صفحات الثقافة

إحياء المدن السورية المدمرة يحتاج خيالاً إسمنتياً روسيا/ أليسار أرم*

هل باستطاعة الحياة أن تبعث من جديد بعد الموت؟ هل يستطيع التاريخ أن يولد مرة اخرى وينهض من رماده؟ هل باستطاعة التراث أن يعاد ترميمه؟ هل لمدينة حولت إلى حطام وباطون مذاب أن تقوم من جديد؟ هل للآثاريات أن تتواجد من دون آثار لأنها إما نهبت أو جرفت بالجرافات أو مسحت عن الوجود؟ يخيّل لي ان هنالك سباقاً محموماً لخلق مواقع أثرية حديثة في سورية، مميّزة وآية في الإبداع، صممت وشكلت بمهارة فائقة بواسطة القصف المستمر بكل أنواع الأسلحة المعروفة ما عدا النووية ويتم إيجادها تحت أنظارنا وسيستمر طالما الحرب مستمرة، موجهة أصابع الاتهام لنا، أبناء الإنسانية، لتناقضاتنا وانحلالنا الأخلاقي؟

هناك أميال وأميال منها، بقايا وهياكل وتهاويل مرعبة لمدن وبلدات سورية قضي عليها واندثرت. ولكن كل هذا الدمار يجعلني أتساءل: هل سيعاد بناء المدن القديمة التاريخية في حلب وحمص مستقبلاً كصروح من الأسمنت المسلح الذي خبرنا أهواله والذي تحتفظ ذاكرتنا الجمعية له، وستحتفظ، بكوابيس وصور مرعبة مصدرها مادة تستعمل للبناء في كل انحاء العالم على رغم انها مقدر لها ان تعاني التفسخ والانحلال الطبيعيين خلال فترة زمنية تعتبر قصيرة، حتى ولو لم تتعرض للكوارث والحروب؟

ان تحلل الإسمنت وتهافته، عند التعرض للضرب وضغط الانفجار او الاصطدامات، الى مزق ركام وانقاض تنهار فوق بعضها بعضاً اصبح الشكل والمنظر السائد لبانورامات المدن السورية البائدة، وكأن لعنة حلت بها في زماننا هذا. أفكر بحلب القديمة الرائعة التي بنيت من حجارة مكسوة، وبحمص القديمة التي شكلت من البازلت والحجر الأبيض، كما أفكر بالأسوار العتيقة والأبواب والحمامات والأسواق والأبنية المشادة بالأساليب الموروثة والمهن التقليدية المتعاقبة التي وصلت إلينا كلها عبر الأزمان في تسلسل غير منقطع حفظ في ذاكرتنا لمحات من حياة الأجداد المعششة في بيوت وأحياء عمرها مئات السنين. هل قُضِي في سورية على التاريخ الحي للمدن القديمة بفعل القوة الهمجية المكثفة لآليات الحرب والتي استخدمت بإحكام وجنون من قبل قتلة الإنسان والحضارة ؟ هل سيختفي هذا التاريخ من دون أي أثر بحيث أن علماء الآثار في المستقبل لن يجدوا إلا أكواماً بشعة رتيبة من الأطلال و الحطام والاندثار؟ أية آليات وجرافات، أية حفارات وأية رافعات ضخمة سيكون بإمكانها نقل هذا الحطام والتخلص منه؟ التخلص منه؟ ولكن كيف وأين وبكم من العقود؟

كأنني أشعر بصرحي الشخصي يتداعى إذ أغرق في مستنقع الدمار والخراب السوري بهدف توثيق خسائرنا التاريخية والثقافية والتراثية، بينما انا أحاول استحضارها كما كانت، معيدة إليها الحياة من اجل بعثها من جديد بهدف تقديم نبذة للسوريين عن ماضيهم الذي كان يعجّ بالغنى والحيوية. نعم، لقد ابتدأت القيام بهذه المهمة منذ بداية التدمير بأهواله، ناشرة الدراسات كلها في مدونتي.

وعلى رغم أن من المفترض أن أحافظ على قدر معين من عدم التحيز والموضوعية عند الشروع في توثيق و تجميع ما جرى من تدمير لمعالم تاريخية، الا اني أجد ان انتهاج الموقف الحيادي لا يتفق معي الآن. فأنا فنانة وكاتبة أسجل اختفاء تراث بلادي. أنا معنيّة، ومنغمسة وفي لب الموضوع، وبانغماسي هذا وتعمقي في اللاموضوعية هذه سأرثي جمال التصاميم والشكل والحجر المنحوت والرخام المطعم والخشب المحفور ودقة الزخارف وجودة تصميم الأقواس والواجهات والصحون والساحات. كنت في البداية أرثي الناس والأطفال. والآن أجدني أرثي ما صنعوه خلال آلاف السنين.

