أي حماية للمدنيين ولا قفزة قريبة إلى «البند السابع»؟
عبدالوهاب بدرخان *
يقدم المبعوث الدولي-العربي كوفي انان خطّته بأن من شأنها تغيير واقع الأزمة ووقائعها على الأرض، ما يمهّد الأجواء لمقاربة «الحل السياسي». أما النظام السوري، فقبِل الخطة مع تحفظاتٍ تتجاهلها القوى الدولية إلا أنه يطبّقها بدقة متناهية. وفيما تلهج العواصم المعنية باستيائها من فشل شبه مضمون لـ «خطة انان»، يعتبر النظام أنه سبق وأبلغ هذا المبعوث بالكيفية التي ستسير عليها الأمور، فهو وافق على وقف اطلاق النار وليس في نيته أن يوقفه طالما أن هناك «ارهابيين»، وعلى مجيء المراقبين الذين يختارهم لينتشروا ويعملوا وفقاً لإرادة الدولة المضيفة، وعلى التظاهرات الشعبية شرط حصولها على تراخيص حكومية، وعلى دخول مساعدات إنسانية تمشياً مع أهواء السلطة التي لم تفكّر بإغاثة مواطنيـ»ـها» عندما دكّت منازلهم وحاراتهم، كذلك وافق على دخول اعلاميين ينتقيهم كالمراقبين من الدول «المحايدة» الداعمة للنظام ويلوّنهم بأفراد من دول اخرى، لكن أحداً منهم لا يتمتع بحرية التحرك… ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن النظام، خلافاً لمنطق «خطة انان»، ليس في صدد تغيير الوقائع على الأرض، بوجود مراقبين أو بغيابهم.
بعد خمسة عشر شهراً على الأزمة، ينبغي إبداء «الاعجاب» بنظام كهذا، استطاع اثبات استعصاء خلعه وإسقاطه. لكنه اعجاب سلبي، بطبيعة الحال، يثبت أنه أمضى كل العقود السابقة وهو ينسج العقبات أمام احتمالات تغييره، مستعدياً الشعب ومستهزئاً بواجباته في بناء دولة واقتصاد لجميع المواطنين. وبديهي أنها ذروة الاستبداد -والتخلّف السياسي- أن تتوقع أي سلطة تأبيد ذاتها بالبطش الداخلي والتهديد بالتخريب الخارجي، من دون أن تفطن لـ «توازنات» لا تتوانى حتى «المافيات» عن احترامها، صوناً للمصلحة، فآية الحكم أن يغيِّر أو يتغيَّر، ونظام دمشق حبس نفسه في متطلّباتٍ تَوَهَّمَها لبقائه المديد، فلا يغيّرها لئلا يتغيّر. كان بإمكانه لحقبةٍ ما أن يعيش على الشعارات (مقاومة اسرائيل بمهادنتها، وممانعتها مع السعي الى التفاوض معها) التي ساهم بقوّة في افراغها تباعاً من مضامينها، وأن يمرّر «علمانيته» أو «حمايته» للأقليات من ثغرات الاتجاهات الدولية (كتصفية «الإخوان المسلمين»، والتحكّم بلبنان، والتلاعب بالتناقضات الفلسطينية، والعبث بأمن العراق…)، لكن فشله الأكبر كان في ما يسمّيه جبهته الداخلية. والدليل أنه لا يفعل منذ 15 شهراً سوى برهنة أن الفشل لا بدّ أن ينجح لمجرد أنه متمترس وحاذق في لعب أوراقه، أو لأنه كان «حكيماً» حين اختار إفقار الشعب وتعجيزه، فها هو يجني ثمار تلك الحكمة، أو لأنه يواجه أخيراً مَن اعتبره دائماً عدوّه الحقيقي -الشعب– بل يحاربه كما لم يحارب العدو الاسرائيلي ولا مرة.
لا بدّ من استدعاء هذا الاعجاب السلبي أيضاً حين تتراءى حقيقة الانقسام الدولي، فمَن هم «ضد» هذا النظام لا وجود ولا نفوذ لهم في الداخل، وقد ظنّوا أن اداناتهم وانتقاداتهم يمكن أن تستحثّ لدى النظام حرصاً على سمعته وصورته، أو أن العقوبات كافية لحضّه على استعادة «أخلاقية سياسية» ازاء «شعبه» ربما حسبوه متحلياً بها. في المقابل توصل النظام الى تخويفهم تارةً بالسعي مع ايران الى تخريب النموذج التركي، وطوراً بزعزعة الاستقرار اللبناني، ودائماًً بـ «نموذج» الفوضى العراقية على حدود اسرائيل، وبالتالي يفضل مناوئوه رؤيته يضعف ويتقلّب في الفخّ الذي نصبه لنفسه، مستبعدين أي تدخل، حتى لو أنهم لا يضمنون عدم الوصول الى النتائج نفسها التي يتخوّفون منها لو قرروا التدخل. وهكذا، تبدو مواقفهم متناقضة معنًى ومبنًى، فعلى سبيل المثال تطالب الجامعة العربية بـ «حماية المدنيين» وتنأى بنفسها عن التلويح باللجوء الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مع علمها بأن تلك «الحماية» مستحيلة من دون إلزام النظام، أي من دون البند السابع. المثال الآخر أن اللقاء الأخير لـ «أصدقاء سورية» في باريس وضع البند السابع على الطاولة كأحد البدائل لفشل «خطة انان»، لكن «الاصدقاء» يعرفون أنهم في هذه الحال يجب أن يتوافقوا أولاً مع روسيا على تقويم واحد للخطة ولفشلها.
نأتي الى مَن هم «مع» النظام وقد انتقلوا من اصطناع الحياد بين القاتل والقتيل الى التفاني في الزود عن القاتل، ومن الصمت المريب خلال شهور القتل الأولى الى الصراخ بأعلى أصواتهم لتبرير استمرار القتل، فروسيا لم تعد ترى بدورها سوى «ارهابيين»، وتدعو -كما لو أن النظام ينتظر من يشجعه- الى محاربتهم. أما الصين، فمتوارية حالياً وراء الإجماع الملتبس حول «خطة انان»، لكنها لن تلبث أن تظهر لرفع اليد متى أَزِفَ موعد «الفيتو» المقبل. واذا أضفنا الانخراط الايراني الواسع والعميق في خدمة النظام، تتجلّى فاعلية أعداء الشعب السوري وتماسكهم مقابل عجز أصدقائه وتشرذمهم. من الواضح أن أصدقاء النظام، أو معظمهم، هم مثله أيضاً ضد شعوبهم، لذلك فإن قضيتهم واحدة ويهمهم أن يدافعوا عن نظام سوري غدا مثالَهم ونموذجَهم الأخير في المنطقة، ويتدخلون لمدّه بأسباب القوة ويتهمون الآخرين بالسعي الى التدخل، يُحبَطون متى تضاءل منسوب العنف اذا لم يقترن باستعادة النظام سطوته السابقة، يعرفون أنهم ازاء مريض ولا يعترفون بأن شراء الوقت له لم يعد مجدياً لإبرائه من أخطائه المزمنة أو من العلل المستحكمة بعقله السياسي.
من الصعب توقّع قفزة دولية بعد الخامس من أيار (مايو)، كما لوّح ألان جوبيه وزير الخارجية الفرنسي في اشارته الى موعد تقويم كوفي انان لمدى التزام نظام دمشق تنفيذ خطّته، فالقوى الدولية تريد اعطاء مهمة انان -والنظام أيضاً- مزيداً من الفرص في انتظار ارتسام توافق دولي، بالأحرى اميركي-روسي، لم تتضح معالمه واحتمالاته بعد، وليس مؤكداً أن لقاءً على هامش «قمة الـ8» بعد اسبوعين في كامب ديفيد سيكون حاسماً لترشيد الموقف الروسي في اتجاه ضغط مجدٍ على النظام السوري. لا شك أن لروسيا نفوذاً في سورية، لكنها تستخدمه لمناكفة الغرب ولم تختبره في الاتجاه الصحيح، لا لوقف القتل أو لإحداث تغيير جوهري في خيارات النظام. وللأسف، فإن ما استغرق أسابيع وأياماً لبتّه في مساعدة الشعب الليبي يحتاج في حال سورية الى شهور وربما الى سنين، ومع ذلك يبدي الشعب السوري استعداداً للمثابرة والصمود، وكل ما يقوله للقوى الدولية: أعطونا ما ندافع به عن أنفسنا، طالما أنكم لا تريدون التدخل لحمايتنا…
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة