إصلاحية بشار: رئيس بلا مشروع سياسي
غسان الإمام
ما هو المشروع السياسي؟
لكل دولة حديثة، كبرى أو متوسطة، منهج عريض في خطوطه العامة، تطبقه في سياستها الخارجية. أو ممارستها الداخلية. الأحزاب التي تتداول السلطة، تلتزم بهذا المشروع السياسي، مع تعديلات جانبية لا تمس جوهره، إلا إذا طرأ تغيير ثوري. أو آيديولوجي. مشروع أردوغان السياسي أدار تركيا نحو المشرق العربي سياسيا واقتصاديا. وعمق الديمقراطية، بالحد من تدخل الجيش في السياسة، وبمكافحة الفساد.
حتى في الدولة الديكتاتورية (ألمانيا النازية. إيطاليا الفاشية. إسبانيا الكتائبية)، كان هناك مشروع سياسي محدد. وواضح الملامح. تحت حكم الثالوث (الأب. الابن. الطائفة)، فسوريا دولة معاصرة. لكن ليست عصرية. أو حداثية.
مع ذلك، كان هناك مشروع سياسي للأب غير معلن، إلا أنه انكشف بالممارسة مع الوقت: تمكين الطائفة من إقامة نظام سلطوي يبتلع الدولة، في غمرة إطلاق شعارات قومية. شعارات مسيلة للدموع. فهي تتناقض كليا مع تحالفاته مع إيران وامتداداتها في لبنان.
في نظام يبتلع الدولة، يتحتم على حاكمها أن يكون له مشروعه السياسي الذي يفرضه على الدولة المغيبة. هل امتلك الوريث السعيد مشروعا سياسيا؟ أبدا! في ضآلة ثقافته الاجتماعية، لم يكن بشار ينطوي على رؤية متكاملة، تنتج مشروعا سياسيا يختلف، بحكم الظروف، عن مشروع أبيه السلطوي/ الطائفي الذي استمر أكثر من ثلاثين سنة.
كانت وفاة الأب (2000) فرصة نادرة للوريث الشاب، للتغيير. بدلا من ذلك، فقد قال فورا إنه «لا يحمل عصا سحرية» و«ليس آتيا لنسف الواقع»! تحدث عن طرح «أفكار جديدة»، و«تطوير أفكار قديمة». كان عليه هو شخصيا، كرئيس، أن يصوغ هذه الأفكار ويطورها، في إطار مشروع سياسي محدد. واضح. ومفصل، يطرحه للتداول والحوار. ثم للاستفتاء، كما فعل ملك المغرب محمد السادس، أخيرا.
مع الاستدارة نحو قرن جديد، كان الوعي السياسي في سوريا قد تطور. بادر دعاة المجتمع المدني، من ليبراليين ويساريين، إلى طرح «أفكار جديدة». فأدخلهم الرئيس الجديد سجونا لها باب دوار. دخلوا وخرجوا على مدى عشر سنوات. ضرب المعارضة الليبرالية أدى إلى ازدهار المدارس السلفية. رد الرئيس بالتقوى والتقية، صلوات رئاسية وابتهالات في المساجد، بمباركة المرجعية السنية التقليدية.
في غياب المشروع السياسي، توجهت أصابع الاتهام إلى حزب السلطة بالمسؤولية عن الجمود. فانعقد المؤتمر العاشر للحزب (2005) تحت شعار «رؤية متجددة، فكر يتسع للجميع». خرج الحزب – من المعمعة سالما. واتخذ قرارات أعرض هنا ما نفذ منها، وما لم ينفذ:
استقلال القضاء (لم يحدث). مكافحة الفساد (لم يحدث). قانون الانتخابات (لم يحدث). قانون الإعلام (لم يحدث). قانون الإدارة المحلية (لم يحدث). إلغاء الطوارئ (ألغيت خلال الانتفاضة، مع تهديد بشار باختراع قوانين بديلة تعويضا عنها). اعتبار المواطنة أساس العلاقة مع الدولة والمجتمع (لم يحدث). حل مشكلة البطالة (لم يحدث). قانون للأحزاب (نشرت قبل أيام مسودة له على استحياء في موقع النظام على الإنترنت). تكريس اقتصاد السوق الاجتماعي (حدث). مع الإبقاء على «الاشتراكية» في شعار الحزب.
وهكذا، انتهت «الرؤية المتجددة» بتأكيد بشار، في نهاية المؤتمر، بالإبقاء على دور الحزب «كقائد للدولة والمجتمع». ثم بالإعلان عن أن «الأولوية» هي لاقتصاد السوق الاجتماعي. وقد تحدثت بإسهاب سابقا عن فشل تطبيق ليبرالية سورية، بلا قلب. وبلا عدل.
في إلغاء السياسة وحرية الصحافة، ومع صمت برلمان يصفق. ولا يصفر ولا يحاسب، ازدهر الفساد (عمولات. خوّات. رشاوى. تجاوزات لرجال البزنس حلفاء البطانة العائلية).
هناك تقديرات لخبراء اقتصاديين سوريين تفيد بأن سبعين ليرة سورية تذهب إلى مؤسسات نظام الطائفة (الحزب. الأمن. الجيش. الرئاسة) من أصل كل مائة ليرة يدفعها المواطن كضريبة. تبقى ثلاثون ليرة فقط للتنمية. للتربية. للصحة. للمدرسة. للأجور. للكهرباء. للمياه. للبنى الأساسية. مع ذلك، ما زال الرئيس يصر علنا على أن مكافحة الفساد «يجب أن تتم من خلال المؤسسات (العاجزة)، وليس من خلال محاسبة الأشخاص»!
بعد هياط ومياط، وشفاعة من أوروبا. وأميركا. وتركيا، أخرجت النظام من عزلته التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، كانت راحة البال فرصة ذهبية أخرى، للإعلان عن مشروع سياسي، يفتح سوريا على عصر الحداثة.
بدلا من ذلك، أعلن بشار أن لا مصالحة مع المعارضة (كل من يفتح فمه في الداخل، فهو عميل للخارج). ثم قلد مسيرة أبيه بالقول «إن الأمن والاستقرار أولا»! وبالفعل، تم تعزيز الأجهزة الأمنية، ورفدها بضباط أقرباء أو مقربين من الرئيس.
راح دق الصدور والطبول يتعالى في «أفراح» الخروج من العزلة الخارجية. باتت المزايدة على «عرب الاعتدال»، تملقا وكسبا للشارع العربي، بشعارات المقاومة. والممانعة، بحيث غدت هراوة للضغط والتهديد في الداخل، بعدما برزت مقدمات الانتفاضة الشعبية: استفحال التضخم. البطالة. البؤس. التذمر. الإهانة والمهانة. إهمال الريف. سوء التطبيق الزراعي الذي هجر نحو مليون فلاح ومزارع، إلى أحزمة البؤس التي تزنر المدن.
النظام العربي تمكن، بالملاينة والمسايرة والردع، من استيعاب انتفاضات تونس. مصر. البحرين. لماذا بشار لم يتمكن. ولم يعرف؟! لأنه أسير نظامه. وأجهزته. وطائفته. وبطانته. واحتكاره للمسؤولية من دون مشاورة. لا يدرك بشار أن شرعية الحزب قد انتهت. هناك اليوم شرعية جديدة. شرعية انتفاضة تعمدت بالدماء. مع ذلك، لم يطرح بشار مشروعا سياسيا متكاملا، ينهي كل التناقضات. والألغاز.
ما زال بشار يطرح أفكارا عامة. بلا تحديد. بلا عناوين. بلا تفاصيل. وعود بلا التزام بعهود. يؤلف. ويفض لجانا. يشكل هيئة للحوار. حوار على ماذا؟ لا جواب. عشر سنوات من المراوحة في المكان. عشر سنوات من كلام مكرر، عن قوانين لم تصدر.
ما كان مقبولا، أمس، غدا مرفوضا اليوم. بصراحة، السوريون يريدون أحزابا حرة. لا استئصال. ولا اجتثاث للبعث. إنما حزب ديمقراطي. منفتح. ينافس أحزابا مماثلة في انتخابات حرة. السوريون يريدون جيشا للوطن. لا للطائفة. ولا للعائلة. يريدون ميزانية فيها أرقام حقيقية، لمعرفة ماذا تنفق الرئاسة. والأجهزة. والحكومة. والقوات المسلحة.
في رفض المعارضة لحوار غامض، وفي غياب مشروع سياسي محدد، تنفتح سوريا على احتمالات خطيرة: حرب أهلية. اشتباكات طائفية. صراعات طبقية بين برجوازية بازارية حليفة لبطانة مستغلة، وطبقة فقيرة في قاع المدن. وأحزمة البؤس. وفي ريف مهمل. جائع. غاضب.
في حروب كهذه، يصبح التدخل الخارجي احتمالا كبيرا. تركيا تهدد باحتلال أراض سورية حدودية، لإقامة منطقة عازلة، بحجة إيواء مئات ألوف السوريين الهاربين من الفوضى.
وليد المعلم الذي شطب أوروبا من الخريطة، ربما لا يعرف أن تركيا (ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو، بعد ألمانيا) باتت مفتاح أوروبا وأميركا، لحل الإشكالية السورية المعقدة.
الشرق الأوسط