صفحات مميزةعمر قدور

إحذروا من يُنبئكم بسقوط النظام!


عمر قدور

تتداول أوساط الموالين للنظام السوري مخططات المؤامرة الكونية العظمى، بعد أن باتت تفاصيلها مكشوفة للقاصي والداني منهم، بخاصة إثر ما نسبته إحدى الصحف الرسمية السورية للصحافي الفرنسي تيري ميسان عن نية أقطاب المؤامرة إعلان سقوط النظام من المجسمات، (الديكورات) التي بنيت لهذا الغرض في الدوحة ومن ثم في الرياض. فحوى الخطة أن تسيطر المخابرات الغربية على المجال الذي تبث منه المحطات التلفزيونية الموالية، فتبث مكانها محطات عميلة مدّعية أن حشود السوريين ملأت ساحة الأمويين في دمشق، وداعمة ادّعاءها بصور مفبركة للحشود، ثم يُبث بيان تم تصويره في القصر الجمهوري يعلن عن انتصار الثورة وفرار الرئيس، وكي تكون الأخبار المفبركة مقنعة، فإن تصويرها جرى مسبقاً في المجسمات التي بُنيت على صورة الساحات الرئيسية في المدن السورية، وعلى صورة القصر الرئاسي.

لا تقول الخطة شيئاً عن كيفية تجهيز الحشود الضخمة في المجسمات، ومن المرجح قياساً إلى تأويلات مماثلة لأنصار النظام أن تتم فبركة الحشود عبر برنامج “الفوتوشوب”. فكما بات معلوماً يشكك الموالون في أي صورة أو يوتيوب يبثه الثوار بالقول إنه مفبرك على الفوتوشوب، وصار بوسع من لا يعرف هذا البرنامج تخيّل مزايا هائلة له، فهو القادر على خلق فيديوهات وحشية عن جلادين يرقصون فوق ظهور المعتقلين، وهو القادر على تدمير أحياء بأكملها من دون إطلاق أي قذيفة من الطائرات أو راجمات الصواريخ، وفي النهاية لا بد أن يكون قادراً على إسقاط نظام من دون وجود ثورة شعبية ضده! بوسع الشركة المنتجة للبرنامج أن تهنأ بالدعاية المجانية له، وأن تقدّم للموالين براءات اختراع في علم التسويق.

“لا شيء يحدث في سوريا”. وسبق لمسؤولين في النظام أن أعلنوا انتهاء “الأزمة السورية” قبل نحو عام، وبما أنهم قالوا ذلك فلا بد أنهم صادقون، ما استدعى من الموالين ترديد النبأ واختصاره بكلمة واحدة: خلصت. هذه الكلمة راحت تتردد في مجالس الموالين ومنابرهم، وصارت تُكتب على زجاج سياراتهم المختالة فرحاً، ولم يكن الأمر من باب الكذب لدى الجميع. فأغلب الظن أنهم مقتنعون تماماً بأن النظام قد تمكن من القضاء على الانتفاضة الشعبية، ولم يتبقَّ سوى بعض الجيوب الإرهابية التي تتكفل بها قوات الأمن. فضلاً عن ذلك يعلم جميع الموالين أن هذه البقايا ليست سوى مجموعات من العملاء، يحركها المال الخليجي الذي يدفع للمتظاهر نحو ثلاثين دولاراً في التظاهرة الواحدة، ولا يخلو الإمداد من مزايا إضافية كحبوب الهلوسة أو المخدرات. وقبل هذا وذاك، يتحرك المتظاهر بغرائز طائفية أصولية يترفع عنها الموالون طبعاً.

خلافاً لما قد يُظن، الموالي شخص منسجم تماماً مع قناعاته، ولا يعاني قلقاً أخلاقياً جراء ما يحدث، لأنه ببساطة لا يعتقد بحدوث ما هو خارج عن المألوف. المؤامرة الكونية الكبرى التي تُحاك اليوم هي من وجهة نظره المؤامرة نفسها التي لم تتوقف أبداً منذ ابتدأ عهد هذا النظام. ولأن النظام أثبت براعته دائماً في التصدي للمؤامرة، فمن المحتم أن نصيبها سيكون الفشل الذريع. لا يتوقف الموالي عند الآلاف من القتلى أو عشرات الآلاف من المعتقلين، فهم جميعاً يستحقون مصيرهم، وقد يغالي بعض الموالاة فيستهين بعدد الضحايا، ويرى تقصيراً من الأجهزة المسؤولة في سحق المزيد من أولئك الخونة، وإن كانت الغالبية لا تشكك أبداً في حكمة القيادة، التي تدرك جيداً المصلحة العامة العليا، وتحتفظ لنفسها بأسرار لا يجوز التساؤل عنها.

يتمتع الموالي بصلابة عالية، فهو محصن ضد الاختراق الفكري، وقد أخبره النظام سابقاً عن محاولات الغزو الثقافي، الذي يرقى بخطورته إلى مستوى الاحتلال المباشر، أو يفوقه أذى على المستوى البعيد. لذا لا تلين قناعاته أمام الحوار، وهو عموماً يمتلك الحجج التاريخية الكثيرة التي تمكنه من البرهنة على الوجود الأزلي لمؤامرة تستهدفه، وعلى استعداد ليدعم رأيه بحالات مماثلة من القمع “العادي” في بلدان أخرى لم تتعرض أنظمتها للضغط الدولي الذي يتعرض له نظامه الآن. ولأنه حريص أشد الحرص على انسجامه الفكري، تجده يتابع إعلامه الرسمي أو شبه الرسمي فقط، وتجده يثق به أشد الثقة، وإذا شاءت المصادفة أن يطلّع على غيره سيكتشف فوراً مقدار الكذب الذي يروجه الإعلام المعادي، ليغرر بعقول السذّج من السوريين.

في الطرف الآخر من المؤامرة الكونية، يؤمن الموالي بوجود إنجازات كبرى للنظام تتم التعمية عليها من الجهات المعادية، فثمة عمليات استخباراتية واسعة النطاق بلغت دس رسائل في المكتب البيضاوي للرئيس الأميركي، ما جعل الأخير يتيقن من قدرة المخابرات السورية على الوصول إلى ما تشاء. ودفعه الاختراق المذهل إلى التراجع عن مخططات التدخل العسكري المباشر في سوريا. تزامن ذلك مع عملية أمنية اقتصادية مركبة، أودت حينها بقوى الحكومة التركية؛ ذلك قبل إسقاط الطائرة التركية بأشهر. ولكي نفهم سهولة إسقاط الطائرة علينا العودة إلى العملية التقنية الأكثر تعقيداً التي تداولتها مواقع الموالين، والتي نجحت قوات النظام من خلالها بإيقاف عمل أجهزة الرادار في جميع الدول المجاورة، وحلق في أثنائها الطيران السوري فوق الأجواء الإسرائيلية لمدة ست ساعات متواصلة. هذه القدرات الذاتية المدهشة، كفيلة بالتأكيد بردع أطماع المعتدين، فكيف إذا تآزرت مع مقدرات وإنجازات للحلفاء الإقليميين والدوليين، الذين يقفون كالبنيان المرصوص خلف رأس الحربة في حلفهم؟

سيكون من السخف إذاً محاولة إقناع الموالين بقابلية النظام للسقوط، ولو على سبيل الاحتمال لا التأكيد، فكل منهم يمتلك من الحجج ما يدحض أدنى احتمال من هذا القبيل. ولو أجمعت كافة وسائل الإعلام العالمية على أن النظام قد سقط فعلاً، فذلك كما رأينا لا يعد كونه فبركة إعلامية محضة. ولأن المحطات التي تفبرك التظاهرات يومياً على الفوتوشوب، تخطط لملء الساحات بالمتظاهرين الافتراضيين فقد اتُخذت الجاهزية القصوى لعدم تصديقها، وهكذا قد يسقط النظام افتراضياً من دون أن يتمكن الأعداء من إسقاطه فعلياً، الأمر الذي لن ينطلي أبداً على أنصاره. وإذا أجمعت كل محطات التلفزة يوماً على أن النظام قد سقط فهذا لن يغير شيئاً، وحتى إن أعلنت المحطات المحلية الرسمية النبأ فهذا يعني اختراقاً تقنياً مؤقتاً من أجهزة الاستخبارات العالمية، ولا شك في أن استخبارات النظام ستعود لترد الصاع صاعين أو أكثر.

هؤلاء هم أشقاؤنا في الوطن نفسه، وهم مقتنعون تماماً بأننا على الجانب الآخر نعيش عالماً من الوهم تغذيه المؤامرة الكونية، أي أننا نحن المصابون حقاً بالانفصال عن الواقع، إذ نصدق الأوهام عن وجود ثورة شعبية، أو نصدق ما لا يقبل التصديق من إمكانية سقوط النظام، وهو احتمال ليس بوسعنا إثباته حتى إن تحقق فعلاً! لكننا، نحن المصابين بالوهم، قد نسوق الاحتمالات إلى أقصاها، فنتخيل أن النظام قد سقط من دون تصديق منهم، وأنهم سيواصلون عيشهم على المنوال ذاته، وقد تقع انتخابات ديموقراطية وتأتي بحكم جديد فيما هم متشبثون بنظامهم الذي لم يسقط بعد، وتُستنفذ حيل كثيرة لإقناعهم بالواقع المستجد بلا جدوى، وربما يستقر الرأي أخيراً على تركهم لقناعاتهم، ورأفة بهم تُخصص لهم محطات تعيد بث البرامج التي اعتادوا عليها خلال أربعة عقود، على نحو ما فعل ابن بار من أجل أمه الشيوعية في فيلم “وداعاً لينين”. سيكون لنا أكبر محمية في التاريخ لأناس يعيشون زمنهم الخاص؛ ذلك طبعاً إن لم يكن كاتب هذه السطور يعيش وهماً بوهم!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى