إرهاب إسلاميين والإرهاب اليساري … مقاربة ومفارقات/ أكرم البني
لم تعد تجدي بيانات التنديد والإدانة لمجزرة نيس الفرنسية، ولغيرها من الضربات الإرهابية، ما دامت التبريرات تتكرر عن دوافع الإرهاب، وتلك التلميحات التي تشيد بشجاعة الإرهابيين وتشي بقدر من التشفّي بالطرف الذي تعرّض للإرهاب، أكان سلطة ظالمة أو عدواً خارجياً، فكيف الحال عندما تسمع من يعيب على العرب رفضهم إرهاب إسلاميين وهم الذين ساندوا الإرهاب اليساري في ستينات القرن المنصرم، ويلومهم على ازدراء ما تقوم به جماعات «القاعدة» و «داعش» و «بوكو حرام» و «حماس» وأخواتها، وقد تعاطفوا، في ما مضى، مع إرهاب بعض الفصائل الفلسطينية اليسارية والجيش الأحمر الياباني وبادر ماينوهوف والألوية الحمراء وغيرهم.
صحيح أن الإرهابين «الإسلاموي» واليساري يتقاربان، مرة أولى، كفعلين سياسيين يتوسلان السلاح والعنف لبثّ الرعب والفزع في المجتمع، ولإرهاب عدو مفترض، على أمل كسر شوكته وتأليب الرأي العام ضده، ومرة ثانية بشموليتهما، وبأنهما عابران للأوطان والأمم، حيث يتوسل الإرهاب اليساري المسألة الطبقية في مواجهة الإمبريالية وركائزها أينما كانت، بينما يغدو العالم الكافر بأسره ميداناً للإرهاب «الجهادي»، ومرة ثالثة باعتمادهما المنهج ذاته الذي يضع الإرادة والرغبات الذاتية فوق الظروف الموضوعية.
في المقابل، تتضح ثلاث مفارقات بين الإرهاب اليساري المتشدد والإرهاب «الجهادي»، تتعلق بتباين الغايات وطبيعة التكوين وشروط النشأة والمآل.
أولاً، يرتبط نشوء الإرهاب اليساري بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية حافزة، أساسها الفقر والتخلف والقمع والفساد وانسداد أفق العمل السياسي، أكثر مما يرتبط بالنصوص والأفكار، بل تم تأويل اليسير من النصوص الماركسية التأسيسية المشجعة على العنف وتسخيرها لدعم فكرة الإرهاب، بخاصة عبارة فريدريك أنغلز الشهيرة، أن العنف الثوري هو مولدة التاريخ!. لتشهد ستينات القرن المنصرم وسبعيناته، اندفاع نخب من الشباب المتحمس الرافض القهر والاضطهاد السلطويين والسياسات الشيوعية التقليدية واستئثار الأجنبي وظلمه، إلى الكفاح المسلّح لنصرة الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي، وتحولت قصص صمود هؤلاء المناضلين وصدق تضحياتهم مادة ملهمة لغيرهم من أجل تعميم هذا الخيار.
والحال، إن التغيير الديموقراطي وفتح أفق الحقل السياسي كفيلان بإضعاف فرص نمو الإرهاب اليساري، إن لم يشكلا عاملاً مشجعاً لتخلّي اليسار المتشدّد عن السلاح، وخير مثل ما حصل في أميركا اللاتينية، حيث عدلت منظمات يسارية نهجها العنفي وأوقفت القتال مع بداية التحول الديموقراطي في التسعينات، ثم شاركت قياداتها وكوادرها في إدارة السلطة ومؤسسات الدولة.
على العكس، لا يهتم العنف الديني المسلح بالحقل السياسي والتغيير الديموقراطي بل يعاديهما، ما دام يستند إلى الفكر والنصوص، وإلى اجتهادات فقهية متطرفة لمقاصد الدين تحض على التمرد والعنف، كمصدر رئيس لتسويغ حضوره وتجدده، أكثر من استناده إلى بيئة سياسية واجتماعية محرضة، زاد الأمر وضوحاً وفرة النصوص الدينية وقدسيتها، التي يزعم العنف «الجهادي» أنها تسوّغ أفعاله، مقارنة بالنصوص ذات المرجعية الماركسية، الأمر الذي يعني أن المواجهة الناجعة للإرهاب الإسلاموي تحتاج فضلاً عن ضرورة التحول الديموقراطي، إلى معركة فكرية مديدة، ولنقل إلى إصلاح ديني، عنوانه فصل الدين عن الدولة، والتأسيس لعلاقة مستقرة بين الإسلام والحداثة تزيل الكثير من الالتباسات والمفاهيم المغلوطة التي لا تزال تتحكم بعقول المؤمنين.
ثانياً، يعتبر الإرهاب اليساري من التجارب المهمة والنوعية الدالة إلى نوع العنف الملتزم عدم استهداف المدنيين، ليس فقط لأن عدوه السياسي واضح برمـــوزه وركــــائزه ويجب استهدافها أساساً، وإنما أيضاً لأن غالبية الجماعات اليسارية المتشـــددة تعــــي أن حرب العصابات الثورية والعمليات الإرهابية لا يمكن أن تثمر من دون حاضنـــة مجتمعيـــة، كاشفة عن ميل عام نحو الاهتمام الجدي بعلاقاتها مع الناس واحترام حيواتهم وأمنهم وحاجاتهم.
أما العنف الجهادي «الإسلاموي» فلا يقيم وزناً لحياة البشر ما دام يقسم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الشر والكفر وفسطاط الخير والإيمان، مسوغاً لنفسه استخدام ما يحلو له من فتك وقتل وتعذيب ضد دار الكفر والشر، تحدوه أكثر التفسيرات الفقهية غلواً، والتي لم تكتف بالدعوة الى الجهاد ضد السلطات الظالمة، وإنما شملت أيضاً التيارات الإسلامية السياسية، مكفّرة قادتها وفقهاءها، ثم المجتمعات ككل، وداعية الى إذاقتها المر والعذاب تمهيداً لفتحها وإرساء دولة «الخلافة» فيها.
ثالثاً، تقدمية الإرهاب اليساري الذي يوظف العنف لتجاوز أزمات المجتمع نحو الأمام تاريخياً، نحو مجتمع العدالة والحرية والمساواة، بينما تتميز جماعات الإرهاب «الجهادي» برجعيتها وبسعيها الفكري والعملي إلى جر المجتمعات إلى وراء، وإلى نمط حياة متخلف واستبدادي، يعود الى أزمان غابرة، رافضة مجاراة تنامي حاجات الإنسان ومعطيات الحضارة العالمية.
والقصد أن اليساري المتشدد، ينظر إلى العمل الإرهابي من خلال فكرة التحرر، ويعتبر نضاله سبيلاً إلى خلاص البشرية من القهر، والظلم، والاستغلال، وطريقاً إلى حياة أفضل لن ينعم بها هو، لكنه لا ينتظر مقابلاً شخصياً لأعظم تضحية يقدمها، وهي التضحية بحياته، معتقداً أن في الحياة ما يستحق الموت، وأن عالماً أكثر عدالة للأجيال المقبلة يمكن أن يولد على هذه الأرض.
في المقابل، يرتبط العمل الإرهابي لدى تنظيمات العنف الديني بفكرة خلاص مزدوج، إن بصفته وسيلة لاستعادة «الخلافة» وتطبــيق الشريعة كسبيل إلى الحق المطلق، وإن بـخـلاص الإرهابي نفسه من آثام الدنيا، وانتـقاله بما يعتبره شهادة، إلى مراتب الفردوس الأعلى، متخلصاً من حياة مرذولة ومرفوضة، لا تستحق في رأيه أن تعاش.
والحال، أن كثيراً من اللوم في ما وصلنا إليه، يقع على تأخرنا في بناء خطاب يعيد الاعتبار الى جوهر الإسلام الحقيقي، أخلاقياً وحضارياً، ويعلي من قيمة الإنسان وحقوقه بصفته الأرقى والأنبل في دنيانا، ويعري تالياً، كل من يختبئ وراء المظالم أو النصوص لتسويغ الأعمال الإرهابية وتبريرها، فليس ثمة إرهاب مشروع وآخر غير مشروع. الإرهاب واحد وهو مدان ومرفوض مهما كان صنفه ومهما سمت أهدافه!
الحياة