صفحات الثقافة

مغامرة الترجمة… بين جحيم الممارسة ونعيم المآل!/ عبد السلام دخان*

 

 

هل استطعنا أن نبني تاريخا لفعل الترجمة ارتبطا بتاريخية الوجود الإنساني منذ اختراع الكتابة وما أعقبها من تحولات في مختلف مناحي الحياة، وهل يمكن عد تاريخ الترجمة جزءا من تاريخ العقل الإنساني؟

الترجمة ليست مجرد فعل أدبي أو تقني عابر، وليست مجرد اهتمام إنساني منعزل عن التطور الثقافي. فمن المفيد القول إنها جزء من فاعلية الفكر الإنساني، لكونها لا تقتصر على حقبة دون أخرى، أو مجال تعبيري دون آخر. لكن تمفصلاتها عصية على التحديد، لأنها تشبه المضي في رحلة الطريق الطويل الذي يجمع المترجم والنص والمؤلف. رحلة مفعمة بالمشكلات الإبستمولوجية لكون الترجمة تجربة هيرميونيطيقية تشيد علاقة مع المعارف المحتملة ومع النص على نحو ما حدده صاحب «نظرية التأويل. الخطاب وفائض المعنى» الفيلسوف بول ريكور بقوله «لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة. إن هذا التثبيت حسب هذا التعريف – أمر يؤسس للنص ذاته ومقوم له».

غير أن علاقة الكتابة والقراءة ليست علاقة تخاطب ولا هي حالة خاصة للحوار، إنها علاقة تبادل للسؤال والجواب، ومن ثم فليس هناك معنى مثالي، والمترجم مطالب بالانفصال عن إيديولوجية النص المطلق؛ لأن عالم النص هو عالم خيالي بمعنى أنه عالم حاضر بشكل تخييلي داخل المكتوب، يعوض العالم الذي كان ممثلاً ومصوراً بواسطة الكلام، غير أن هذا الخيال المكتوب هو في حد ذاته إبداع أدبي، إنه خيال أدبي.

إن التساؤل عن شروط عملية الترجمة بوصفها تأويلاً يجعلنا بصدد صراع بين سلطة النص والتأويل ذاته، بين الطابع الذي لا يمكن التحقق منه، وهو الطابع الذي يستمد التأويل من مفهوم الفهم الذي يلحق به والذي يطبعه بطابع سيكولوجي محض – ومن جهة أخرى، بين متطلبات الموضوعية المرتبطة بمقولة العلم ذاته الذي يتخذ من «الروح» موضوعاً للدراسة، لكن كيف يمكن التعامل مع النص الأدبي بدون عالم ولا مؤلف؟

الترجمة تقيم علاقات بالنص الذي يحتجب عن العالم الفعلي بواسطة العالم الخاص، ومن أجل المخاطرة بحياة النص الأدبي نجد أنفسنا أمام إمكانيتين: «إما أن نتروى باعتبارنا قراء داخل انغلاق النص، وأن نعامله كنص مستقل بدون عالم ولا مؤلف، والحالة هذه فإننا نفسره بواسطة علاقاته الداخلية، أي بواسطة بنيته الخاصة. وإما أن نرفع انغلاق النص وأن نكمله في شكل كلام وأن نعيده إلى قلب التواصل الحي، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا نؤوله». وكل ترجمة هي تأويل بواسطة اللغة، قبل أن تكون تأويلاً منصباً على اللغة، فهل الترجمة هي معاصرة للنص – الأم- ومماثلة له، وهل تتطلب الترجمة التخلص من الحمولة السيكولوجية وربطها بالعمل الداخلي الذي يمارس ذاته داخل النص؟

الترجمة هي مخاض للمعنى داخل النص، إنها عملية هيرميونيطيقية تعيد تنشيط القول الأصلي العميق للنص الأدبي. والصيرورة المعقدة للترجمة كتأويل هي رحلة بين الذات والموضوع، أما بين وعي وعالم. الترجمة تتم في اللحظة التي يتم فيها اختراق سياج المعنى ليتجه نحو ما يسميه هانز جورج غادمير «شيء النص» وذلك لمعرفة صيغة العالم التي ينفتح عليها النص. فالغاية في الترجمة ليس البحث عن قصدية مختبئة وراء النص، وإنما «البحث عن العالم المنبسط أمام النص». إنها صيغة الوجود الذي ينفتح عليه عالم النص وهو الإمكان أو الوجود الممكن. وإذا كان العرب قد مارسوا فعل الترجمة في مراحل مختلفة من تاريخهم مثّل «بيت الحكمة» أحد أوجهها الناضجة، فإن أصول هذا الفعل ربما تعود إلى مراحل مبكرة. واليوم نجد زمرة من المبدعين والكتاب العرب اشتغلوا بفعل الترجمة بموازاة نشاطهم الإبداعي والنقدي، تماشياً مع مشروعهم الفكري والجمالي.

ولأنها كذلك فقد أصبحت تفرض نفسها علينا بشكل كبير، خاصة مع انتشار الثقافة المعلوماتية وهيمنة الصورة بأشكالها المختلفة، غدت حكاية لتجربة اصطدامنا بحدود الذات وإخفاقاتها، وفي الآن نفسه آمالنا في الخروج من بوتقة الانسداد. وعندما لا نفصل اللغة عن الفكر، والدال عن المدلول، والشكل عن المعنى، ونتجه نحو فكر يعتمد ويتبنى مقولة الاختلاف، إذ ذاك لا تصبح الترجمة فقط عبوراً من لغة إلى أخرى، بقدر ما ستصبح تجربة إبستمولوجية وأنطولوجية. ومهمة المترجم بموجب هذا السياق ستكون شبيهة بالعمل الأركيولوجي، خاصة إذا تعلق الأمر بالأعمال الأدبية، لأن الأدب بحكم طبيعته الإنسانية، وبحكم علاقاته النحوية والبلاغية وبنياته المورفولوجية يستعصي ضبطه بقوانين محددة سلفاً. كما أن مقصدية المترجم تسهم في التأثير على طبيعة العمل المترجم، ولعل اختصاص مترجم في ترجمة أعمال مفكر أو أديب سيكون بسمات قد لا نجدها في أي عمل آخر. نشير هنا -على سبيل المثال- إلى ترجمات كوجيف الذي اختص في ترجمة أعمال هيغل، ومحاولته الفصل بين الأثر الهيغلي والشروحات الماركسية التي حاولت المزج بين الهيغلية والماركسية، بالاستناد إلى مرتكز أساسي. لكن إذا كان للاختصاص إيجابياته، فله أيضاً سلبياته، ونعني بذلك خضوع المترجم لسلطة المقروء، وهي ظاهرة عرفها العالم العربي في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كثرت ترجمات أعمال رولان بارت، وتودوروف وجبرارجنيت ورومان جاكسون، الشيء الذي نتج عنه تكرار ترجمات عديدة لعمل واحد، وكل ترجمة تدعي لنفسها الفرادة والتميز.

الترجمة تقتضي في الوقت نفسه خيالاً منتجاً ومبدعاً عبر المسافة الجمالية التي يخلقها النص، مع فهمنا للواقع فالترجمة لا تحاكي الواقع النصي، بقدر ما تخلق واقعاً نصياً جديداً. لتنتقل إلى ما يسميه هوسرل بـ«عالم الحياة» أو هيدغر بالوجود في العالم، على حد تعبير مارتن هيدغر.

الترجمة تستدعي تجاوز ما يسميه طه عبد الرحمن بالترجمة التحصيلة، التي تعنى بمسايرة النص المترجم حرفيا. بيد أن التفكير في فعل الترجمة قديم، ولعل الكتب المقدسة كانت الأرض الخصبة لكثير من هذه المبادرات. وبالعودة إلى العصر العباسي الذي تبوأت فيه الترجمة مكانة رفيعة، خاصة في القرنين الرابع والخامس الهجريين من خلال «بيت الحكمة» الذي يعد البداية التدشينية العلمية لفعل الترجمة. وفي السياق نفسه نجد الجاحظ قد وضع شروطاً يجب أن تتوافر في المترجم «إن المترجم الجيد – يجب أن يكون في مستوى فكري، لا يقل عن مستوى مؤلف النص الأصلي، وإن معرفته للموضوع المعني يجب أن تكون مساوية له كذلك، وبغير توافر هذه الشروط لا يمكن التأكد من عدم وقوع سوء فهم للنص، أو الاطمئنان إلى عدم ضياع المرامي الدقيقة للنص من خلال الترجمة. يجب أن يكون المترجم ضليعاً في اللغة التي يترجم عنها، مثلما يكون ضليعاً في اللغة التي يترجم إليها، والذين يمزجون بين اللغتين في كلامهم، ليسوا أهلاً للثقة لأنهم لا يتقنون أياً من اللغتين إتقاناً تاماً. ونحن نتحدث عن الترجمة في العصر العباسي لابد من ذكر حنين بن إسحاق وثابت بن قرة. إن القيام بعملية الترجمة التي تشبه «المهمة المستحيلة» في فيلم توم كروز يقتضي بالضرورة التخلص من داء النرجسية لامتلاك القدرة على رؤية الزوايا المختلفة.

الترجمة عملية نسبية وهي لا نهائية مستمرة في الزمان، إنها لا تلتصق فقط بالنص، لأن كل ترجمة تعتقد أن النص هو الأساس، ترجمة عمياء، تمارس المحو بدل الأثر. الترجمة ليست غاية، إنها ضرورة أنطولوجية مجبولة بالآلام والمتعة.

الأدب حلم والترجمة كشف لذلك الحلم، إنها محاولة للبحث عن مساحات شاسعة من أجل الحياة، ضد ما يسمى بالتفاوت الثقافي لإيديولوجية اللغة. الترجمة هي بحث عن الحقيقة، والحقيقة على حد تعبير لوكليزيو هي «أن نعرف ما يضم إنسان ما، من شقاء، من ضعف، من ثقافة هي ذي الثقافة الحقيقة. إن قراءة شكسبير، والنظر في أعمال ميزوغوشي أمر مهم أيضاً، لكن على من يقرأ شكسبير أو يرى أعمال ميزوغوشي، أن يقوم بذلك بكل جوارحه، لا اتباعاً للسنوية الثقافية». ومن ثم فالترجمة بوصفها اختياراً للطريق الطويل تقتضي الاقتراب من التصور الإنساني، والقبول بالمغامرة الصعبة التي قد تؤدي إلى موت النص، أو إلى إبداع نص جديد أو إلى الجنون. ومن يعتقد أنه نجح في ترجمة النص الأدبي نجاحاً باهراً ليس إلا مدعياً أو أفّاقاً، فالترجمة ليست صنعة ولا اختصاصاً. إنها حالة عشق تشبه عشق الفراشة لضوء الشمعة، فإن ابتعدت فقدت الوصال، وإن اقتربت احترقت. الترجمة صيرورة حلم. نتذكر قول لوكليزيو: «أحلم أحياناً بأدب لا ينتهي أبداً، بأدب يأخذ مجلسه في مكاتب البريد، ويكتب في بطء قصة العالم، وبرقياته، ورسائله المضمونة، والمطبوعات والرزم البريدية والعينات، والبيانات والفواتير والرسائل العاجلة، والرسائل الهاتفية. أحلم برواية تتشكل على هذا النحو، بدون أن نعلم، بدون أن يستطيع أحد أن يعرفها بالكامل فعلاً، حيث كل واحد يكون المؤلف، والشخصيات، والقارئ معاً. أحلم أيضاً بذلك الأدب الشامل، وأكثر أيضاً، بذلك الفن الشامل الذي ينجح في تغطية كل أنشطة الحياة كاملة، حيث العالم يصبح أخيراً تعبيره الذاتي، مغفلاً، كاملاً، وإنسانياً بشكل فائق ورائع».

الترجمة ازدهرت في فترات الرخاء، وفي أوقات الحرب على نحو ما نجد في الحروب الصليبية، ومع الحركات الاستعمارية، سواء مع حملة نابليون بونابرت على مصر، أو في المرحلة الكوليانية. لأن الترجمة لم تقتصر على فترة زمنية دون أخرى، وفي الوقت نفسه لم تكن حكراً على نوع تعبيري دون آخر، لأنها تتخذ من طموحها الجمالي والإنساني أفقها المنشود، فقد استطاعت مقابل ذلك أن تتكفل بنقل جزء من المنجز الأدبي والفني والفلسفي العربي الإسلامي إلى ضفاف أخرى.

الترجمة وإن كانت تنبني على وهم فهم النص والقبض على معناه، فـإن لهذا الوهم أو الأوهام ثمرات عديدة طالما أنها كانت ولاتزال نافذة مفتوحة على العالم، بفضلها وصلتنا أشعار الحضارات القديمة وجعلتنا ننصت إلى بورخيس وهو يتماهى في سرده مع الأثر العربي الأندلسي، وإلى خفقان قلب نيرودا وهو يبتسم في وجه بائعي الخبز، وجعلتنا نبحث عن أوجه كائنات كافكا ونتوه مع بروست بحثاً عن الزمن الضائع، ونعرف من رباعيات ميشيما سر انتحاره، ولما رأى خوزيه سراماغو الإنجيل طبقاً لرؤية المسيح.

مع الترجمة أحسسنا بإكراهات العزلة ومتاهاتها مع غارسيا ماركيز ومرارة حروب الإخوة الأعداء مع كازانتزاكي، ولذة الافتتان بالمفارقة الساخرة مع أنطونيو ماتشادو، وفرادة التصوير الشعري لفاتنات لوركا، وتفاني أراغون في عشق عيون إلزا. الترجمة حملت لنا ملامح الكتاب التشيكيين وسلطت الضوء على كونديرا وهو يبني جسور التواصل ما بين الموسيقى والفلسفة والشعر والرواية، وجعلتنا نستشعر غنائية طاغور وجمالية الهايكو الياباني وترندستالية العجائبي الإفريقي. وجعلتنا نرقص مع زوربا اليوناني لنيكوس كازانتزاكيس، وجعلتنا ندرك أهمية الحواس من أجل تذوق الوجود مع رائعة باتريك زوسكيند أقصد رواية «العطر».

الترجمة نسيان واستعادة وتأويل جمالي لما نعتقد أننا نبدعة بدعوى المصداقية والأمانة والموضوعية. ولأنها فاعلية جديدة للنص الأصلي فنحن مضطرون للمغامرة على حد تعبير بول ريكور.

*كاتب مغربي

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى