أيها الكاتب العربي الناشئ، كيف تنشر كتابك؟/ محمود عبد الغني
عالم النشر صغير، لكن أسراره ومسالكه كثيرة ومتشعبة، ما يجعله متسعاً وشاسعاً، بل وغامضاً بالنسبة للعديد من الكُتّاب، خصوصاً المبتدئين. الطريق طويل أمام كاتب يريد نشر كتابه. الشيء الذي يجعل من معرفة هذه المسالك وقواعدها العامة شيئاً ضرورياً بالنسبة لكل كاتب. هنا نقدم الخطوط العامة لهذا المسار الذي يزداد تشعباً يوماً بعد آخر، كما نشير إلى الفخاخ الصغيرة التي يجب اجتنابها لتيسير الطريق للكتاب نحو ناشره. وسنعتمد على تجربة شخصية في النشر، كما على تجارب كُتاب أصدقاء، واعترافات ناشرين عرفناهم عن قرب، وملفات نشرتها بعض المجلات والصحف العالمية.
كيف تقدم مخطوطتك للناشر؟
الرزانة، والوضوح والأناقة هي ثلاث قواعد من ذهب يجب أن يحترمها كل مخطوط إذا أراد أن يُقبل من طرف أعضاء لجنة قراءة المخطوطات المعتمدة من طرف الناشرين. ففي أيام الكتابة بالأقلام كانت لجان القراءة تعيد المخطوط إلى صاحبه داعية إياه إلى كتابته على الآلة الكاتبة. وقد كان هذا الرفض يتضمن دعوة إلى الكاتب لإصلاح الأخطاء. وقد يصاحب ذلك ملاحظات من قبيل احترام المساحة بين السطور، وعدم الكتابة على ظهر الورقة. كذلك يجب أيضاً، وبشكل قطعي، اجتناب التشطيبات. وما التشطيب في نهاية المطاف سوى تغيير للفظة، أو تراجع عن تعبير، لذلك فهو أمر محبب عند الكُتّاب، فـ “غوستاف فلوبير” مثلا ظل يُعتبر أستاذ التشطيب في الرواية الفرنسية، وقد كانت رواياته مليئة بالتشطيبات، لكنه كان يتجنب إرسال مخطوطات مليئة بالتشطيب إلى ناشره احتراماً للقاعدة الذهبية التي أشرنا إليها أعلاه: الأناقة.
لكن الوجه الآخر لهذه المسألة، هو أن العديد من المحررين كانوا يرون في التشطيبات التي تشوب المخطوط علامة حسنة أو ميزة. فالمخطوط الذي لا يتضمّن أي تصحيح (النظيف) سيتم التخلي عنه، أو على الأقل تأجيل قراءته، لأن “نظافة” المخطوط تدل على شيئين: 1- الكاتب لم يُعد قراءة مخطوطه. 2- الكاتب لم يكن صارماً مع ما يكتب، مع ذاته.
عملية النسخ عادة يجب أن يكتسبها الكاتب. النسخ يعني وضع نسخة ثانية من المخطوط في قِمَطر الاحتياط. لأنه يحدث أن يفقد الناشر مخطوطتك، وهو أمر عادي، بالنظر إلى مئات المخطوطات التي تصل إليه. ومن باب اللباقة فعل كل ما يلزم كي لا يشعر القارئ لدى دار النشر أنه الرقم العاشر الذي يصل إليه نفس المخطوط.
عند الاستعداد لإرسال المخطوط يتردّد الكاتب في مسألة إرفاق كتابه برسالة، أو طلب، إلى الناشر. هناك آراء كثيرة في هذه المسألة، وهي تختلف باختلاف الناشرين في كل الثقافات. لكن بصفة عامة يُعتبر أمر إرفاق المخطوط برسالة دلالة على لباقة الكاتب وحُسن تصرفه. والرسالة هي سيف ذو حدّين، فلا يجب أن تكون طويلة، ومليئة بالإطراء، وألا تلح في الطلب. باختصار يجب أن تكون رسالة معتدلة، متزنة، لا تتجاوز حدود موضوعها: طلب نشر الكتاب إن لم ير الناشر مانعاً، ولا بأس أن ترفقها بوثيقة أخرى مستقلة عنها، وهذه الوثيقة تلعب دور “ملخص الكتاب”. ويجب هي الأخرى ألا تخلو من عبارات اللباقة، ومن معلومات عنك: رقم الهاتف، العنوان… لذلك كانت “مونيك نيمير”، المديرة الأدبية لدى دار النشر الفرنسية “ستوك”، تشعر بالقرف والاشمئزاز من رسائل كانت تأتي مصحوبة بمخطوط كتاب، فيها تضخم أنا الكاتب: “مخطوط كتابي هو فرصة لكم”. على الكاتب ألا يُشعر الناشر بأن كتابه، مهما كانت أهمية موضوعه واستثناء معالجته وقيمته الفكرية، سيوصل الناشر إلى القمم العليا، وأنه سيزيد من دخله المالي. رسالة من هذا النوع لا يقبلها الناشر إطلاقاً، وبسببها لن يقبل نشر الكتاب، ومعه الكاتب طوال مسار الناشر، سيدخل الكاتب إلى لائحة سوداء، كان سيتجنب دخولها لو تحلّى بالتواضع والاتزان. العديد من الناشرين وجدوا في رسائل الكتاب تجسيداً للتفاهة والضحالة الفكرية. إذن، المطلوب: رسالة قصيرة، لطيفة، معتدلة وفارغة من الادعاء.
وماذا عن صورة الكاتب؟ هل يجب أن ترسلها مع مخطوط الكتاب؟ لا، ليس ضرورياً. فإذا كانت ملامح وجهك مقلقة أو مثيرة لشعور سلبي، فإن الصورة تحتوي على خطر كبير، أو إذا كان الوجه قبيحاً، فإن شهوة قراءة المخطوط تتضاءل، وقد تنعدم كلياً. لذلك نجد ناشراً مثل “المتوسط” لا يلتقط صور المؤلفين إلا بعد الموافقة على النشر. وفي أحيان كثيرة يكون طلب صورة المؤلف من طرف الناشر مساوياً لطلب سنة ميلاده، فهو يريد معرفة عمرك عن طريق صورتك. وهنا لا تختلف اللعثمات الأدبية الأولى بين كاتب عشريني وآخر ستيني. هذا أمر تعيه لجان القراءة جيداً.
كيف تبعث المخطوط إلى الناشر؟
بواسطة أي وسيلة تبعث المخطوط؟ يبقى البريدان العادي والإلكتروني هما أضمن طريقة لإيصاله إلى أيدي الناشر. وعليك أن تنتظر من يوم إلى ثلاثة أشهر. فهناك كُتاب تلقوا خبر نشر كتابهم بعد ليلة واحدة، إذ عكف عليه محرّر الدار طيلة الليل، وفي الصباح تمّ الاتصال به لزفّ خبر قبول دار النشر. هذه حالات وقعت مع الأديب الفرنسي “جان- ماري غوستاف لولكلوزيو”، وميشيل ريو و”إيزابيل جاري” التي حكت عن مخطوط روايتها “رجل الجسر” التي أخبرها محرّر أدبي في دار “سوي” بعد يومين من استلامه المخطوط. وفي النشر العربي نعطي مثالاً دار النشر “الساقي” ببيروت التي تحترم موعد الرد على المخطوطات، والذي لا يتعدّى ثلاثة أشهر. هذا يعني من جانب آخر، عدم فعالية أن يحمل الكاتب مخطوطه بيده ويذهب ليسلمه للناشر مباشرة، فأغلبية الناشرين يفضلون إرسال المخطوط عبر الوسائل المتاحة والمضمونة، حفاظاً على مسافة موضوعية داخل عالم كل خطوة فيه محسوبة لصالح الكاتب أو ضدّه. فالناشر في هذه المرحلة الأولى يريد معرفة شيء قليل عنك. ودعه هو يتصل بك ليعرف عنك المزيد. كما أن الاتصال به هاتفياً أمر غير محبّب، بل قد ينفّره منك. لتتصور، أيها الكاتب، أن الناشر يستقبل في مكتبه عدد المؤلفين الذي هو عدد المخطوطات التي تستقبلها منشأته، ولتتصور أنه يردّ على كل المكالمات، وعلى كل الرسائل، إذا فعل كل ذلك فإنه سينتهي كناشر، وينقرض من الوجود. فساعده على البقاء بهذه الوسيلة السهلة والعظيمة النتائج: حافظ على المسافة الطيبة التي بينك وبينه. وهو سيطلبك لا محالة للاستفهام حول شيء في كتابك، غامض أو غير معبر عنه بالطريقة الأفضل… لا حاجة إلى الضغط عليه. لا حاجة إلى انتظاره في المقهى الذي يجلس فيه، أو الوقوف لانتظاره عند باب مكتبه، أو باب منزله، هذا تصرف يفهمه الناشر على أنه ضغط، بل تهديد لعمله الهادئ الذي يتطلب إيقاعاً معيناً من السكينة والوحدة. فكما كتبت مخطوطك وحيداً، فدع للناشر حصة من وحدته، إنه سيكرسها بدون شك لمخطوطك. وكل دقيقة على الهاتف، أو في المقهى، أو أمام باب المنشأة هي مجتزأة من المدة الزمنية لقراءة مخطوطك، أو مخطوط نظرائك من الكُتّاب. كذلك لا حاجة لك بدعوته لقضاء ليلة في مطعم “س” وقضاء ليلة مجنونة. سترهق ناشرك، وفي الغد ربما لن يذهب إلى مكتبه، أو سيذهب متأخراً ولا قوة له على العمل. لنتذكر ما كتبه إمبرتو إيكو عن طريقة كتابته لروايته الخالدة “اسم الورد”. حكى أنه التقى الناشر في مطعم واقترح عليه كتابة رواية بوليسية في 700 صفحة، ووافقه الناشر من دون أن يخوض معه في التفاصيل. وحين انتهى من اسم الوردة، أرسلها للناشر الذي غيّر أشياء كثيرة فيها منها العنوان، إذ إن إيكو كان قد وضع اسماً علماً، والناشرون الإيطاليون يرفضون نشر روايات عناوينها أسماء أعلام. وهذا درس في أن الناشر يحترم قواعده الذهبية، ولن يحيد عنها مهما كان.
لقد رُفض كتابك، ما العمل؟
سُئل بول أوتشاكوفسكي الرئيس المدير العام لمنشورات “بول” هل يستقبل كاتباً جاء ليقدم له مخطوطته بنفسه، فأجاب: لا، أنا لا أحب أن أرى الكاتب قبل قراءته. لماذا هذا الرفض؟ إنه لا يدل على تعالي الناشر على الكاتب، وقد سمعت الشيء الكثير عن هذه المسألة من أفواه كثير من الكتاب. وهذه فرصة لتصحيح الظن. حين يرفض الناشر رؤيتك قبل نشر كتابك، وقبل أي معرفة مسبقة بمخطوطتك وعالمها، فهو يتجنب قول أي شيء عن كتاب لم يقرأه بعد. إن تصرف الناشر هذا هو دليل صحة وعافية وعنفوان. مقابلتك لن تخدم مخطوطتك في شيء.
حين تحدث أوتشاكوفسكي عن أفضل ذكرى يحتفظ بها منذ اشتغاله في مجال النشر، استحضر حالة الكاتب “إيمانويل دارلي”. استقبل مخطوطة روايته “أطفال صغار”، وأضاعها. مرت سنة وعثر عليها صدفة تحت ركام من الأوراق. شرع في قراءتها وأنهاها بسرعة فائقة. كانت رواية جيدة ومتقنة من الناحية الأدبية. اتصل بالكاتب وأخبره بموافقة الدار على نشر روايته. لكن الشيء المفاجئ في هذه الحالة هو أن كاتب الرواية لم يبعث بها لأي ناشر آخر، ولم يتصل به منذ سنة. بقي ينتظر ردهم بهدوء. إنه شيء رائع وحضاري.
حين يُرفض مخطوطك، لا تنزعج ولا تحاول تغيير رأي لجنة القراءة. إن تصرفك سيكون بلا نتائج. وعليك أن تفتح آفاقاً واسعة في ذهنك عن أسباب الرفض. والرفض يكون قاطعاً؛ لا يوافق كتابك الخط التحريري لدار النشر. وغالباً ما يصلك الرد في ظرف يتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، وفي حالات كثيرة قد يطول الرد، أو لا يصل إليك إطلاقاً، هنا لا بد أن تتبع تصرف إيماويل دارلي. اهدأ في مكانك وانتظر. وحين يصلك الرد، وإذا كان إيجابياً فهنئ نفسك وانطلق مسرعاً في التفكير في تأليف عمل آخر، أما إذا كان سلبياً ومهما كانت الأسباب: 1- قرار لجنة القراءة، 2- مخالفة المخطوط للسياسة التحريرية للدار، 3- خطأ في تقدير الناشر، فلا يجب أن تطلب تقريراً مفصّلاً عن أسباب الرفض، أو لقاء مع الناشر. فلا شيء من ذلك سيحدث. فقد قلنا سابقاً إن الناشرين لا يقبلون الضغط.
أشياء تعرفها، لكنك ترفض سماعها
في حالة قبول مخطوطتك، هكذا تعمل لجان القراءة معك؛ سيمسك عضو اللجنة بقلم رصاص بيده اليمنى، وبكتابك بيده اليسرى. الأمر شبيه بطبيب يجس نبض كل شيء يخفق داخل المخطوط. سيضع الملاحظات، أو حسب الجاحظ: سيصلح الفاسد ويزيد الصالح صلاحاً، في النهاية، ولأن الناشر يعتبرك شريكاً في هذه العملية الكبرى، الخطيرة والحاسمة، سيطلعك على التغييرات التي يجب إحداثها في كتابك. لا ترفض، لا تتصرف بأسلوب أحادي، خذ المخطوط وأعد النظر في الاقتراحات الإصلاحية. وستجد، بدون شك، أن شريكك على حقّ. لكن الفكرة القابعة وراء كل ذلك هي الآتية: الناشر يدع لك فرصة ثانية لتأمل نصك. لأن الأخطاء، كيفما كانت، يمكن إصلاحها بألف طريقة، بما فيها، وعلى رأسها، أخطاء التعبير. وتأكد من شيء واحد لا جدال فيه: الناشر يتتبعك، ويدعو الله كي يوفقك في عملية الترميم الأخيرة. وهناك ناشرون يعون جيداً أن اللحظة المخيفة للكاتب هي تصحيح أخطائه وهو في عزلة معها، لذلك ستجده يراسلك من أجل إيناسك أو تشجيعك والاطمئنان عليك. ونادراً ما يرفض الكتاب اقتراحات الناشر. فحتى الكتاب المتشدّدون يعون أن هذه العملية هي تجميل للنص.
ضفة ثالثة