إذ يصبح الموت هو الآتي/روجيه عوطة
”حين يقتل النظام، يهدف، بفعله هذا، إلى تأبيد المقتول، الذي يتغير من ميت إلى مؤبد. فالموت، بالنسبة له، عبارة عن وسيلة تأبيد، وبالتالي، هو ليس موتاً بذاته. موقع بدايات“
الأبد، الصورة، الموت
جثة هامدة على الأرض. القناص يصوب فوهة بندقيته نحوها، لا كي يقتلها من جديد، بل بهدف إبعاد السوريين عنها، ومنعهم من إنقاذها. كما لو أنها هي مستقبلهم، الذي كان غير موجوداً من قبل، ولكنه، بعد اندلاع ثورتهم، ظهر متلفاً ومثقوباً بالرصاص، ورغم ذلك، ممنوع عليهم أن يوشكوا على بلوغه. فالجثة في هذا الفيديو ، اللحظات الأولى منه على وجه الدقة، هنا لا تمثل الموت، الذي يحاول القناص مضاعفة هلاكه، فحسب، بل أنها تمثل المقبل من زمن الثورة.
إذ يصبح الموت هو الآتي، وبذلك، يتغيّر معناه من نهاية إلى بداية، أو بالأحرى تستحيل نهايته بادئة، فيواجه الأبد، ويهز مساراته، ويصدع أطرافه. لكن، سرعان ما ينزع الأبد إلى مكافحته، ومن ثم اجتثاثه، عبر تدويم القتل أولاً، وإخفاء القتلى ثانياً، أي من خلال إعادتهم إلى نظامه. ففي الثورة السورية، صراع شديد بين الموت، من جهة، والأبد، من جهة أخرى. فحين يقتل النظام، يهدف، بفعله هذا، إلى تأبيد المقتول، الذي يتغير من ميت إلى مؤبد. فالموت، بالنسبة له، عبارة عن وسيلة تأبيد، وبالتالي، هو ليس موتاً بذاته.
إلا أن الثورة، لم تترك العلاقة بين النظام والموت على حالها الإستبدادية تلك، بحيث أنها سمحت للموت أن يحضر خارج الأبد، وأن ينطوي على علامات ذاتية، وعلى تمثلات خاصة به. لقد تحول من وسيلة تأبيدية إلى مرحلة ثورية، ومن رمز مقفل إلى مفر مفتوح، فما عادت الجثة السورية مخفية، ولا صاحبها مدفون، أو بلا أثر. إذ تؤدي الثورة إلى الكشف عن موت السوريين، ولهذا السبب بالذات، كان لجوؤها إلى الصورة ضرورياً، أو بنيوياً على وجه الدقة، حتى بدت، في هذه الناحية، كأنها ثورة تَمَثُل بالتوازي مع كونها ثورة واقع.
فالصورة هي الثورة أيضاً، وما الموت داخلهما إلا رجاء متبدل، و مستوى متغيِّر، لا يستقر على ظرف جامد، أو علة واحدة. ذاك، أن الثوار، المصوِّرين والمصوَّرين، يندفعون، في فيديواتهم الكثيرة، وعلى اختلاف سُبلهم، نحو كشف الواقع لصالحهم، وتحطيم نظامه الرمزي، الذي أرسته السلطات البعثية. فالتصوير البديل، الذي كان مغبشاً ومبهماً، لم يخترق حصار الإعلام الرسمي، وما يتضمن من صورة مجلوة، ومشهد منضبط، فحسب، بل أنه أطاح بمنظومة من الدلالات، التي كرسها الأبد.
بالتالي، كان التوثيق البصري للأحداث فعلاً ثورياً، حتى لو اقتصر كاميرته على تسجيل لحظات سورية عابرة. فأي لقطة، أكانت طويلة أو قصيرة، قادرة على تشنيج الأبد الصوري، لأنه مضغوط، ولا يحتمل شقاً ضئيلاً في نظامه الرمزي، الذي يسير وفق آليتين على الأقل: التجويف والإنقباض. إذ يقعّر الصورة، ومن ثم يمسكها من كل جوانبها، حتى لا تتحرك، أو تلفظ مضموناً، يشير إلى بقائها على قيد المعنى. بكلام آخر، يعدم نظام الأبد كل صورة، قبل التنكيل بها، واستخدامها كأسطورة، منقطعة عن الواقع وأحواله، من أجل إزالة موت السوريين، وتعطيل حياتهم. فالبعث لا ينتج الصور، بل الأساطير البصرية، التي لا تحضر الحياة داخلها، لأن لا وجود للموت في سردها الرمزي المغلق. المعادلة نفسها، تنسحب على الغياب والحضور، وعلى أي عنصرين، لا يتعارضان، بل يتكاملان، فيكون الأول شرط الثاني، أو جزءاً منه، والعكس صحيح أيضاً. على هذا الأساس، يتواجه النظام والثورة: معه، الأسطورة، والأبد، ومعها، الصورة، والموت.
فكيف تدور رحى هذه المواجهة على مستوى التمثل؟ وكيف انتقل الموت من الأسطورة الثابتة إلى الصورة المتحركة؟ وما هي الإشارات التي تضمنها إثر هذا الإنتقال، والتي نقع عليها في الكثير من الفيديوات المحملة على ال”يوتيوب”؟
لكن، قبل ذلك، ماذا يعني أن نصور الموت في أبد البعث؟
تظهير المؤبد
يكتب هانز بلتينغ في مؤلفه “من أجل أنتروبولوجيا للصور” (2004)، أن الصورة تجربة موتيّة، فمهما بالغت في تظهير الحياة أو الحركة، ستظل بمثابة بطاقة إنتساب إلى الموت، لا، بل أنها تكون على هذه الحال بسبب تلك المبالغة. فهي تظّهر موت موضوعها من خلال طرحها سؤالاً عن غيابه، وذلك، انطلاقاً من حضوره فيها. كما أن التصوير، بحسبما هو معروف، يثبت موضوعه في لحظة معينة، نافياً إياه من الواقع، كي يحضر في الصورة. بالتالي، فأي عنصر مصوَّر هو عنصر ميت بالضرورة، لا سيما بعد اختصار زمنه بوقت التقاط صورته، ودفنه داخل لحظة واحدة، لا قبلها ماضي، ولا بعدها مستقبل. فكل الصور تطرح إستفهاماً عن الغياب، كما لو أنها مقبرة، غالباً ما يزورها المشاهد كي يتذكر الحاضرين فيها، بوصفهم غُيَّاب.
إلا أنه في بعض الأحيان، لا يغيب الحاضرون بضرورة الصورة، بل بفعل الواقع، بحيث يجري تصوير موتهم، وتسجيل لحظاته بالكاميرا. عندها، تلتقط العدسة حدث الموت، فتنفيه، وبالتالي، تضاعفه، محولة ً الميْت لمرة واحدة، إلى ميّتٍ، يوشك على الموت، لأنه لا يتوقف عنه. في النتيجة، وبالإرتكاز إلى بلتينغ، يبدو أن تصوير الموت هو تجربة موتية موضوعها الموت، أو أنه الإنتساب إلى الموت عبر الموت نفسه، وما الصور، الناتجة عن هذه التجربة أو هذا الإنتساب، سوى نعوش تغلق على نعوش أخرى، كأنها تمثلها وتخفيها في الوقت عينه.
حين يعاين المُشاهد صورة الموت الواقعي، لا يتذكر الحاضر فيها، لأنه لم يستحيل غائباً بعد. ذاك، أن غياب الموضوع شرطاً من شروط تذكره، بالإضافة إلى أن الحضور، الذي يفرضه تصوير الموت، يبدو مهدداً، وغير مستقر، أي أنه ليس ممكناً، لكنه، ليس مستحيلاً أيضاً. على هذا المنوال، الذي يساوي بين النفي والمضاعفة، وبين الميِّت مرة واحدة والميْت باستمرار، وبين الغياب الوشيك والحضور غير المحسوم، تمثل الصورة واقعة الموت كأنها حدث حيوي، ومندفع، بسبب العلامات التي بمقدورها أن تنتجها بغاية الوصول إلى نهاية ما. مع العلم، أن صورة الموت لا تبلغ أي خاتمة، حتى لو كانت متحركة ومدتها الوقتية طويلة، كما لا تنطلق من مقدمة أو بداية، فهي تمثل صلب موضوعها، وهذا ما يؤدي إلى ازدياد حميتها، التي قد تتغير إلى شكل من أشكال الإثارة.
تصطدم صورة الموت بأسطورة الأبد، وإثر هذا الإرتطام، يحاول النظام، الذي لطالما كان راسخاً بطغيانه الرمزي، أن يكافح التصوير الموتي، ويعرقله أو يلغيه بالبطش والإغتيال. فقد عمد إلى قتل المصورين، أو اعتقالهم، بالإضافة إلى أنه نشر صور الموت الخاص به، أي المؤبد، الذي يظهر كأداة، أو سبيل وعر وغليظ، لرد الموتى، والمحيطين بهم من أحياء، أو من أموات-أحياء بالأحرى، إلى قواعد وأنساق الأبد. وبالتالي، يذعنوا، ويخضعوا من جديد، حتى يعودوا إلى زمن ما قبل الثورة، المجمد والمقسى، حيث لم يكونوا أحياء، أو أموات، بل مؤبدين. حاضرين، أو غياب، بل مؤبدين. وحيث لم يتصوروا، استناداً إلى أن التصوير تجربة موتية، بل تأسطروا، حتى أصبحت الصورة مجرد خرافة.
هز الموت المصوَّر الأبد المؤسطر، وغيره إلى ميتات مؤبدة ومتفرقة، تظهر في الفيديوات، على أنها في صراع مباشر مع الموت. ذاك أن التمثل، بوصفه غاية تصويرية، يحول الخرافة إلى صورة خرافية، والأبد إلى موت مؤبد، قبل أن يتجه المتحولان إلى مكافحة الموت، ومصوِّريه، داخل الصورة وخارجها. لقد كان التصوير ضرورة ثورية لأسباب مختلفة. أولاً، كي ينقل السوريين من خارج الواقع إلى موضع مطابق له. ثانياً، كي يظّهر موتهم، فيستردوه ويستحيلوا أموات-أحياء، أو أحياء-أموات، ومن ثم أحياء وأموات. وثالثاً، كي يشظي الأبد، ويصيّره موتاً مؤبداً داخل الصورة. وبذلك، يقدر السوريون انتهاكه وضربه في الواقع، أو في المساحات المجاورة له.
على هذا النحو، بدأ الصراع بين الموتين: الثوري، أي الذي كشفت تصويرات الثورة السورية عنه، والمؤبد، الذي من الممكن عدّه هزيمة من هزائم نظام البعث، الذي تصدعت رمزيته، وتعطلت أساطيره، حتى بدا على حاله الأصيلة، أي العنيفة للغاية، فتحول أبده إلى ميتات متفرقة. وقد تظّهر التحارب الموتي في كمِ هائل من الفيديوات، التي يستحيل تقسيمها نهائياً بحسب موتها، الثوري أو المؤبد، لأن، في كل فيديو سوري، ثمة بنية، يتعارك عليها الموتان، وتتحرك المَشاهد وفقها.
في هذا السياق، يقدر المشاهد على معاينة هذه البنية الموتية بالإستناد إلى ما يسميه جيل دولوز بـ”الخانة الشاغرة”، التي تدفع الموتين نحو بعضهما البعض، وتُبرز تزاحمهما. مع العلم أن هذه الخانة غير مرئية في أغلب الأحيان، إذ تبحث العدسة عنها في ركن من أركان المشهد المصوَّر، كأنها على اندهاش مستمر من الموت، فإما تلوذ به، في حال كان ثورياً، أو تلوذ منه، في حال كان مؤبداً. وبديهي الإشارة هنا إلى أن المضمون الموتي لكل فيديو يبدأ بالتألُّف في عين المصوِّر، الذي يسجل الموت بحسب موقفه منه، وطبعاً من الأبد ونظامه، فالفوارق جلية بين تصويرة الشبيح، أو العسكري البعثي، وتصويرة الثائر، أكان من ناحية الغاية، أو من ناحية التمثل وأشكاله.
الأسطرة المهيِّجة
من الممكن إيضاح العلاقة بين الكاميرا والموت في الفيديوات، التي تُسرب من موبايلات الشبيحة والجنود البعثيين، والتي يجري خلالها تعذيب السوريين، أو قتلهم، ومن ثم التنكيل بجثثهم. فالعدسة تتحكم بالموت كأداة يستخدمها المجرمون لإعدام معارضيهم بالتدريج، أو بالقاضية. بالتالي، تحرضهم الكاميرا على استعراض قوتهم، والإفراط في عنفهم، الذي يتحول إلى موضع طافح بالإثارة. إذ يبدو كأن ممارسته ليست سوى رغبة في ممارسته أكثر، فلا وقت آني للعنف في الصورة، بل وقت مقبل، أو بالأحرى، لا وقت له من الأساس، لأنه خارجه، فهو من أفعال الأبد البصرية، ومن مضامين الموت المؤبد.
في هذا الفيديو ، الذي يظهر فيه عدد من الجنود النظاميين في حين إعدامهم لإثنين من المعتقلين داخل أحد المباني، وبينما يلتقط المصوِّر المكان بعدسته، ينظر أحد العسكريين إلى العدسة ويلوح بيده أمامها، وثم يتبعه جندي آخر، يرتدي نظارة سوداء وقبعة شمسية، بالحركة نفسها، قبل أن يشير إلى المعتقلين الواقفين في الزاوية، وقد أخفيت وجوههم بقمصانهم. بعد قليل، يبدأ الإعدام المتصاعد، الذي ينفذه الجنديان بالسكاكين، والرجم. وهما، عندما يمارسان جريمتهما المشتركة، يفعلان ذلك كأنهما يمثلان أمام الكاميرا، التي ينظران إليها في كل مرة يؤديان حركة إعدامية جديدة. فلا يشرع أحد الجنود، الذي ينضم إليهما، بارتكاب جريمته قبل أن يحدق في الكاميرا، ملوحاً بسكينه، وهازاً رأسه إلى الأسفل أمامها، كأنه يتأكد إن كانت تتيح له المشاركة في الإعدام أم لا.
هنا، لا مناص من الإشارة إلى أن التمثيل العنفي، الذي يمارسه هؤلاء العساكر في وجه العدسة، لا يخفي واقعاً مغايراً لمحتواه، أي أنهم لا يؤدون العنف، الذي لا يؤدونه في الواقع. على العكس، هم يحولون الواقع إلى تمثيلية، حيث بمقدورهم أن يقتلوا وينكلوا أكثر. فما نظرهم إلى العدسة، وإدراكهم أنهم يتصوروا، سوى سبيل إلى مضاعفة عنفهم الواقعي، وتأبيده بالتمثيل. في هذا الفعل، تكمن خطورة الصورة، باستخدامها البعثي كأسطورة مهيِّجة، ففيها، يتواصل الموت، ويغلظ حتى يصبح ظهوره بمثابة علامة على الحاجة إليه، لا كموت، بل كأبد.
كما لو أن الكاميرا الموتية، من جانب البعث، لا تسجل إلا النهايات الدائمة، وهي، بذلك، تشبه نظامها، مؤديةً، في بعض الأحيان، دور رأسه الذي يأمر، ويطغى على كل عناصر المشهد، محركاً إياها بحسب رغبته. ففي الدقائق الأخيرة من الفيديو، يأخذ المصوِّر على عاتقه تعيين ممارسات المجرمين، داعياً إياهم إلى إنهاء التمثيلية بقتل المعتقلين بالضربات الأخيرة، ومن ثم إخفاء جثثهم. فالجريمة لم تقع. ليس بسبب تسجيلها بالكاميرا فحسب، بل لأنها تقع في كل لحظة، ولأنها، كتمثيلية، أكثر واقعية من الواقع، فهي الأسطورة، لكنها قبل ذلك، هي النظام.
لا يبقى المصوِّر خارج المشهد، بل أنه يقتحمه بوجهه، الذي غالباً ما يصوِّره بعد أن يلتقط الجثث بعدسته أو بعد أن يسجل لحظات القتل. إذ تدفع الكاميرا حاملها إلى الظهور أمامها، حتى يصبح جزءاً من موتها، الذي يتضمن العنف المتوالي كمعنى، ووجه المصوِّر كركن من أركانه. فالأخير هو مؤسطر الأبد المتقطع، وبالتالي، ما عليه سوى أن يكون حاضراً فيه، كأنه علامة من علاماته. ففي هذا الفيديو ، يصوِّر العسكري وجوه الجثث المطروحة أرضاً، قبل أن يبرم العدسة صوب وجهه، كأنه يسلم الكاميرا لشخص غيره، هو السلطة على الأرجح، التي يثبت لها أنه ينفذ تعليماتها الجرمية. هذا، بالفضل عن سبب آخر، يدعو المصوِّر إلى التقاط وجهه تصويرياً، وهو إعلان قوته، التي لا يشوبها خوف من الجثة، والتي تنطوي على أناه المؤسسية القامعة. فمهما كثر القتلى من حوله، سيظل العسكري على قيد الحضور في الصورة أو في الأسطورة، ذلك أنه لا يمثل ذاته بل السلطة، التي يعلن انتصارها على الموتى.
إذن، يؤدي العسكري، أو الشبيح، الذي يحضر وراء الكاميرا، دور السلطة البعثية في بنية الصورة، التي سرعان ما يحولها، بأوامره ووجهه إلى أسطورة. فيصير الموت أبداً من جديد، قبل أن يدخل أجساد المعتقلين بعنف الذبح أو التهشيم أوالتنكيل أو الحرق إلخ. في هذه الناحية، تظهر هذه الأفعال كأنها مضادة للصورة، إذ تعطل التصوير، من أجل استعماله في تأبيد الموت، الذي يصيّر المشهد بلا غياب أو حضور. فالجثة تبدو بلا ميِّتها، بالإضافة إلى تظهيرها كأنها مفصولة، في لحظة ما، عن صاحبها. تماماً، كما هي الحال، في الكثير من الفيديوات، التي يتعرض المعتقل فيها إلى التعذيب تحت تكرار أسماء المقتولين في صفوف معذبيه البعثيين. فيشرع الجندي في ضربه أو رجمه بالإستناد إلى مقتل رفاقه في الجيش، كأنه يتواصل مع هؤلاء من خلال الجثة. وللتصوير دوراً في إثارة الإستفهام عن الغائب من جهة السلطة، الذي لا يتذكره جنودها سوى في وقت التعذيب، وبالتالي، يحاولون إعادته إلى نظامهم عبر نفي عدوه. ومن الممكن سحب القاعدة نفسها على الجثة، التي يحاول العساكر إعادتها إلى الأبد بتمويتها أولاً، وبتأكيد غيابها ثانياً، كما أنها لم تكن البتة.
هذا ما يشدد العنف أمام العدسة، التي، مثلما تحرض على الإستعراض والتمثيل، تدفع القاتل إلى إزالة جريمته بجريمة ثانية، أي أنها تحضّه على نفي الموت بموت آخر. تماماً، مثل الجندي الذي يظهر مطلقاً الرصاص على الجثة حتى بعد تأكده من موتها، إذ يحاول الإنتقال منها إلى الأبد، من أجل التخلص منها ومن الموت الذي تدل عليه، أو الذي تحويه بالأحرى. في النتيجة، يبدو أن الجنود، ولأنهم يسعون إلى رد الواقع إلى مرحلة ما قبل الثورة، يمثلون أمام الكاميرا لغاية أساس: الإنتهاء من الموت، ومكامنه، بالعنف الموجه ضده، والمؤبد له. وذلك، بالتوازي مع محو الصورة بأسطرتها. فالتصوير البعثي ضد الموت وضد الصورة.
ملاقاة خالية
في المقابل، ثمة صورة مخالفة للأسطرة البعثية، إذ تحاول تخليص الموت من الأبد، ومواجهته على بنيتها. وقد شرع السوريون في التقاطها عند اصطدامهم بقوة النظام، بحيث يسجلون اللحظات الفتاكة، التي لا تفصل بين الحياة والموت، بل بين الموت والموت المؤبد. ذاك أن عدساتهم تبدو كأنها تبحث في كل فيديو عن “الخانة الشاغرة” بين الموتين، وغالباً ما تقع عليها في المكان، الذي يقف المصوِّر فيه. فمن المستحيل أن يلتقط الأخير مشاهده من جانب الأبد، كما لا يقدر على التقاطها من جانب الحدث، أي الموت، بالتالي، يستمر في البحث عن زاويته الخالية من موضوع التصوير، الذي لا يشكل جزءاً منه.
فعلى خلاف الحال في الفيديو البعثي، يندر حضور وجه المصوِّر في المشهد، وهذا لا يعني أنه على حياد منه، بل أنه يصنع ذاته حتى يتمكن من التفاعل مع الموضوعين المتحاربين في الصورة، فيشهد على الموت بلا وجهه، ويرصد الأبد بكاميرته. يدرك المصوِّر أن الأبد قد يبتلع وجهه، ويحوله إلى مصدر خطر، أكان على مستوى المشهد، من خلال الجمع القاسي بينه وبين الجثة مثلاً، أو في الواقع، عبر استعماله كبصمة، قد تؤدي إلى اعتقال صاحبه.
يُضاف إلى هذه خشية، أن المصوِّر لا يستعرض بل يوثق، ولا يبرز قوته أو يمثل سلطةً ما. على العكس، هو يسعى إلى تمثيل ذاته بذاته، ومن ثم المشاركة في إنقاذ الواقع من النظام. على هذا الأساس، يبدو أن التصوير لا يساعد السوريين على إلتقاط مواضيعهم، أو توثيقها فحسب، بل يتيح لهم أن يخلقوا ذواتهم، التي ينطلقون منها لحسم مواقفهم من هذا الحدث الموتي أو ذاك.
فكلما يتوارى المصوِّر خلف الكاميرا، يصبح حاضراً أكثر في المشهد، لأنه يسجل الواقعة، أو بالأحرى يظّهرها. فمرة ً يسحب الجثث، ومرات يبدو مقاتلاً، وحيناً يكون معز، وأحياناً طبيب. لكنه، لا يحضر على حاله الأساس، أي كمصوِّر، سوى أمام مشهد الإحتضار، الذي تلتقطه العدسة من دون أن تتدخل به، خصوصاً أنه ينطوي على فعل شبيه بالتصوير إلى حد بعيد. ذاك أن المحتضر ليس موجوداً في الحياة، لكنه ليس غائباً. وبهذه الحال، هو يشبه المصوَّر، الذي لا يحضر في الواقع، لكنه ليس غائباً أيضاً.
بالتالي، لا يحضر الإثنان إلا من خلال التمثل، أي أن الإحتضار يمثل الموت، مثلما التصوير يمثل الواقع. لهذا السبب، يلتقي التصوير بمساويه، فلا يستطيع المصوِّر أن يكون موضوعه، ولا أن يقدم على موقف آخر غير المعاينة، فالمحتضر مصوَّر بالضرورة، ولا داعي لتصويره من جديد. تماماً، مثلما يحصل في هذا الفيديو ، حيث تعود الكاميرا إلى تسجيلها الخالص إبان حدث خفيف بسبب شدته. قد يكون تأطير وجه المحتضر، على الطريقة المعتمدة في الفيديو، السبيل الأكثر ملائمة للحدث. فهذا الوجه الذي يلفظ حضوره ولا يغيب، هو مركز الصورة ومحورها ولا حاجة إلى تصويره كجزء من مشهد واسع، لأنه هو الغاية من كل مشهد، وهو موجز الثورة…هو الذات، التي أرداها الأبد قتيلة ً ومغسولة بالدماء.
أما في المجزرة، حيث تتكاثر الجثث من حول العدسة، فغالباً ما تكون الصورة ضيقة على الموت، الذي يتمدد بدوره إلى خارجها، نحو عيون المشاهدين ويضربها بقسوة، لتصير كاميرات أيضاً. وذاك، ليس من أجل معاينة الصور الحاضرة أمامها، بل كي تتفقد واقعها، مصوّرةً إياه، بغاية طرد الأبد منه، والإحتماء من القتل المداهم. وبالنسبة للمصوِّر، فأحياناً، لا يعتمد على كاميرته من أجل تعيين الكارثة، بل يركن إلى أصابع يده، للإشارة إلى رأس هذه الجثة، وعضو من أعضاء تلك المحروقة. كما لو أن التصوير قد خسر قدرته على مشابهة الواقع أو تمثيله بصرياً. فسانده جسد المصوِّر، الذي يوجه العدسة بإشارة من أصبعه، ويقربها نحو الجثث، وبالتالي عيون المشاهدين بالطريقة نفسها. بهذا الفعل، لا تلتقي الكاميرا مع الموت فحسب، بل جسم المصوِّر أيضاً، الذي لا تعود “خانته شاغرة”، على حالها السابقة، بل تطوف بما تفرزه أجساد المقتولين من صوِّر. ففي المجزرة، تتزحزح بنية الصورة، حيث يتغلب الأبد على الموت، فإما يغادرها المصوِّر بالكامل، أو يستعين بجسده كي يستمر في تصويره، وتسجيل الواقع العنيف.
وقد يصادف الأبد الموت في “الخانة الشاغرة”، بلا أن تحسم بنية الصورة لصالح أي منهما. عندها، تواجه العدسة الأداة التأبيدية، كالسلاح أو جسم العسكري إلخ. فيظهر المصوِّر كأنه يحمي ذاته من جهة، ويدافع عن الموت من جهة أخرى، وبذلك، تتضح العلاقة بينهما وبين الثورة، إذ يندلعوا جميعهم في وجه النظام، الذي يحاول نفي المصوِّر، لإيقاف تمويت أبده، بالتوازي، مع إقتلاع الثورة. فحين يتلاقى المصوِّر مع القناص، في الفيديو الشهير ، لا يعود السؤال عن مصير الأول ضرورياً بعد انطفاء الصورة برصاص الثاني، لا سيما أن هذه الحال تسهل على النظام الوصول إلى المصوِّر من جديد، وقتله بدون أن يكون فعله مسجل. فلا كاميرا تصوِّر الآن، وهذا يعني أن المعركة محسومة لصالح الأبد. من هذه الناحية، لا فارق بين هذا الفيديو وواحد آخر ، يلقى خلاله الشاب أحمد ضحيك حتفه، بينما كان يصوِّر الدبابات. إذ أن غياب الصورة يساوي بين الموت والبقاء على قيد الحياة، فمن الممكن أن يكون مصوِّر القناص ميت، ومن الممكن أن يكون حياً، لكن ومهما كان المرجح، فلا قيمة له في سياق العلاقة بين الصورة والأبد، خصوصاً أن الأولى انتهت، أي أن الثاني هو مَن ابتلعها.
خلاصة القول، أن العلاقة بين الثورة والصورة والموت، يشير إليها فيديو الجثة الهامدة، الذي يمنع رصاص القناص إقتراب السوريين منها. إذ سرعان ما يكتشف المشاهد أن صاحب الجثة لا يزال على قيد الحياة، أي أنه يتظاهر بالموت أمام النظام، كي لا يصوب العسكري بندقيته نحوه ويقتله. لذا، يقف الشاب من جديد، ويركض بهدف الإختباء….لكن، الرصاص يطاله، ويرميه بدمائه على الأرض.
لقد تظاهر بالموت كي لا يموت، ساعده المصوِّر في ذلك، غير أنه عاد ومات. وفي كل هذه الأحوال الثلاثة، تغلب المقتول على القاتل، فالصورة لم تنطفئ، ولم تستسلم للنظام. مات الشاب، فأسقط الأبد، وظّهر الموت. بعد فترة، سيخرج السوريون من الفيديو إلى الواقع، وسيتحول المتظاهر المقتول إلى ذكرى سوري شجاع، فلن يبقَ على حاجته نفسها إلى الموت المتمثل، وإلى الصورة.
تم كتابة المقال لمؤسسة بدايات ضمن سلسلة مقالات ستنشر تباعاً عن مواضيع مرتبطة بالثورة السورية وعلاقتها بالصورة.
موقع بدايات