إحتلال الفراغ/ ألينا عامر
لوكانت المدينة كائناً حياً بابنيتها وشوارعها، ازدحامها وهدوئها،مظاهر الحياة التي تغلي فيها وسكانها الاصليين ولللاجئين، الفقر والجوع والاستبداد والقهر الذي تشهده… ترى ماهي الطريقة التي ستختارها للتعبير عن مكنوناتها؟!
هم فنانون وهاوون مجهولو الهوية يتغلغلون في النسيج العمراني للمدينة ليس بهدف تجميلها بالمعنى المتعارف عليه انما ليعبروا عن افكارٍ محظورةٍ ليس من مصلحة الاعلام نشرها، التي وإن قام بنشرها، فإنه يهدف إلى توجيه الافكار وشحن المشاعر تحقيقاً لمصالح جهات معينة والتطرف ضد جهات اخرى. أما [هم] فلا يطلبون الفراغ، بل يحتلونه احتلالا فنيا وفكريا، جريئا ووقحا في بعض الاحيان، ليثوروا على واقع يعيشونه.
يأخذ فن غرافيتي فكرته من الرسم والتلوين على الجدران لتشكيل رموز مختلفة وصور، اما الستينسيل غرافيتي يُستخدم فيه قوالب مصنوعة من الكرتون او الورق المقوى، هو شكل من اشكال التعبير الفني ونمط من فنون السخرية والاستهزاء على مفاهيم سياسية واجتماعية على هيئة رسائل بصرية تقدم بصورة ساخرة ومتهكمة و صادم، واستخدامها ليس حكراً على الفنانين.
إذا رجعنا للتاريخ نجد أن هذا النوع من الفنون يأخذ جذوره من سلوك إنساني قديم؛ فتوثيق الاحداث والاساطير والممتلكات والشرائع الدينية على جدران الاوابد المعمارية ووحدات بنائها جار منذ العصور القديمة، وأقرب مثال الحضارة الفرعونية التي وثق أهلها تاريخهم وعلومهم على جدران الاهرامات وشتى المعابد.
إنَّ السلوك الانساني هذا مرتبطٌ بالخلود ويستمد فكرته من سعي الإنسان – وإن كان بسيطاً – لتخليد ذكراه وخوفه من الاندثار في عالم النسيان. فوثق وجوده وهويته واكّد عليهما في الأماكن التي سكنها أو زارها، هي صرخته التي يقول فيها “أنا هنا… أنا موجود! مررت من هذا المكان واحتلت جزءا من الفراغ وأطالب بطريقة غير مباشرة بالاعتراف بوجودي!”.
والملفت أن هذا السلوك لم يقتصر على حياته وإنّما شمل موته ايضا؛ فضوارح القبور موثّق عليها تواريخ الميلاد والوفاة اضافة الى اسمه واسم عائلته والمدّة الزمنية التي عاش فيها جزءاً ماديًّا وروحيًّا من الحياة.
تاريخ وهوية وأضواء شهرة
في سبعينات القرن الماضي وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسودها اضطرابات سياسية واجتماعية، ظهر نمط الغرافيتي الحر على جدران الابنية والاماكن العامة في مدينة نيويورك على يد فرق الروك حيث كانوا يبخون أسماء فرقهم للدعاية ولنشر ثقافة الروك بأسلوب يتحدى السلطات. ومع انتشار ثقافة الهيب هوب في الثمانينات، تطوّر الغرافيتي الحر إلى فن غرافيتي يشمل الفري هاند والستينسيل وله معالمه الخاصة وأسماء شهيرة مثل جون فيكنر وبلاك دي رات وأبوف.
إنَّ هوية فنانو الغرافيتي تبقى سرية نظراً للرسائل الجريئة التي ينشرونها؛ فهم يعملون على تحدي السلطات وإيجاد طرق لإيصال معاناة الشعب اليومية في بيئته من الفقر والجوع وغلاء الأسعار، إضافة إلى هدم الهالة الكاذبة لأيقونات شوهت الفكر البشري والمفاهيم الإنسانية أكثر ممّا أفادتها… ولكن من أهم رسائلهم مواجهة الطريقة التي يروّج بها للفن ونخبويته والأسعار المبالغ فيها التي يضعها الفنانون لأعمالهم، وانحصار دائرة من يستطيع اقتناء الأعمال على طبقة معينة.