نعم يتمّ القضاء الآن على طبقة كاملة من الحضارات التي استضافتها سورية بأسلوب جنوني ممنهج او يكاد، و بالأخص الحضارة العربية الإسلامية، بالإضافة إلى معالم المدنية الحديثة. وعند اختفاء آثار هذه البنى السطحية مع كل معالمها وصروحها التراثية بما فيها من آثار من حضارات أقدم، عندما ستسود حالة مثالية من الاقتلاع والاجتثاث في مساحات لانهائية عامرة بالخراب والحطام، سيهرع النظام السوري، ويسارع، في حال بقائه، الى بناء عالمه الجديد الشجاع بمساعدة الروس والإيرانيين، كما خطط لذلك قبلاً ويخطط حالياً.

سيدخل المهندسون المعماريون الروس على طول الخط ليستأنفوا أساليبهم المعهودة القبيحة التي سادت في عهد الأسد الأب، ببناء كتل إسمنتية خالية من الذوق وقابلة للزوال السريع، مع فارق هذه المرة يتمثل بوجود فرصة لا حدود لها. وبهذا سيكون لسورية روسياها المصغرة التي تعج بأدغال من الإسمنت تتعالى فوق مقابر المدن السورية وبلداتها أو أريافها، بينما سيسارع الإيرانيون الذين لا يستطيعون التفاخر حتى بصرح عظيم واحد معاصر، إلى إغراق سورية بالأبنية المدجنة المبتذلة لإضافة سمات تاريخية مفتعلة إلى الأدغال الإسمنتية. وسيبزغ إلى الوجود جيل جديد من المتعاقدين والمقاولين وانتهازيي الحروب ليشكل جيشاً من مصممي ومضاربي هذا العالم الحديث الشجاع. والسؤال المطروح الآن هو هل سيكون للمشردين الفقراء المعدمين الذين فقدوا منازلهم التراثية أو أحياءهم الفقيرة مكان في هذا العالم الجديد المقدام؟

قبل أن تدهمنا حتمية إعادة البناء لخلق الأرض الموعودة من أدغال إسمنتية باطونية خالية من الروح والإبداع؛ أو قبل أن نبدأ الاعتياد على رؤية مباني ومدن سورية الميتة الهالكة، مشكّلة براري مقفرة مهجورة ، لا بد من الحديث عن بشاعات وكارثية الإسمنت والباطون، حياً او ميتاً، وقابليته للفناء غير القابل للفناء. وفي هذا السياق أود أن أقتبس المقطع التالي من مقال لأليس فرايدمان: «لماذا نحاول إعادة بناء البنية التحتية بطريقة تؤدي الى خلق المزيد من غازات الاحتباس الحراري؟ فالإسمنت يشكل المصدر الثالث الأهم في إنتاج غاز ثاني أوكسيد الكربون بعد محركات السيارات ومولدات الطاقة التي تعمل على الفحم، لأن تصنيع الإسمنت يتطلب كميات هائلة من الطاقة، أي ما يعادل 450 غرام فحم لكل 900 غرام إسمنت مصنّع، وفق إحصائيات اتحاد الفحم العالمي، إذ يسخن الحجر الكلسي بواسطة النفط المستحاثي إلى 2642 درجة فهرنهايت ما يتسبب في تكوين 7 في المئة من نسبة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون فوق الكرة الأرضية سنوياً. وفي المستقبل ستكون هناك كميات خالية من الأنقاض الإسمنتية، ماذا سيفعل سكان الأرض بحق الجحيم بـ 300 بليون طن من الإسمنت؟ بناء اسيجة وأسوار للخرفان؟»

بالطبع لم يخطر في ذهن فرايدمان عند كتابة مقالها فكرة الحروب والقصف الوحشي وصواريخ «سكود» التي قد يتعرض لها الإسمنت والحجارة على السواء. لم يخطر ببالها أنه ليس فقط مرور الزمن هو الذي يحول الإسمنت إلى مناطق كارثية من الحطام والخراب والبشاعة والمخلفات التي لا يمكن التخلص منها. لو أن الكاتبة رأت سيول مزق وأشلاء الإسمنت المتراكمة التي ورثت المدن السورية لكرست حياتها كلها للتحذير من شرور وشياطين الإسمنت الكامنة في الخفاء. أنا لست خبيرة ولكني أظن ان محاولة التخلص من او تصريف مخلفات الإسمنت في المستقبل سيشكلان وصفة لمزيد من الكوارث.

* كاتبة سورية بريطانية

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى