات أو من اجل الاستيلاء عليها بقوة السلاح من الفصائل التي تلقتها من الداعمين الخارجيين. ما رتب تشظي العمل العسكري والإداري وتكرسه على أساس محلي ضيق وتعرض الفصائل المسلحة المشتتة والمبعثرة إلى ضغط عسكري من قبل قوات النظام وحلفائه ومحاصرتها في جزر معزولة وتصفيتها أو إجبارها على الدخول في مصالحات تقيّدها أو تُخرجها من الصراع، والى تقويض نفوذ ودور المستوى السياسي، المجلس الوطني السوري بداية ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وأخيرا الهيئة العليا للمفاوضات، وإضعاف موقفه في مواجهة ضغوط الخارج ومؤتمرات التفاوض، والى تراجع الدعم الخارجي والمراهنة على المعارضة كبديل سياسي للنظام.
المدن