أحد رموز فن الشارع هو بانكسي، أو روبن هود عصره كما يعتبره البعض، صاحب الأعمال غير القانونية والمحاربة من قبل السلطات لأنها نقلت نبض الشارع المهمش على جدران المباني وأشارت الى نقاط ضعف سياسة الدولة واعلامها… ولكن ألم يتغير المفهوم تماما عندما أقام معرضاً لأعماله وباعها بأسعار خيالية للنخبة التي كان يثور عليها؟ وعندما انتقل الغرافيتي من نبض الشارع الذي يعد جزءاً من تعريفه، وأصبح يقدم على قماش تحت أضواء صالات الغاليري، الأمر الذي اعتبره النقاد تقليلاً من قيمته ونوعا ما مبتذلاً؟؟ يروى بأن أحد الأشخاص بعث رسالةٍ الى بانكسي يطالبه ألا يبخ فنه على جدران حيّه لأنّه “لم يعد قادر على تحمل تكاليف الإقامة فيه من بعد أن أصبحت أعمال بانكسي على جدرانه”.
سلوك عدواني أم تعبير عن رأي؟
الجانب الآخر للغرافيتي عدا عن كونها ثقافة فرعّية تنقل معاناة الشعب وأفكاراً محظورةً هو… التخريب.
فتحدي السلطات له كأنه ورم يتفشى لا يكمن فقط كونها أفعالاً تخريبية تفرض وجودها دون موافقتها، وإنما يأخذ بعدا آخر هو الخوف من فقدان السيطرة على المجتمع. لقد وضع الباحثان والعالمان الاجتماعيان جورج ال كيلينغ وجيمس كيو ويلسون نظرية (الشبابيك المكسورة) التي تناقش هذا الشأن قائلة:
إن الحفاظ على الفراغات العمرانية في حالة تنظيمية جيدة يمكن أن يوقف ظاهرة التخريب في الحاضر والمستقبل .ويمنع حصول أعمال تخريب أكثر خطورة.
وقد ربطت هذه النظرية بظاهرة الجرائم في المجتمعات واقترح العالمان استراتيجية في نظرهم “فعّالة” وهي حل المشكلات الصغيرة قبل أن تتطور؛ كإصلاح النوافذ المكسورة في فترة زمنية قصيرة يقلل من ميول المخربين لكسر بقيّة النوافذ.
أمّا العالم الاجتماعي نيومان فقد طرح في كتابه (الفراغ العمراني) أنه على الرّغم من أهمّية العمل الذي تقوم به السلطات والجهات المختصة لمكافحة أعمال العنف، إلا أنه ليس كافيا من أجل خلق مدينة آمنة وخالية من العنف، فالمجتمع بجميع طبقاته يجب أن يكون له يد في الحدّ من الجرائم حيث سيسعى لحماية فراغاته والذود للدفاع عنها عندما يشعر بأنّ لديه استثمار فيها.
إذا نجد بأنّ الفراغات العمرانية المنظمة النظيفة والمحكمة القبضة من قبل السلطات تبث اشارة بأن العنف سيكون محاسبا عليه، وبالعكس الفراغات غير المنظمة التي تفقد الاعتناء تبث رسالة للمخربين بأن أعمال العنف لن تمر بدون عقاب منصف.
ولكن ماذا عن النسيج العمراني في مجتمعاتنا في ظل حكومات ديكتاتورية، هل شعرنا يوما بالانتماء لهذه الفراغات التي يكاد يكون الفرش العمراني الوحيد المكمل لها عدا عن الإعلانات هو صور للحكام وأبنائهم ومن يخلفهم؟! التأليه المستمر لشخصياتهم أمر تعودنا عليه منذ صغرنا، شعارات وعبارات مستمدة من سياسة أحزاب معينة وأقوال رؤسائها، وصور تنتشر في جميع الفراغات العمرانية والمعمارية العامة التي من المفترض أن تكون أماكن للتفاعل الاجتماعي… كأنّها تراقبنا أو تشرف على حياتنا وتذكرنا بوجودها.
ماهي طريقة تواصل المواطن العربي مع الفراغ في مجتمع يكاد يكون فيه حتى التفكير خارج النطاق المتعارف محاسبا عليه؟! فحرية التعبير من منسياتنا أما بالنسبة للإبداع في الشارع فهو جريمة بكل ما للكلمة من معنى!
وبالنسبة لنظرية (الشبابيك المكسورة) فهل أصبح من المنطقي حتى التنويه عنها عندما تستخدم السلطات الفراغات المعمارية لمحاربة أعدائها اللذين يشكل الشعب جزءا ليس صغيرا منهم؟
سلاح من نوع اخر
لقد احتل الغرافيتي والستينسيل غرافيتي دورا مهما في الشارع خلال الحراك السلمي للشعب في المدن العربية في السنوات الأخيرة لاسيما في سوريا التي عبر الغرافيتي فيها عن مطالب الشعب الاساسية وأهم حقوقه ولفت الانظار لأهميته قبل الأزمة؛ حيث ظهر شخصية الرجل البخاخ في مسلسل (بقعة ضوء) التلفزيوني للكاتب عدنان الزراعي، رجلٌ يبخ على الجدران ابسط الافكار التي حرمت على الشعب وينتهي به الامر في سجن مع علب بخاخ تعطى له اوامر في بخ ما يخطر بباله وثم تمحى فورا من على جدران الزنزانة.
إلى أن ظهر الرجل البخاخ على ارض الواقع في ظل الازمة واصبح لكل محافظة رجل بخاخ خاص بها، وتم التعرف على هوية احدهم بفضل الصحفي إياد شربجي الذي التقى به من بعد ان كان معتقلا وفقا لجريدة الاخبار.
لقد دعت الغرافيتي في سوريا لتحرير المعتقلين ونشرت صور لايقونات من الماضي تعبر عن الشهامة والنخوة والاستشهاد في سبيل حماية الوطن والديمقراطية والحرية السياسية مثل الرئيس شكري القوتلي وسلطان باشا الاطرش وابراهيم هنانو ويوسف العظمة… غرافيتي دعت إلى المجتمع المدني ونشرت رسائل لتصور المجتمع الذي سيلي الازمة، حتى أصبح مجرد شراء علبة بخاخ في سوريا يتطلب هوية وموافقة وتوضيح هدف استخدامها من قبل الشاري!
الغرافيتي محارب بشكل قاسي وتعسفي وتمحى بسرعة فائقة أو تعدل بطريقة مهينة وممكن ان تصل عقوبتها للسجن والقتل؛ باعتبار أنها تؤثر في وعي الشارع واللاوعي عنده، وقوتها تكمن في كونها رسائل من قبل اشخاص مجهولين حتى لو لم تكن على ذوق المشاهد لن يتمكن من الحقد على طرف معين بل من المؤكد انها ستحتل جزءا من تفكيره ولن يتمكن من دحضها لأنها تابعة لجهة شحن ضدها. ونظرا للتشدد الامني والعقوبات التعسفية التي يواجهها من يقوم بالغرافيتي، انتقلت من جدران المباني الى جدران الفيس بوك، حيث يؤكد اصحاب الرسائل انه “اذا كانت رسائلهم مستحيلة التنفيذ على ارض الواقع سوف ينشرونها في العالم الافتراضي”.
من يسير في احياء المحافظات السورية يشعر بان الصراع امتد لجدرانها، في كل حي نجد غرافيتي مؤيدة للنظام واخرى مناهضة له. والملفت للنظر أن حرب الجدران السورية امتدت إلى ما وراء الاطلسي، ففي مقاطعة اورنج كاونتي في ولاية كاليفورنيا الامريكية جدرانٌ حملت الانقسام في الازمة السورية.
في ظل الانقسامات التي تشهدها سوريا فكريا وسياسيا حيث لم يعد الصراع مقتصرا على طرفين انما تشعبت وتفرعت حتى بين صفوف الطرف الواحد، والكلمة الاولى والأخيرة هي لحامل السلاح، اصبح لدينا اكثر من طرف يعمل على مسح ما يكتب ضده… فبعد ان تعقدت الامور إلى هذا النحو: هل يمكن ان نامل ان يتحمل احد مسؤولية غرافيتي بعيدة عن الكره وعدم تقبل الاخر ومناشدة بمستقبل افضل ووقف القتل وقمع الحريات من قبل كل الاطراف؟! ما هو الحد الفاصل بين غرافيتي فنية تحمل رسائل معلنة ومبطنة وتتحدى السلطات وحملة لترويج افكار سياسية ودينية؟! هل رسائل الغرافيتي خالية من ارتباطها بجهات سياسية ودينية متطرفة؟! هل هي صرخة شعب ام تحديد لمساحات ملكية؟! هل هي خالية من الشحن العنصري؟ وهل في يوم ما ستكون صرخة خلود للإنسان العربي وتوثق الاحداث بعيدا عن مبدأ التاريخ يكتبه المنتصرون؟! كلها اسئلة اترك للقارئ محاولة الاجابة عليها…