أيها العلويون مستقبلكم أغلى من بشار الأسد
منذر عيد الزمالكاني
إنه نظام عائلي طائفي، بكلمتين اثنتين يمكن وصف النظام في سوريا منذ نشأته الأولى وحتى اليوم، وهذا ما اعتمده الباحثون العرب والأجانب، وأهم من ذلك هي خبرة السوريين أنفسهم واللبنانيين والفلسطينيين معه لأربعين سنة أو تزيد، فهو عائلي طائفي، وليس طائفيا عائليا، أي بتقديم العائلة على الطائفة، فالطائفة تلحق وتحيط وتحمي العائلة، فهي تماما كالغلاف المحيط بالنواة يحميها ويؤمن بقاءها. وبمعنى سياسي، الطائفة أداة في خدمة العائلة لإحكام النفوذ والسيطرة وضمان البقاء، ولكن عند التولي أو التمرد فالسجن حتى الموت أو القتل هو المصير.
وبمقارنة سلوك النظام مع رفعت الأسد، ومع كل من علي حيدر، وغازي كنعان، أو حتى صلاح جديد الذي كان وراء تمكين حافظ الأسد في الجيش، وهو من أعاد إليه مكانته بعد استبعاده من قبل آخرين، نجد هذه الحقيقة جلية وواضحة، وهذه السياسة هي عند الأب والابن سواء، فقد تم عزل علي حيدر رغم خدماته الجليلة للنظام بسبب انتقاده لباسل الأسد، وتم قتل غازي كنعان رغم كل ما قدمه للنظام في سوريا ولبنان بسبب خلافه مع بشار الأسد على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن رفعت الأسد، صاحب التمرد الأخطر ومحاولة الانقلاب الأكبر في حياة حافظ الأسد، لم يتم سجنه ولا قتله، بل تم مجرد استبعاده من سوريا، وحتى دون عزله من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، فقط لأنه من العائلة، ولم يكن يسمح حتى بإطلاق كلمة خائن عليه أو عميل، أو أنه متعاون مع الغرب، رغم أن ما أقدم عليه في الثمانينات كان من أكبر ما هدد حكم حافظ الأسد، وذلك بسبب انقسام الولاءات في الطائفة العلوية، قسم مع حافظ الأسد والآخر مع رفعت الأسد، ودخول الطائفة العلوية في صراعات هددت وجود العائلة.
لا أريد في هذا المقام قراءة التاريخ السوري المعاصر بعد الاستقلال حتى لا نستذكر المآسي، ونستذكر غفلة وبلاهة أغلب حكامنا في تلك الفترة التي شابت وطنيتهم الصادقة بلا شك. لكن أحب أن أذكر بأكبر عملية تطهير قام بها صلاح جديد وحافظ الأسد للجيش الوطني السوري (هكذا يجب أن يكون اسمه) من الضباط السنة، وأقول كلمة تطهير، لأنها كانت كذلك، وهكذا وصفها كبار الباحثين في الشأن السوري، وهذا ما دلت عليه النتائج بالأمس واليوم، فلولا تطهير الجيش من الضباط السنة لما استطاع حافظ الأسد وصلاح جديد من القيام بانقلاب 1966، ولما استطاع حافظ الأسد بعد غدره بصلاح جديد من القيام بانقلاب عام 1970، ولما استطاع بشار الأسد من وراثة الحكم عام 2000 ميلادية. حكام مغفلون تمرر عليهم أكبر جريمة بتاريخ سوريا يدفع ثمنها اليوم مئات الآلاف من أحفادهم.
والمشكلة لم تكن أبدا في العلويين أنفسهم في مرحلة ما قبل ثورة 15 مارس (آذار)، فالثورة لم تقم ضدهم أصلا، بل المشكلة كانت في النظام نفسه وفي بنيته وسلوكه، لكن خلال مسيرة الثورة كانت المشكلة وما زالت في العلويين أنفسهم أكثر مما هي في النظام وذلك بسبب انحيازهم إلى جانبه وربط بقائهم ببقائه. وهذا لعمري خطأ كبير يدل على القراءة السياسية غير الرشيدة لوجهاء الطائفة العلوية وكبرائها، أو أنه يغرر بهم من قبل النظام أو أطراف إقليمية أخرى، وفي كلتا الحالتين فإنها لا تنذر بخير لا على الطائفة ولا على سوريا إذا ما استمر هذا التوجه لديهم وتجاهلوا الحقائق على الأرض التي تتلخص في ثلاثة بنود هي:
1) النظام في سوريا، طال الزمن أم قصر، زائل لا محالة، فالشرعية انتفضت عنه محليا وعربيا ودوليا، لكن العلويين باقون كأحد مكونات الشعب السوري شاء من شاء وأبى من أبى. وهذه الحقيقة أتمنى أن يدركها العلويون أكثر مما يدركها غيرهم، وأن يعملوا ما تمليه عليهم هذه الحقيقة القدرية لا ما يمليه عليهم النظام، أو أطراف أخرى سيجدونها سرابا.
2) سوريا ليست لبنان أو العراق من حيث التنوع الطائفي لبنيتها الديموغرافية، ففي لبنان والعراق توجد بنية ديموغرافية ذات تنوع طائفي متوازن إلى حد كبير، وبمعنى سياسي، العراق ثنائي القطبية، ولبنان متعدد القطبية طائفيا، وهذا ما أمد بعمر الحروب الطائفية فيهما وأخرج الطوائف جميعا بلا غالب أو مغلوب، أما في سوريا فالوضع مختلف تماما حيث يوجد سواد سني ساحق (أحادي القطبية) لا ينازعه أي تكتل آخر، جاعلا أي حرب طائفية محتملة لها نتيجة واحدة، وواحدة فقط، ألا وهي غلبة الأكثرية على الأقلية مهما تحصنت هذه الأقلية أو تلك بما عندها من سلاح أو عتاد، ومهما كان الدعم الخارجي لها كبيرا. لأن العامل الديموغرافي يبقى السلاح الأقوى، فهو الحقيقة وهو الواقع الأبقى.
3) فكرة تقسيم سوريا وقيام دولة علوية أمر لا يمكن تحقيقه، فمشكلة التمركز والتوزع الطائفي في سوريا معقدة جدا، وقبل التفكير في مشروع قيام الدولة يجب دراسة عوامل أمنها وبقائها ومقومات وجودها من دخل وموارد وغير ذلك، إضافة إلى أن تقسيم سوريا يستدعي إعادة تقسيم الدول المجاورة، وخصوصا لبنان والعراق، بسبب الامتداد والتعقيد الإقليمي للطوائف الدينية والأطياف العرقية المكونة لهم جميعا.
إذن فالعيش المشترك هو قدر الشعب السوري، ومن هذه الحقيقة وإليها يجب أن تنطلق رؤية وسياسات زعماء الطوائف وكبرائها، وخصوصا الطائفة العلوية، وأن يجعلوا من قدر التعايش طريقا نحو التواؤم والبناء لا التدمير والفناء.
الشعب السوري واحد، هكذا ردد السوريون منذ اليوم الأول لمسيرة ثورتهم العظيمة، نفوا عن أنفسهم الطائفة والعرقية، علت أصواتهم بالوحدة الوطنية وأثبتوها عملا حقيقيا بعد عام على الثورة. ولم يستجيبوا لدعوات النظام الاستفزازية والمتكررة دوما للوقوع في براثن الفتن والاقتتال، أثبتوا أنهم رجال المرحلة، وأنهم أطهر من أي نزعة انتقامية ذات صبغة طائفية، أعلنوا أنها ستكون بعد الثورة فتنة أهلية لا طائفية، كما قالت الأستاذة الفاضلة نوال السباعي، بمعنى فتنة بين الثوار المنتصرين وبين المتآمرين والمتخاذلين، كل مع عشيرته وأهله. فأهل درعا مع فاروق الشرع وأقرانه، وأهل دمشق مع وليد المعلم، وأهل حلب مع أحمد حسون، والكرد مع البوطي، وهكذا. إنها معركة كل الشرفاء ضد كل المتخاذلين.
كان أقصر طريقا على الثوار أن يعلنوها ثورة طائفية لو أنهم أرادوها كذلك لا أن يخفوها، لأن النظام سيرد عليهم طائفيا، وهذا ما كان سيسرع من انكساره وسقوطه. وعندما تكون المسألة طائفية فالكل يعرف طائفته، والكل يعرف موقعه، وما هو عمله، لكنها لم تكن كذلك، ولن تكون طالما سادت الحكمة والتعقل، وقبل كل شيء إدراك سوء العاقبة.
* باحث في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز بالمملكة المتحدة
الشرق الأوسط